فصل: القسم الأول: ولايات وظائف الديار المصرية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.المقصد الثالث في بيان وضع كيفية ما يكتب في هذه الولايات في الورق:

ويتعلق به عشرة أمور:
الأمر الأول- الطرة، وهي في اصطلاحهم عبارة عن طرف الدرج من أعلاه، ثم أطلقوه على ما يكتب في رأس الدرج مجازاً، تسمية للشيء باسم محله.
قلت: وليس صحيحاً من حيث اللغة، فإنه في الأصل مأخوذ من طرة الثوب. وقد ذكر الجوهري وغيره أن طرة الثوب هي طرفه الذي لا هدب فيه، والذي لا هدب فيه من الثوب هو حاشيتاه، بخلاف أعلاه وأسفله. نعم يجوز أن تكون مأخوذة من الطر بمعنى القطع، لأن الطرة مقتطعة عن كتابة المتن، يفصل بينهما بياض، ومنه سمي الشعر المرسل على الصدغ طرة. وقد جرت العادة في كل ما يكتب له طرة أن يكتب في أعلى الدرج في الوسط بقلم الرقاع بكل حالٍ ما صورته الاسم الشريف ثم ثكتب الطرة تلو ذلك من أول عرض الدرج إلى آخره، دون هامش عن يمين ولا شمال: بحيث تكون أطراف المنتصبات من أول السطر الأول ملاصقة لأسفل ماكتب في أعلى الدرج مما تقدم ذكره. ويأتي بالطرة المناسبة: من تقليدٍ، أو مرسومٍ، أو تفويضٍ، أو توقيع، بالقلم المناسب لمقدار قطع ذلك الورق على ما تقدم بيانه، ويأتي على مايكتب في الطرة على ماتقتضيه الحال، على ماسبق ذكره إلى أن ينتهي إلى آخره؛ فإن انتهى في أثناء سطرٍ، ترك باقيه بياضاً، وكتب في آخره على ماشرح فيه بحيث يوافي آخر ذلك السطر، وإن انتهى مايكتب في الطرة في آخر السطر، كتب تحت ذلك السطر على حيال آخره على ماشرح فيه كما تقدم، لايختلف الحال في ذلك في مكتوب ولاية، إلا فيما يكتب على ظهور القصص، فإن العادة جرت فيه أن لايكون له طرة، ولايكتب في أعلاه الاسم الشريف: لأنه قد علم أنه لايكتب فيه إلا الاسم الشريف، فلم يحتج إلى تنبيهٍ على ذلك.
الأمر الثاني- البسملة الشريفة. ومن شأنها أن تكتب في أول كل ولاية لها شأن، عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: كل أمر ذي بال لايبدأ فيه بحمد الله فهو أجذم يعني ناقص البركة، ومحلها من كتب الولايات في أول الوصل الرابع بعد أوصال البياض. أما مالابال له من كتب الولايات: كالتواقيع التي على ظهور القصص وماهو منها على صورة أوراق الطريق، فقد جرى الاصطلاح على أنه لايكتب في أولها بسملة أصلاً، بل تفتتح برسم بالأمر الشرف.
قلت: وقد كان القاضي علاء الدين علي الكركي حين ولي كتابة السر الشريف بالديار المصرية في أول سلطنة الظاهر برقوقٍ الثانية أمر أن تكتب في أول هذه التواقيع بسملة لطيفة المقدار، طلباً للتبرك؛ ثم ترك ذلك بعد موته وانتقال الوظيفة إلأى غيره. ولايخفى أن ماعليه الاصطلاح هو الوجه: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد قيد مايبدأ بالبسملة بما يكون له بال من الأمور، ومقتضاه أن مالابال له لايبدأ فيه ببسملة. على أنه قد كان أمر أن تجعل البسملة قبل قوله رسم بالأمر الشريف ومقتضى ذلك أن تقع العلامة فوق البسملة، وفيه مالا يخفى، بخلاف غيره من الولايات الكبار فإن العلامة تكون فيها تحت السطر الثاني من البسملة، على ماسيأتي بيانه.
الأمر الثالث- الافتتاح الذي يلي البسملة. وقد علمت مما تقدم أن الذي استقر عليه افتتاح كتب الولايات على اختلافها من أعلى وأدنى لايخرج عن ثلاثة أصناف:
أحدها- الافتتاح بالحمد لله، وهو أعلاها. ثم تختلف رتبته بعد ذلك باختلاف مايكتب فيه من مقادير قطع الورق: إذ هو تارة تفتتح به التقاليد، وتارة تفتتح به المراسيم المكبرة، وتارة تفتتح به التفاويض، وتارة تفتتح به كبار التواقيع.
الثاني- الافتتاح بأما بعد حمد لله؛ وهو المرتبة الثانية من المراسيم المكبرة، والتواقيع الكبار؛ وتكون في قطع الثلث تارةً، وفي قطع العادة المنصوري أخرى.
الثالث- الافتتاح برسم بالأمر الشريف؛ وهو المرتبة الثلثة من المراسيم والتواقيع، وهي أدنى رتبها. وتكون في قطع العادة الصغير، وربما كتب بها في قطع العادة المنصوري.
الأمر الرابع- البعدية فيما يفتتح فيه بالحمد لله، وهو على ضربين: الأول- أن يقال بعد التحميد والتشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: أما بعد، وهو الأعلى. وتكون في التقاليد خاصة.
الثاني- وبعد، وهي دون أما بعد. وتكون في التفاويض وكبار المراسيم والتواقيع. وقد مر القول على ذلك مستوفى في الكلام على الفواتح في المقالة الثالثة.
الأمر الخامس- وصف المتولي بما يناسب مقامه ومقام الولاية من المدح والتقريظ. وقد مر القول على ذلك في المقصد الأول من هذا الطرف في الكلام على مقدمات الولايات.
الأمر السادس- الألقاب المختصة بصاحب الولاية. قد تقدم أنه يذكر في الطرة بعض الألقاب التابعة للقب الأصلي: من المقر والجناب وغيرهما، مع التصريح باسم المولى والدعاء له بما يناسبه، على ماتقدم بيانه هناك. أما في أثناء الولاية، فإنه يستوعب جميع ألقابه ويعاد ذكر الألقاب مستوفى في المقصد الأول من هذا الفصل في الكلام على مقدمات الولايات.
الأمر السابع- وصية صاحب الولاية بما يناسب ولايته. وقد تقدم التنبيه على ذلك في الكلام على مقدمات الولايات أيضاً.
الأمر الثامن- الدعاء لصاحب الولاية بما يناسبه إذا كان مستحقاً لذلك. وقد ذكر في التعريف أن من استصغر من المولين لايدعى له في أول ولاية ولاآخرها، وربما قيل بدل الدعاء أو بعده: والخير يكون.
الأمر التاسع- الخواتم: من كتابة إن شاء الله تعالى والتاريخ، والمستند، والحمدلة، والتصلية، على نحو ماتقدم في المكاتبات.
فأما المشيئة، فإنه يكتب في آخر مكتوب كل ولاية: إن شاء الله تعالى في سطرٍ منفردٍ.
وأما التاريخ، فإنه يكتب في سطرين كما تقدم في المكاتبات، فيكتب كتب في يوم كذا من شهر كذا في سطر، ويكتب سنة كذا وكذا في سطر تحته.
وأما المستند، فإنه يكتب تحت التاريخ، كما تقدم في المكاتبات. فإن كان بتلقي كاتب السر، كتب في سطرٍ واحد حسب المرسوم الشريف، وإن كان برسالة الدوادار، كتب حسب المرسوم الشريف في سطر، ثم كتب في سطر تحته برسالة الجناب العالي الأميري، الكبيري، الفلاني الدوادار، الناصريمثلاً؛ وإن كان بخط السلطان، كتبحسب الخط الشريف؛ وإن كان بإشارة النائب الكافل، كتب بالإشارة العالية الأميرية الكبيرية الفلانية في سطر، وكتب كافل الممالك الشريفة الإسلامية أعلاها الله تعالى في سطر تحته؛ وإن كان بإشارة الوزير، كتب بالإشارة العالية الصاحبية الوزيرية الفلانية في سطر، ثم كتب في السطر الثاني مدير الممالك الشريفة الإسلامية أعلاها الله تعالى؛ وإن كان الوزير صاحب سيف، أسقط منها الصاحبية. اللهم إلا أن يكون مرسوماً صغيراً أو توقيعاً صغيراً مما كتب في هيئة ورقة الطريق أو على ظهر القصة، فإنه إن كان بتلقي كاتب السر، كتب المستند على حاشية التوقيع على سمت مابين السطر الأول والثاني؛ وإن كان بإشارة النائب الكافل كتب هناك بالإشارة العالية سطرين، على نحو ماتقدم فيما يكتب تحت التاريخ؛ وإن كان بإشارة الوزير، فالأمر كذلك؛ وإن كان برسالة الدوادار، كتب على الحاشية هناك حسب المرسوم الشريف، ثم كتب تحت التاريخ برسالة الجناب العالي إلى آخر المستند.
وأما الحمدلة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ففي سطر تحت المستند، كما في المكاتبات، يكتب فيها الحمد لله وحده ثم يخلي بياضاً، ثم يكتب وصلواته على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلامه.
وأما الحسبلة ففي سطر تحت ذلك يكتب فيه حسبنا الله ونعم الوكيل على ماتقدم في المكاتبات.
الأمر العاشر- البياض الواقع في كتب الولايات، وله ستة مواضع: الأول- فيما بين الطرة والبسملة، وهي ثلاثة أوصال بالوصل الذي فيه الطرة، لايتجاوز ذلك في مقدار قطع كبير ولاصغير. إلا أنه ربما اقتصر على وصلين فيما استصغر شأنه من الرتبة الثالثة من التواقيع.
الثاني- الحاشية فيما على يمين البسملة وما بعدها. وأهل زماننا يعبرون عن ذلك بالهامش، ولم أجد له أصلاً في اللغة. وقد تقدم القول عليها في المقالة الثالثة في الكلام على متعلقات قطع الورق وماينخرط في سلكه. أما آخر الأسطر فإنه لابياض فيه؛ على أن ملوك الروم يجعلون لكتبهم حاشيةً من أول الأسطر وحاشيةً من آخرها، على ماتقدم القول عليها في الكتب الواردة عن صاحب القسطنطينية.
الثالث- بيت العلامة؛ وهو فيما بين السطر الأول: وهو الذي يلي البسملة، وبين السطر الثاني: وهو الذي يكون في آخر وصل البسملة. وقد تقدم في الكلام على مقادير الورق في المقالة الثالثة أن مقداره في الزمن القديم كان قدر شبر، وقد شاهدناه دون ذلك بقليل فيما كتب به في الدولة الناصرية محمد بن قلاوون على مايشهد به الموجود من تواقيعهم، ثم تناقص قليلاً؛ فلما غلا الورق وقصرت الأوصال نقص مقداره حتى صارنحو نصف شبر، وهو على ذلك إلى الآن. ويزيد ذلك وينقص باعتبار قطع الورق فإنه في القطع الكبير يكون الوصل أطول منه في القطع الصغير.
الرابع- مابين الأسطر في متن الولاية؛ وهو على مقدار النصف من بيت العلامة في القطع الكبير والقطع الصغير، لايكاد ذلك يختلف إلا في التواقيع والمراسيم التي هي على هيئة أوراق الطريق، والتي على ظهور القصص، فإن مابين السطرين منها يكون متضايقاً حتى يكون بقدر ثلاثة أصابع مطبوقةٍ.
الخامس- مابين أسطر اللواحق فيما بعد إن شاء الله تعالى فإنه يكون مابين كل سطرين في متن الولاية، إلا في المستند إذا كان سطرين، مثل أن يكون برسالة الدوادار ونحوها، فإن السطرين يكونان متلاصقين.
السادس- ما بعد اللواحق في آخر الكتاب، وهو قدر يسير قدر إصبعين مطبوقين أو ثلاثة أصابع مطبوقاتٍ وما قارب ذلك.
المهيع الأول: ...........................................
.........................................................
المهيع الثاني ما يكتب في متن الولايات من التقاليد والمراسيم:
في ذكر نسخ مما يكتب في متن الولايات من التقاليد والمراسيم المكبرة والتفاويض والتواقيع قلت: وقد كنت هممت أن أجعل ابتداآت التقاليد، والتفاويض والمراسيم، والتواقيع: من الافتتاح بالحمد لله أو بأما بعد حمد الله أو برسم بالأمر الشريف في فصل مستقل، ومقاصدها المتعلقة بالوظيفة في فصل على حدة ليختار الكاتب الذي لا يحسن الإنشاء ما أحب من الابتداآت المناسبة للاسم أو اللقب ونحوهما ثم يبين القصد المتعلق بالوصف.
ثم أضربت عن ذلك وأتيت بالنسخ على صورتها لأمور: منها- أن في تضييع النسخة إفساداً لصورتها وضياع فضيلة المنشئين وإشاعة ذكرهم. ومنها- أن يعرف أن الصورة التي تورد مما كتب به في الزمن السابق، وأنها مصطلح قد اصطلح عليه أهل ذلك الزمان: ومنها- أن يعرف المنشئ ترتيب من تقدم لينسج على منواله. وإذا أراد من لا دربة له بالإنشاء أخذ تحميدة من تقليد أو توقيع وغيرهما ونقلها إلى مقصد من مقاصد الولاية لم يعجزه ذلك.
ثم قسمته على أربعة أقسام:

.القسم الأول: ولايات وظائف الديار المصرية:

وهي على نوعين:
النوع الأول: الولايات بالحضرة:
وهي على ستة أضرب:
الضرب الأول: ولايات أرباب السيوف:
وهي على طبقتين:
الطبقة الأولى: ذوات التقاليد:
وهي على ثلاث وظائف:
الوظيفة الأولى: الكفالة:
وهي نيابة السلطنة بالحضرة وقد تقدم في الكلام على ترتيب وظائف المملكة في المقالة الثانية أن الكفالة هي أعلى رتب السلطنة، وأن النائب الكافل يحكم في كل مايحكم فيه السلطان، ويعلم في التقاليد والتواقيع والمناشير وغير ذلك، بخلاف غيره من النواب، فإن كل نائب لايعلم إلا على مايختص بخاصة نيابته. وقد تقدم في مقدمة الولايات أن لقبه المقر الكريم على مااستقر عليه الحال.
وهذه نسخة تقليد بكفالة السلطنة، كتب بها من إنشاء الشهاب محمود الحلبي رحمه الله، وهي: الحمد لله الذي جعل ركن الدولة في دولتنا القاهرة ثابت القواعد، على فرقد الفراقد، راقياً في رتب العلو الآخذة من أفق التأييد بالمطالع ومن نطق العز بالمعاقد، حالياً بعقود المهابة التي لاتزال لرعبها على الأعداء طلائع خيلٍ في المراقب وروائع خيال في المراقد، حاوياً من أنواع المفاخر مالو كاثرته الدراري غدت وهي لمجموعة فراقد، أو فاخرته الدرر ثقبتها الأفكار النواقد، مقلداً من سيفو الظفر مالاتنبؤ في نصرة الإسلام مضاربه؛ وكيف تنبؤ وأوامرنا لعقود حمائلها على عواتق مجده عواقد.
نحمده على نعمه التي عدقت أمور دولتنا بمن يرفع بأسه منارها، وعقدت قواعد مملكتنا بمن يوالي فضله أنوارها، وعضدت همم أوليائنا بمن إذا تخيلت أعداء الدين مواقع صوارمه كان أمنع صونها إسارها وأنفع سلاحها فرارها.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تشرق الهمم بلوامعها، وتشرف الكلم بجوامعها، وتزكو الأمم بما تنقل الألسنة منها عن القلوب إلى مسامعها، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي أقامنا الله لنصر دينه، وألهمنا تفويض مصالح أمته إلى كل ولي مارفعت راية نصر إلا تلقاها عرابة مجده بيمينه، وعضدنا في جهاد أعدائه بأعز صفي ينوب بأسه للجيش عن طليعته ويقوم رأيه في الحرب مقام كمينه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين الذين اختارهم لصحبته وارتضاهم، وأرهفهم لإقامة ملته وانتضاهم، فمنهم من فاز بمزيتي سيقه وتصديقه، ومنهم من كان الشيطان ينكب عن طريقه، ومنهم من اختار الشهادة على الانتصار بفريقه ورفيقه، ومنهم من أقامه بشرف الأخوة معه مقام شقيقه، صلاة يبلغه إخلاص مقيمها، ويعرض عليه إيمان مديمها، وسلم.
أما بعدن فإنا- من حين أورثنا الله ملك الإسلام لا عن كلالة، وألبسنا في مواقف الذب عن دينه حلل العز المعلمة بالجلالة، وكمن لنا في أرضه، وأنهضنا بمسنون الجهاد وفرضه، ونشر دعوة ملكنا في طول الوجود وعرضه- لم نزل نرتاد لكفالة الممالك الإسلامية من تأوي منه إلى ركن شديد، ورأي سديد؛ وحزمٍ يقرب من مواهب النصر كل بعيد، وعزم إذا أرهف صوارمه من أدنى الصعيد، وجف لهول مواقعها باب الحديد؛ فهو المطوي في أثناء ضمائرنا وإن تقلدنا قبله سواه، والمنوي في أحناء سرائرنا وإنما لامريءٍ مانواه؛ قد حلب قدم هجرته الدهر أشطره، وكتب حسن خبرته من عنوان السير أسطره، وتمثلت مرآة الزمان لفكره فاجتلى صور الوقائع في صفائها، وترددت تجارب الأمم على سمعه فعلم ما يأتي ومايذر في تركها واقتفائها، واستقبل دولة أسلافنا الشريفة من فواتحها، فكان لسان محاسنها، وبنان ميامنها، وخزانة سرها، وكنانة نهيها وأمرها، وطليعة تأييدها، وذريعة أوليائها إلى عوارفها وجودها، وعنوان أخبارها، وعنان سوابقها التي لاتدرك مآثر من سلف شق غبارها، ويمين قبضتها المصرفة بين البأس والندى، وأمين آرائها المؤيدة بالتوفيق اللدني على العدا، وركنها المشيد بالأسل وهو ماتبنى عليه الممالك، وحصنها المصفح بالصفاح فلا تستطيع الأهواء أن تتوقل إليه تلك المسالك، وزعيم جيوشها التي اجتنت من قصب قواضيه ثمر النصر غير مرة، ومتقدم عساكرها التي اجتلت به وجوه الظفر الحلوة في أيام الكريهة المرة.
ولما كان المقر الكريم الفلاني هو معنى هذه الصفات المبهمة، ومبنى هذه القواعد المحكمة، وطراز حلل هذه الأحوال المعلمة، وسر المقاصد الظاهرة، وسلك هذه النجوم الزاهية بل فلك هذه الدراري الزاهرة: تحلق صوادح البراعة، فتقع دون أوصافه بمراحل، وتغوص سوابح اليراعة، فيلقيها العجز عن استخراج دور نعوته بالسواحل؛ فأوصافه تذكر على وجه الإجماع لعجز ألسنة الأقلام عن بلوغها إلى غايتها ووصولها؛ فلذلك اقتضت آراؤنا الشريفة أن نفسح مجال الهدى، بتفويض إيالة الممالك إليه، وأن نقطع آمال العدا، بالاعتماد في زعامة الجيوش الإسلامية عليه، وأن نقر عيون الرعايا بإلقاء مقاليد العدل والإحسان إلى يديه، وأن نصون عقائل المالك من مهابته بما يغدو سوراً لعواصمها، وسواراًلمعاصمها، وشنباً تفتر ثغورها عن بروقه، أو لهباً يقطع طريق أمل العدا عن تخيل خيالها في طروقه؛ ليعتضد الدين منه بركنه، ويتغلب على الشرك في حالتي حربه ووهنه، ويتقلب كل من رعايانا بين وهاد يمنه ومهاد أمنه- رسم بالأمر الشريف- لازال ملكه على الأركان، راقياً من أفق النصر إلى أعلى مكانةٍ وأرفع مكان- أن تفوض إليه نيابة السلطنة الشريفة بالديار المصرية، والممالك الإسلامية شرقاً وغرباً، وبعداً وقرباً؛ فلا يخرج منها شيء عن أوامره وأحكامه، ولايعدل في سلمها وحربها عن حكمي سيوفه وأقلامه.
فليستقر في هذه الرتبة العالية استقرار الأركان المواكث، والأطواد اللوابث، والأصول النوابت، والنجوم الثوابت، مؤثلاً قواعدها برأيه السديد ورايته، معوذاً كمالها بسيف النصر وآيته، مبتدئاً في إعلاء منارها من العدل بأقصاه ومن الإحسان بغايته، مكثراً أعداد الجيوش الإسلامية برأيه السعيد، مقرباً من مطامح النصر النائية كل بعيد، موكلاً بحركات العدو وسكناته جفناً لايألف الغرار، وسيفاً لايعرف القرار، وعزماً لايرضى من عدوه دون اصطلامه الفرار؛ فلاتزال جيوش الإسلام بجميل تعاهده مزاحة العوائق، مزالة العلائق، لامانع لها عن الركوب، ولاقاطع عن الوثوب، قد أعدتها عزائمه، فكل زمانها بالتأهب للقاء وقت إمكانه، وأمدت بأسها صوارمه، فهي لاتسأل عن عدد عدوها بل عن مكانه، مقيماً منار العدل الذي هو أساس الملك ودعامته، ورأس الحكم بأمر الله في خلقه وهامته، ونور الخصب الكافل بمصالح العباد والبلاد وعامته، ناشراً له في أقطار الممالك، ماحياً بنور إقامته آية ليل الظلم الحالك، معاضداً أحكام الشريعة المطهرة بالانقياد إليها، والاعتماد في الحل والعقد عليها، والاحتفال برفع منارها: فإن ذلك من أفضل ماقدمته الدول الصالحة بين يديها، مقدماً عمارة البلاد على كل مهم: فإنها الأصل الذي تتفرع عنه المصالح على افتراقها، والمادة التي تستطيل الجيوش الإسلامية على العدا بتوسعها في إنقادها وإنفاقها، والأسباب التي تعين الغيوث على نماء مابسط الله لعباده من أرزاقها؛ وأكد مصالحها الرفق الذي ماكان في شيء إلا زانه، والعدل الذي مااتصف به ملك إلا حفظه وصانه؛ فقد جعلنا أمره في ذلك جميعه من أمرنا المطاع، واقتصرنا عن ذكر الوصايا بما في خصائصه الكريمة من حسن الاضطلاع وجميل الاطلاع، واكتفينا بما في خلائقه الجميلة من محاسن لو تخير نفسه لم يزدها على مافيه من كرم الطباع؛ والله تعالى يؤيده وقد فعل، ويجعل ركنه من أثبت قواعد الدين وقد جعل، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة تقليد بكفالة السلطنة أيضاً، وهي: الحمد لله الذي زان دولتنا القاهرة من حسامها بتقليده، وصان حمى ممالكنا الشريفة من أوليائنا بمن تغدو مواقع سيوفه من كل عدو قلائد جيده، وزاد جلالة الملك بمن إذا ركب في مواكب نيابته أورد جياد رعبه من كل متوج من ملوك العدا مناهل وريده، وفوض تقدمة جيوشنا المنصورة إلى من تضاعف مهابته في عيون العدا عدد جنوده، وتعزوه سرايا خيله في يقظته وتطلع عليه طلائع خياله في هجوده، وإذا صلت سيوفه في موقف وغى أغرت رأس كل مستكبر لم يعرف الله قبل ركوعه بسجوده، مشرف أقدار أوليائنا من المراتب بما تشرف به أقدار المراتب في نفسها، ومفضل أيام دولتنا على الدول بما ألفته من جلالة ملكنا في أمسها، ومجمل سير أصفيائنا من المعدلة بما إذا غرسته في قلوب الرعايا كان الدعاء الصالح ثمرة غرسها، ومقلد خواصنا من إيالة الملك مالإذا خطبت به الأقلام على منابر الأنامل نقلت البلاغة نقلت البلاغة في تلك الأوصاف عن قسها، ومفيض حلل الأنباء المرقومة بأسنى الرتب على من إذا زانت حبرها اللابس زانها بلبسها، وإذا أشرقت به هالة المواكب لوغى سقطت فوارس ملوك العدا عن مراكبها واضطربت الأسرة بملوك فرسها، وإذا كتمته الأعداء أنباءها نطقت ألسنة رياحه بأسرار أهل الشرك ولايرى أسمع من صمها ولاأفصح من خرسها، وإذا تطأولت أبطال الوقائع للقائه افترت ثغور سيوفه عن شنب النصر لإلفها بمعانقة الأعناق وأنسها.
نحمده على نعمه التي جادت شرف أسمائنا إلى أسماع المنابر، وأنطقت بمضاعفة الأنباء لأوليائنا ألسنة الأقلام في أفواه المحابر، وأعادت بسيف النصر حقوق ملكنا الذي تلقيناه مع الأولية والأولوية من أسلافنا الكرام كابراً عن كابرٍ.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة لاتزال سيوفنا بإعلاء منارها ناهضة، وجياد جهادنا لنشر دعوتها في الآفاق راكضة، ومواد نعمنا ونقمنا لأمال حامليها باسطة ولأرواح جاحديها قابضة، ونشهد أ، سيدنا محمداً عبده ورسوله الذي أيده الله تعالى بنصره، وآتاه من معجزاته مايحول البصر دون حصره، وجعله أمام الأنبياء وإمامهم مع تأخر عصره، ونصره بالرعب الذي زحزح كل ملك عن سريره وأنزل كل متوج من قصره، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين هجروا في نصرته مألوف الأوطان والأوطار، وركبوا في لإقامة ملته مخوف الأهوال والأخطار، وفتحوا بيمن دعوته مااشتملت عليه المشارق والمغارب من الأرجاء الممتدة والأقطار، صلاةً لايزال سيف جهادنا لدوامها مقيماً، وحكم جلادنا لإقامتها مديماً، وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد، فإن أولى من سمت التقاليد بأوصافها، وصرفت أمور الممالك بين بأسه وإنصافه، وحليت مواقف الخدمة الشريفة من جواهر مهابته بما هو جدير بحلي السيف، وزينت مجالس العدل من إبالته بما هو مبرأ من الميل والهوى منزه عن الظلم والحيف، وملئت القلوب من مخافته بما يمنع ذا القوة في الباطل من توهم البطش وذا الصبوة في الهوى من استزاره ويحسن لها الفرار، ويهون عليها في حنب ماتتوقعه من مواقع سيوفه البي والإسار، وعدق به من مصالح الأقاليم مايصرفه بيمين دأبها اليمن ويسار شأنها اليسار، وفوضت زعامة الجيوش منه إلى همام يقوم بأمرها على مايجب، وليث لو لم ينهض بألوفها المؤلفة في الوقائع لكان من نفسه وحدها في جحفل لجب، ومقدام آلاف العدا في شجاعته آحاد، وضرغام قسور أهل الكفر بين يدي وثباته وأسودهم تقاد؛ من لم نزل نعده في أركان البيت الشريف المنصوري بالخناصر، ونعده للمواقف التي ليس للدين فيها غير تأييد الله وحد السيف ناصر، وندخره من معادن أوليائنا الذين تمسكوا من الانتماء إلينا بأمكن الأسباب وأقوى الأواصر، ونقلد أعطاف الأواصر منه سيفاً يرمى منه بيت العدا ومعاقلهم بأفتك حاصدٍ وأفلل حاصر؛ فكم من مواقف شفع فيها الشجاعة بالخضوع لربه، ومواطن لبس فيها قلبه على الدرع إذا لبس غيره الدرع على قلبه، ومسالك سلكها في طاعة الله وطاعتنا والسيوف تنفر من قربها، ومشاهد شهدها في طاعة الله وطاعتنا والقلوب تفر من حجبها، وليالٍ قطعها في خدمتنا لم يصحب غير ألسنة أسنته وأعين شهبها، ومقاصد للدين بلغها والسهام لاتحملها من الفرق قوادم النسور، وسرايا وقف بينها وبين العدا فضرب بينهم من شجاعته بسور، وبحار حرب لم تتجاسر السوابح على قطعها حتى مد عليها من معوجات سيوفه قناطر ومن مقومات ذوابله جسور، وكم أنام الرعايا في مهاد عدله فلم يطرقها طيف ظالم في الكرا، ولاروع سربهم خيال مغير أوهمهم السرى، بل كانوا محفوظين بمهابته محفوفين بمواهبه وادعين في ظله الذي مادجا عليهم ليل خطب إلا أطلع لهم بدور الأمن في غياهبه.
ولما كان فلان هو الذي سار بذكر مهابته المثل، وصار له في قلوب الأعداء من الرعب ماتشابه فيه القاتلان الوجل والخجل، وجمع محاسن الصفات فما أخذ عنه أو نطق به أو نظر إليه إلا وجد ملء المسامع والأفواه والمقل، ولاجرد على العدا سيفاً إلا وودعت أرواحهم الأجساد، ولاأرهف في مجالس العدل والإحسان قلماً إلا وضمنت له الآجام التي نشأ بها كرم السيول وسطوة الآساد، ولاطلع في أفق مواكب إلا وهالت العدا هالة بدره، ودلت على عظم سلطاننا رفعة قدره، وشهدت له بحسن طاعتنا طاعة أمرائنا لأمره، وأسلف من خدمة والدنا السلطان الشهيد مالم تزل به عندنا حقوق مرعية، وسوابق مرضية، ورتبة تقديم سنية، ومزية تقريب جعلته مشاهداً بالعيان مقدماً في النية- اقتضت آراؤنا الشريفة أن نروع العدا بسيفه، ونريهم على تقدمته على الجيوش يقظة ماكانوا يروونه حلماً من طيفه، وليعلم الأعداء معاجلة أخذهم بالعنف والحيف، وأننا لاتأخذنا في الله لومة لائم فليس بيننا وبين أعداء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم إلا السيف.
فلذلك رسم بالأمر الشريف- لازالت ممالك الإسلام به مفترة المباسم، عالية مدى المهابة إذا طرقتها عواصف رياح العدا وقفت دون بلوغها دأمية المناسم- أن تفوض إليه نيابة السلطنة الشريفة بالممالك الإسلامية على العادة في ذلك والقاعدة تفويضاً يفيض على الممالك حلل المهابة، ويسلب أعداء الذين رداء الأمن فلا ينفعهم الخضوع ولا الإنابة، ويضاعف لنا أدعية الرعايا الصالحة بإجرائهم على ماألفوه من العدل والإحسان فمنهم الدعاء الصالح ومن كرم الله الإجابة.
فليتقلد هذه الرتبة الدالة على ارتفاع قدره لدينا، الشاهدة له باحتفالنا بما أوجبه إخلاصه من حقوق الطاعة والولاء علينا، المنبهة على أنه سيفنا الذي نصون الممالك بحده، ونصول على العدا بمضائه الذي تهلل وجوه النصر كلما أسفر من غمده، وليستقر في ذلك نافذاً في المصالح الإسلامية أمره، مغيراً على جيوش الأعداء ذكره، معملةً في حماية الدين بيضه المرهفة وسمره، مجملةً بإشراق طلعته مطتالع المواكب، مسيرةً نجوم أسنته إلى قلوب أعداء الدين مسير الكواكب، مخفقةً بخفوق رايته مساعي الكفر الصادرة عن آمالهم الكواذب، ليعلم عدو الله أنه أشد طلباً له من أجله، وألزم لعنقه من عمله، وأسبق إليه من رجع صوته، وأنزل عليه من مفاجأة موته، وليجمل النظر في مصالح الجيوش الإسلامية بما يضاعف عدتها، ويبقي على توالي الأحقاب حدتها وجدتها، ويأخذهم بإدامة التمرن في الحروب، وإطالة عنان التأهب للركوب، ويعين كلاً منهم بملاحظة حاله على استدامة قوته وإمكانه، ويجعلهم بالاقتباس من شجاعته من القوم الذين لايسألون عن عدد عدوهم بل عن مكانه، وليكن لكلمة الشريعة الشريفة رافعاً، ولشبه من يمتنع عن الانقياد إلى الأحكام دافعاً، وعلى يد من يتطرق إلى الخروج عن أحكامه آخذاً، ولمن لم يسلك الأدب بين يدي حكامه بما يقتضيه تعظيم الحكم العزيز مؤاخذاً، وليأمر النواب بإقامة منار العدل الذي يوم منه خير للأرض من أن تمطر أربعين يوماً، ويصرف إلى مصالح الثغور الإسلامية وحمايتها فكراً لم يختر دعةً، ونظراً يأنف أن يألف نوماً، وملاك الوصايا تقوى الله وهي من خصائص نفسه الكريمة، وراحة روحه التي هي للفكر في مصالح الإسلام مديمة؛ فليجتهد في المحافظة عليها مااستطاع، ويمض لها في مصالح الإسلام أمره الذي جعلناه من أمرنا مطاع.
وهذه نسخة تقليد بكفالة السلطنة أيضاً، كتب به عن السلطان الملك أبي بكر ابن الناصر محمد بن قلاوون للأمير طقزدمر أمير مجلس، في سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة، بعد أن بطلت في دولة أبيه الملك الناصر عدة سنين وهي: الحمد لله الذي اصطفى لسلطاننا المنصور من ينوب عنا في رعاية الجمهور أحسن مناب، وأضفى على ملكنا المعمور من رياسته أسر سربال ومن حراسته أجل جلباب، وكفى دولتنا الشريفة بساسته مهمات الأمور: فلتأييدها بقيامه دوام ولتشييدها باهتمامه استصحاب، وشفى الصدور بصدور إشارته المباركة التي لها بأوامرنا العالية اقتران ومن ضمائرنا الصافبة اقتراب، وأوفى له من برنا العميم بحقه الذيله بعهده استحقاق للتقديم وإيجاب، وسبقه القديم الذي له من سعيد المصاهرة أكرم اتشاج ومن حميد المظاهرة ألزم انتساب.
نحمده على أن بصر آراءنا بطرق الوفاق وسبل الصواب، ونشكره على أن نصر راياتنا في الآفاق: فلقلوب العدا من خوفها إلرهاق وإرهاب.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً منزهة عن الشك والارتياب، موجهة إلى قبلتها التي ترضاها الألباب، ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله الذي أظفر عزمه بالثبات وقهر خصمه بالتباب، ووفر قسمه من الإنجاد ويسرحزبه للإنجاب، وأظهر اسمه بعد اسمه فحلا في الأفواه ذكره وطاب، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين سلكوا من بعده في رعاية عهده أحسن الأداب، صلاة متصلة الأسباب، موصلة إلى خير مآل متكلفة بنعم باب لايزال لسحب جودها في الوجود انصباب، ولمقترب وفودها ورود إلى مظان الرضوان من غير إغباب، ماجرد انتقامنا على الأعداء سيف سطاً يقد الرقاب، وأورد إنعامنا الإولياء بحر ندى زاخر العباب، وجدد قيامنا بعلم هدى مرت عليه الأعوام ومالمح له أثر ولافتح له باب، واعتمد مقامنا الشريف في الجمع للقلوب والتأليف، على أعلى ولي أعلى جناب، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد، فإن أولى من اعتمدنا في الإنجاب والإنجاح على ديانته، وانتجدنا فيما أردنا من الاستصحاب للصلاح بإعانته، واعتضدنا في تقطين الممالك وتأمين المسالك بصيانته، ورعينا عند والدنا الشهيد- سقى الله عهده صوب الرضوان- على علو مكانه ودنو مكانته، فاكتفينا في كفالة الأمة ولإيالة النعمة بخشيته من ربه واستكانته- من حمدت سجاياه، وتعددت مزاياه واستندت إلى ماأمر الله تعالى به من العدل والإحسان في الأحكام قضاياه، ووجدت منه الزهد والرفق رعاة الإسلام ورعاياه، فهو الممدوح فعله، من جميع الألسنة، الممنوح فضله، في سائر الأزمنة، الملموح عليه آثار القبول الظاهر من عناية الله لما نواه من الخير لخلق الله وأبطنه فهو عاضد السلطنة الذي حل من العلياء موطنه، وكافل المملكة الذي سبق إلى كل مجد فأدركه، وسيف الدولة الحامي الحوزة البادي الصولة، ومن له اشتمال على العليا، ومن يقارن التحقيق له رأساً، ولايباين التوفيق له سعياً، ويعاون الهدى والنهى على طول المدى له أمراً ونهياً، ويعاين الورى لسلطاننا المنصور منه مهدياً يجمل لدولتنا حفظاً ويحسن لملكنا رعياً.
وكان فلان هو الذي لم يزل متعين المحاسن، متبين الميامن، متمكن الرياسة في كل الأماكن؛ فحلمه إذا اضطربت الجبال الرواسي ثابت ساكن، وعلمه الزائد بأوضاع السياسة وأنواع النفاسة للوجود من بهجته زائن، ورأيه الصائب للبلاد والعباد صائن، ورعية للخلق بالحق: القوي منه خائف والضعيف إليه راكن، وبشره هادٍ للرائي وبادٍ للمعاين، وذكره الجميل سائر في الآفاق والأقطار والمدائن، حتى أظهر الله تعالى بإمداد نيرنا الأعظم من إشراق بدره الكامل ماهو في سر الغيب كامن، وشهر سيفه الذي يغدو الإيمان من مهابته في كنفٍ منيعٍ وحرم آمن.
ولما مضت على منصب النيابة الشريفة في أيام والدنا الشهيد بضع سنين، وانقضت الأيام والليالي والدهر بموهبتها ضنين، ولاوطيت لها ربوة، ولا امتطيت لها صهوة، وكانت في سلك ملكه مندرجة، وبصفو سلطنته ممتزجة، إلى أن قضى عليه الرضوان النحب، وأفضى من الجنان إلى المحل الرحب، رأينا بعده بمن كان يتحقق وده أن نستأنس، وأمضينا وصيته المباركة في اختيار ثمرة الإخلاص بمن كان له الاختصاص يغرس، وأفضينا إليه بالمناب عنا لما كان من أنوار والدنا الشهبد في كل تسديد يقتبس، ومن الاسئشار بمجالسته يفوز فيحوز حكم الحكم لأنه كان أمير ذلك المجلس، وقضينا باعتماد أمره الكريم بعد أمرنا الشريف: لأنه الخبير الذي لاينبهم عليه شيء من خفايا القضايا ويلتبس- اقتضى حسن الرأي الشريف إلقاء مافي أيدينا من مقاليد الممالك إلى يده، وإبقاء وديعة هذا الأمر العظيم إلى صونه وعونه وتشدده، ولإيفاء جنابه إلى حميد هذه الغاية التي هي للمناسبة مناسبة لسؤدده.
فلذلك رسم بالأمر الشريف- لازال يجمع شمل الإسلام بتعينه وتفرده، ويرجع أمر الأنام منه إلى مأمون الرأي رشيده سفاح السيف مهنده، منصور العزم مؤيده، ويوسع الخليقة إذا وليهم بالرأفة والرحمة ومن أولى من أبي بكر بأن يخص أصحاب محمد عند الخلافة بإعذاب منهل الجود ومورده- أن تفوض إليه نيابة السلطنة الشريفة بالممالك الإسلامية- أعلاها الله تعالى- نيابةً شاملةً محيطة، كاملة بسيطة، تعني كل أمير ومأمور، وتدني أمرها الذي يعامل بالإجلال ويقابل بالسرور، براً وبحراً، وسهلاً ووعراً، غوراً ونجداً، بعداً وقرباً، شرقاً وغرباً، ومامنحه الله تعالى لوالدنا الناصر من الممالك ويدخر لسلطاننا المنصور ويخبى: تستوعب أمر مانأى من هذه الأقاليم ودنا، وتجب طاعته فيها على كل من كان مؤمناً، ويمتثل في ذلك كله أمره، وتعمل فيه الروية فيجمل فكره، ويؤمل فيه فتحه ونصره، وينقل به مدحه وشكره، ولاينفصل منحه وبره ناظراً في هذه النيابة الشريفة بفكره التام، سائراً فيها السير الجميل من الدربة والإلهام، ناشراً ظلال المعدلة على من سار أو أقام، مظاهراً بجنابه منل أجل مقام. ونحن وإن كنا نتحقق من خلاله الحسنى كل وصف يسنى، ونثق منه بذي الصدر السليم الذي هو على المقاصد يعان وبالمحامد يعنى، فلسنا نخل بالوصية التي نعلم أن به عنها استغنا، ولكننا لانترك بها التبرك ولاندع ماسن الله تعالى منها وشرع، ولانغفل مايجب به أن يحتفل؛ فقد وصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، وأمضى أمره المسموع كل ذي رجوع إلى الله تعالى منهم وإنابة، فقد أولاه الله تعالى كل جميل قبل أن ولاه، وحلاه بالسمات والمكرمات قبل أن رفع علاه، وأعطاه ماأرهب العدا من سطاه، وهداه إلى كل رشد تأتم به الهداة.
فأهم ذلك تقوى الله تعالى وهو عليها مجبول، وأمرها عنده متلقى بالقبول، والعدل فهو فهو من مأمول، والاتصاف بالإنصاف فهو دأبه فيما يفعلويقول، والجهاد: فعزائمه في ميدانه تجول، وصورامه بها من قراع فرسانه فلول، والزعماء والأكابر: فلهم من محافظته اعتناء وبملاحظته شمول، والعساكر الإسلامية: فبتأييده تبظش أيديهم بالعدا وتصول، وزعماء البلاد فلهم إلى ظل رحمته إيواء وبكنف نعمته ظلول، وممالك الإسلام فما منها إلا معمور بما أوته كفالته مأهول، وثغوره فكلها بسام بفتكاته التي ألقى رعبها في البحر فهو بين كل فاجر وبين البحر يحول، وماهو بذلك من حميد المسالك موصول، ومحله المقدم لأنه أهم الأصول: من إكرام الحكام، وإبرام الأحكام، واستيفاء الحدود، واقتفاء السنن المعهود: من إنجاز الوعود، وإحراز السعود، والإجهاز على كل كفور وجحود، والاحتراز من فظاظة الناس بلإفاضة الجود؛ فكل ذلك على خاطره مسرود، ولما آثره مورود، وفي ذخائره موجود، ومن خبرته معلوم معهود، وعن فكرته مشهور، ومن فطرته مشهود؛ فليسع أمرنا هذا جميع الأمراء والجنود، وليرجع إليه كل من هو من جملة المد معدود، وليقابل مرسومنا بالسمع والطاعة، أهل السنة والجماعة، ساعة الوقوف عليه وحالة الورود، والله تعالى يصلح ببقائه الوجود، ويمنح باهتمامه المقصود، ويفتح المعاقل باعتزامه الذي ليس بمردود عن مراده ولامصدود، بل يصبح الكفر من خوفه محصوراً ويمسي وهو بسيفه محصود؛ والعلامة الشريفة أعلاه، حجة بمقتضاه؛ إن شاء الله تعالى.
وهذه وصية لنائب سلطنة، أوردها في التعريف قال: يوصى بتقوى الله تعالى وتنفيذ الأحكام الشرعية، ومعاضده حكامها، واستخدام السيوف لمساعدة أقلامها، وتفقد العساكر المنصورة وعرضها، وإنهاضهم لنوافل الخدمة وفرضها، والتخير للوظائف، وإجراء الأوقاف على شرط كل واقف، والملاحظة الحسنى للبلاد وعمارة أوطانها، وإطابة قلوب سكانها، ومعاضدة مباشري الأموال مع عدم الخروج عما ألف من عدل هذه الأيام الشريفة وإحسانها، وتحصين مالديه، وتحسين كل ماأمره إليه، واستطلاع الأخبار والمطالعة بها، والعمل بما يرد عليه من المراسيم المطاعة والتمسك بسببها؛ وأنه مهما أشكل عليه يستضيء بنور آرائنا العالية فهو يكفيه، ومن قتل من الجند أو مات وخلف ولداً يصلح لإقطاعه يعين به ليقوم بمخلفيه، ويقال من هذا مايقوم بتمام الغرض ويوفيه.
الوظيفة الثانية: الوزارة لصاحب سيف:
واعلم أن أول من أطلق عليه لقب الوزارة في الإسلام أبو حفص الخلال وزير أبي العباس السفاح أول خلفائهم كما ذكره القضاعي فيعيون المعارف في أخبار الخلائف ثم صارت الوزارة بعد ذلك للخلفاء والملوك دائرةً بين أرباب السيوف والأقلام، تارةً يليها صاحب سيف وتارةً يليها صاحب قلم؛ إلا أنها في أرباب الأقلام أكثر، وعلى ذلك جرى عرف الدريا المصرية من ابتداء الأمر وإلى الآن.
ومما ينبه عليه أن الوزير إذا كان صاحب سيف، كان في مجلس السلطان قائماً في جملة الأمراء القائمين، وإذا كان صاحب قلم، كان جالسل كما يجلس أرباب الأقلام: من كاتب السر وغيره.
وهذه نسخة تقليد بالوزارة، كتب به للأمير سيف الدين بكتمر. وهي: الحمد لله الذي شد أزر دولتنا القاهرة، من أوليائنا بأمضى سيف، وعضد أيامنا الزاهرة، من أصفيائنا بأعدل ولي لايوجد في حكمه حيف، وعدق تدبير أمور ممالكنا الشريفة بمن تحجب مهابته ذوي الأطماع الطامحة عما لايحب، فلا يلم بهم فيها خاطر ولا يطرقهم بها طيف، جاعل التأييد لآرائنا مصباحاً، والتوقيق موافقاً لأوامرتا التي لاتهمل من مصالح الإسلام مندوباً ولاتدع من مهمات الملك واجباً، وغلإقبال تالياً لمراسيمنا في ارتياد من يغدو قلب المحق من حيفه ساكناً وقلب المبطل من خوفه واجباً، واليمن تابعاً لاستخارتنا في انتخاب من لم يزل في خدمتنا الشريفة للأدعية الصالحة جالباً، ولمنافع الإسلام والملك طالباً، ولمضارهما حاجباً.
نحمده على نعمه التي عضدت أيامنا بمن جمعت أدواته، رتبتي السيف والقلم، وعدقت تدبير ممالكنا بمن أحرزتصفاته، مزيتي العلم والعلم، وشد أزر دولتنا بمن يبيض بمعدلته من صحائف أيامنا ماهو أحب إليها من حمر النعم.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نعدها للقائه، ونتيمن بها في افتقاده من نعتضد به في مصالح أهلها وانتقائه، ونقدمها أمام كل أمر ندخره لاعتلاء ولينا بالتقى وارتقائه، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله الذ أرسله إلى الأمم طراً، وخصه بالأمة التي جعل أمارة سبقها إلى الخيرات أن غدت محجلةً غراً، وأيده بنصره وبالمؤمنين الذين مامنهم إلا من أعرض عن زخرف الدنيا وإن كان حلواً وقال الحق وإن كان مراً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين ولوا أمته فعدلوا، والذين تمسكووا بسنن سنته فما حادوا عنها ولاعدلوا، صلاةً لاتوال الألسن لإقامتها مديمة، والقلوب لإدامتها مقيمة، وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد، فإن أولى من أبرزت الضمائر في الاعتضاد به مكنون طويتها، واعتمدت الخواطر، في تصريح علانيتها بأولويته لمصالح الإسلام على نيتها، وشتوفت البلاغة لرقم مفاخره، وتنافست المعاني في تخليد ملآثره، وهنأت المعدلة نفسها، برفع لوائها، وأبدت الدولة أنسها، بناشر برها في الأقطار وآلائها، وافترت ثغور الأقاليم المحروسة بمن تلهج بمصالحها ألسنة أقلامه، واخضرت ربى آمال الأولياء بما يسفر عنه من تهلل بهاء غرر أيامه، من هززنا منه لمصالح الإسلام سيفاً يصل ماأمر الله به أن يوصل، ويفصل منمهمات الممالك مايقتضي الحق أن يفصل، ويبرز من معادن العدل والإحسان ماهو في سر خلائقه كامن، وينزل من استقامت سيرته في الحمى المخصب والحرم الأمن، ويصون الأموال بمهابته فلا تمتد إليها هواجس الأطماع، ولا تتجاسر أبصار غير الأمناء أن تقص نبأ رؤيتها على الأسماع، ويضاعفها بخبرته التي تهديها الأمانة إلى معادنها، وتدلها النزاهة على مواطنها، وتبدي لها ظواهر الأعمال أسرار بواطنها، ويعمر بيوت الأموال بعمارة البلاد، ويثمر فروع الطوارف من مصالحها بحفظ أصول التلاد، ويكف أكف الظلم عن الرعايا فلا يخشى محق على حقه، ولايخاف مستقيم على ماقسم له من رزقه، ولا يطمح قوي إلى من يستضعف جانبه، ولايطمع باغ في الحيف على أحدٍ مخالطه في نشب كان أو مجانبه.
ولما كان الجناب العالي الفلاني هو الذي أشير إلى مناقبه، واعتضد منه بمطيع لله في السر والعلن ومراقبه، وفوض تدبير الممالك منه إلى من لاتأخذه في الحق لومة لاشم، واعتدت أيامنا الزاهرة منه على من طالما سرى في مصالحها على جياد العزائم، وشد أزر الملك من موازرته بمن يكسو دست الوزارة أبهةً وجلالاً، ويلبس منصبها سناً لو ملكته الشمس مارامت عن بروج شرفها انتقالاً، ويمد على الرعايا لواء عدل لايقلص له هجير الظلم كما تتقلص الظلال ظلالاً، وتطلع به شموس الأرزاق على أولياء دولتنا لكن لاترهب كالشموس غروباً ولازوالاً، مع مهابة تخيف الأسد في أجماتها، ومعدلة تعين الغيوث على رفع محول البلاد ودفعع أزماتها، وديانةٍ زانها التقى، وخبرةٍ صانها الورع وهما أفضل مابه يرتقى. وكانت الوزارة الشريفة نظام المملكة وقوامها، وذروة الدولة وسنامها، وتاج المراتب وإكليلها، وعتاد الخزائن الجامع دقيق المصالح الإسلامية وجليلها- اقتضت آراؤنا الشريفة أن تزين هذه الرتبة بجوهر فرنده، وأن يصدر منصبها عن مناقب لاتصدر إلا عن جهته ومفاخر لاترد إلا من عنده، وأن يطلف في مصالحها قلمه، ويمضي في قواعدها أشاراته وكلمه، ويطلع في أفقها شمس تدبيره، ويعدق به مايراه في أمورها من صغيرالأمر وكبيره، وأن نجعل مسامع الأقاليم على سعتها إلى أوامره وتواهيه مصغية، وأن تصد بسمعته عمن بعد عوارض الإمهال الملهية ومواقع الإهمال المطغية.
فلذلك رسم بالأمر الشريف- لازالت سحائب بره مستهلة، وركائب المحامد إلى حرم نعمه مهلة- أن تفوض إليه الوزارة الشريفة بالممالك الإسلامية على أكمل القواعد، وأجمل العوائد، تفويضاً يعلي مرامه، ويمضي مضاء ألسنة الأسنة أقلامه، ويبسط في مصالح الأقاليم المحروسة يده ولسانه، ويلقي إليه من مهمات كل قطر أزمته ليصرف على مايراه من المصالح عنانه.
فليستقر في هذه الرتبة السنية استقرار الدرر في أسلاكها، والدراري في أفلاكها، نافذ الأمر في مصالح شرقها وغربها، مطاع القول في بعد أماكنها منه وقربها، ناشراً كلمة العدل في أرجائها، محققاً بالإحسان آمال أممٍ قصرت على كرمنا ممدود رجائها، معلياً منار الشرع الشريف بمعاضدة حكامه، والوقوف عند ألأوامره المطاعة وأحكامه، حافظاً أقدار الرتب بأكفائها، معتمداً على ذوي البيوت المحافظين على اتباع سير أسلافهم واقتفائهم، معولاً على ذوي البيوت المحافظين على اتباع سير أسلافهم واقتفائهم، معولاً على ذوي الخبرة التامة مع الديانة، مراعياً مع ظهور المعرفة جانب العفة والنزاهة والصيانة، موكلاً بمصالح بيوت الأموال والخزائن المعمورة مواد الأموال ومعينها، صارفاً إلى عمارة البلاد جميل تدبير تعتضد البحار والسحب منه بمساعهدها على ري الأرض ومعينها، ميسراً مواد أرزاق خدم دولتنا القاهرة وأوليائها بجميل بشره وحسن روائه، مسهلاً مطالب أرباب الرواتب والصدقات بطلاقة وجهٍ لو تأمله امرؤ صادي الجوانح لارتوى من مائه؛: ليتوفر أهل الوظائف على خدمهم بقلوب منبسطة الآمال، ويناضل عنها الفقراء بسهام الليل التي لاتطيش إذا طاشت النبال؛ فقد جعلنا أمره في ذلك جميعه من أمرنا فليكتب يمتثل، وليقل في مصالحنا بما يراه يسر كلامه سري الرياح ويسر قوله سير المثل، ولايمض عقد ولاحل، ولا ولاية ولا عزل، ولارفع ولاخفض، ولاإبرام ولانقض، إلا عن رأيه وإشارته، وبنص خطه وعبارته. وفي سيرته السرية، وديانته التي هي من أسباب الهوى عرية، مايغني عن وصايا تملى على فكره، وقواعد تحجلى على ذكره، وملاكها تقوى الله: وهي من أخص أوصافه، ونشر العدل والإحسان وهما من نتائج إنصاته لأمور الرعايا وإنصافه؛ لكن على سبيل الذكرى التي تنفع المؤمنين، وترفع درجات المتقين؛ فليجعلها نجي خاطره، وقبلة ناظره؛ والله تعالى يعلي قدره وقد فعل، ويجعله من عباده المتقين وقد جعل؛ بمنه وكرمه. والاعتماد على الخط الشريف أعلاه إن شاء الله تعالى.
الوظيفة الثالثة: الإشارة:
وهي وظيفة قد حدثت كتابتها ولم يعهد بها كتابة في الزمن القديم وهذه نسخة تقليد أنشأته بالإشارة للأمير جمال الدين يوسف البشاسي إستادار في الدولة الناصرية فرج، حين فوضت إليه الإشارة مضافة إلى الاستدارية، وكتب له به المقر الشمسي العمري كاتب الدست الشريف، في شعبان سنة تسع وثمانمائة، وهي:
الحمد لله الذي جدد للديار المصرية بالمحاسن اليوسفية رونق جمالها، وأعز جانبها بأجل عزيزٍ ملأت هيبته الوافرة فسيح مجالها، وأسعد جدها بأسعد مشير أدارت آراؤه الصائبة متقاعس الأمور مابين يمينها وشمالها، وأكرم مآبها بأمثل كاف عاد حسن تدبيره بضروبٍ من المصالح أنام الخلق من ظلالها، وأجاب سؤلها بأكمل لم تعدل عن خطبتها له وإن أطال في مطالها. نحمده على أن أغاث الدولة القاهرة بمن أخصب به بعد الإمحال ربعها، وطال بطوله بعد القصور فرعها، وحسن في المناظر بحسن تأتيه لذي التأمل ينعها. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي شرع المشورة وحث عليها، وعدق أمر السيف والقلم بها فردهما عند اختلاف الرأي إليها، شهادةً ترفع قائلها إلى أسنى المراتب وتعليه، وتقرب المخلص في انتحالها من مقام الاستخلاص وتدنيه، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي ورد وارد الأمة من منهل شرعته المطهرة ماعذب مشرعه ورداً وصدراً، والتقطت السيارة أحاديث فضله فصيرتها للرفاق سمراً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين تقيلوا مساحب أذياله في العدل فعدلوا، ولزموا منهج سننه الواضح فما حادوا عن سواء السبيل ولاعدلوا، صلاة تفوق العدا حصراً، وترفع بركاتها عن الأمة حصراً، وترفع بركاتها عن الأمة حصراً وتبدل العسر يسراً، فتعيد عجاف الزمانت سماناً وسنبلات الوقت بعد اليبس خضراً، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد، فإن للمملكة قواعد تبنى عليها، وأركاناً تستند إليها، ودعائم يشد بالاعتضاد بها بنيانها، وعمداً في الممهمات سلطانها؛ وهذه البماني وإن اتسع نطاقها، وامتد بامتداد المملكة رواقها، فإن بالسيف والقلم قوامها، وبالتعلق بحبالها بقاءها ودوامها؛ إذ كانا قطبين عليهما مدار فلكها، ونقطتين عنهما ينشأ الخط المستقيم في تدبير ملكها، وزعيمين يترافع إليهما عند التحالف، ولايقوم أحدهما برأسه لدى التخالف؛ بل لهما إمام يرجعان إليه، ويعولان عند اضطراب الأمور عليه، وهو الرأي الذي لايقطع أمر دون حكمه، ولايهتدي سارٍ في مهامه المهمات إلا بنجمه؛ إذ كان على الشجاعة مقدماً، ودليله من المعقول والمنقول مسلماً، والمتسم به لايزال عند الملوك مبجلاً معظماً، ولايقدمون عليه ولداً ولاوالداً، ولايؤثرون على معاضدته عضداً ولا ولا ساعداً، إن أشار برأي تمسك الملك منه بالحبل المتين، أومحضه كلام نصح قال: {إنك اليوم لدينا مكين أمين}.
ولما كان الجناب العالي، الأميري، الكبير إلى آخر ألقابه يوسف اناصري: ضاعف الله تعالى نعمته، هو الذي حنكته التجارب وحلب الدهر أشطره وعرف بتقليب الأمور على ممر الزمان مخبره، مع مااشتمل عليه من الرأي الصاشب، والفكر الذي إذا أبدت قريحته في الارتياء عجباً أتت فطرته السليمة بالعجائب.
هذا وقد علا في الدولة القاهرة مقامه، ورشقت أغراض مقاصدها بانقضاء الآجال في الوقائع سهامه، وساس العساكر فأحسن في سياستها التدبير، وبذل في نفقاتها الأموال فمال فيها إلى الإسراف دون التقتير، واستجلب الخواطر فأخذ منها بمجامع القلوب، واقتاد النفوس الأبية قهراً فأطاعه من بين الشمال والجنوب، وقام من المهمات الشريفة بما لم يسبقه إليه سابق، وأتى من خوارق العادات في التفيذ بما لم يلحقه فيه لاحق، وبادر إلى ترتيب المصالح فرتبها ولم يعقه في انتهاز الفرصة عن دفع المفاسد عائق، وأخذ في حط الأسعار فورد منهلاً من المعروف صافياً، وأمر بإبطال المعاملين فكان له عملاً على توالي الأزمان باقياً، ولازم بعد رضا الله تعالى رضا ملكه ففاز بأشرف المآثر في الحديث والقديم، وتأسى في تعريفه بنفسه بيوسف عليه السلام فقال: {اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم} - اقتضى حسن الرأي الشريف تنويهنا بذكره، وتقديمه على غيره ممن رام هذه الرتبة بحجب دونها والله غالب على أمره.
فلذلك رسم بالأمر الشريف العالي، المولوي، السلطاني، الملكي، الناصري، الزيني- لازال يجمع لأوليائه شمل المعالي، ويرقي أصفياءه في درجات العز على ممر الأيام والليالي- أن تفوض إلى المشار إليه الإشارة الشريفة التي هي أسنى المقامات وأعلاها، وأقصى المرامات لدينا وأغياها، مع ما انضم إلى ذلك من النظر في الوزارة الشريفة التي جل قدرها، وعلا في المناصب ذكرها، والخاص الذي اختص بمهماتنا الشريفة، والديوان المفرد الذي غمر ممالكنا السعيدة ذا الوظيفة وغير ذي الوظيفة، وتعلقات المملكة شرقاً وغرباً، ولوازمها المفترقة بعداً وقرباً.
فليتلق مافوض إليه بيمينه التي طالما ربحت في الطاعة صفقتها، ويقابله بالقبول الذي محله من القلوب مهجتها، مقدماً تقوى الله تعالى فيما خفي من مقاصده وظهر، مؤثراً رضاه في كل مايأتي ويذر، معتمداً في المصالح اعتماد ذي اليقظة الساهر، آتياً من غرائب الرغائب بما يحقق قول القائل: كم ترك الأول للآخر والوصايا كثيرة ومن بحره تستخرج دررها، ومن سوابق آرائه تستوضح أوضاحها وغررها، والله تعالى يديم عليه نعم إقبالنا الباطنة والظاهرة، ويتولاه من العناية بما يحقق له دائم قوله: {أنت وليي في الدنيا والآخرة} والاعتماد على الخط الشريف أعلاه تعالى أعلاه، إن شاء الله تعالى.
الطبقة الثانية ممن يكتب له من أرباب السيوف: ذوات التواقيع:
وفيها وظائف:
الوظيفة الأولى: نظر البيمارستان لصاحب سيف:
الحمد لله رافع قدر من كان من خدمتنا الشريفة كريم الخلال، ومعلي درجة من أضفى عليه الإخلاص في طاعتنا العلية مديد الظلال، ومجدد نعم من لم يخصه اعتناؤنا بغاية إلا رقته هممه فيها إلى أسنى رتب الكمال، ومفوض النظر في قرب الملوك السالفة إلى من لم يلاحظ من خواصنا أمراً إلا سرنا ما نشاهد فيه الأحوال الحوال.
نحمده على نعمه التي لاتزال تسري إلى الأولياء عوارفها، ومناهله التي لاتبرح تشتمل على الأصفياء عواطفها، وآلائه التي تسدد آراءنا في تفويض القرب إلى من إذا باشرها سر بسيرته السرية مستحقها وواقفها. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً رفع الإخلاص لواءها، وأفاض الإيمان على وجوه حملتها إشراقها وضياءها، ووالى الايقان إعادة أدائها بمواقف الحق وإبداءها. ونشهد أن محمداً عبده ورسوله المخصوص بعموم الشفاعة العظمى، المقصوص في السنة ذكر حوضه الذي من شرب منه شربةً فإنه بعدها لايظما، المنصوص على من نبوته في الصحف المنزلة وبشرت به الهواتف نثراً ونظماً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين فازوا من طاعته، بالرتب الفاخرة، وحازوا بالإخلاص من محبته، سعادة الدنيا والآخرة، وأقبلوا على حظوظهم من رضا الله ورضاه فلم يلووا على خدع الدنيا الساحرة، صلاةً دائمة الاتصال آمنةً شمس دولتها من الغروب والزوال، وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد، فإن أولى الأمور بالنظر، وأحقها بتوفير الفكر على اعتباد مناهجها واعتماد مناجحها، أمر جهات البر التي تقرب بها السلطان الشهيد الملك المنصور قدس الله روحه إلى من أفاض نعمه عليه، وتنوع في إنشائها فأحسن فيها كما أحسن الله إليه، ورغب بها فيما عند الله: لعلمه أن ذلك من أنفس الذخائر التي أعدها بين يديه، وحل منها في أكرم بقعة نقله الله بها عن سريره إلى مقعد صدق عند ربه، وعمر بها مواطن العبادة في يوم سلمه بعد أن عفى بها معاقل الكفر في يوم حربه، وأقام بها منار العلوم فعلا منالها، وأعد للضعفاء بها من مواد البر والإلطاف مالو تعاطته الأغنياء قصرت عن التطأول إليه أموالها؛ وأن نرتاد لها من إذا فوضنا إليه أمراً تحققنا صلاحه، وتيقنا نجتحه، واعتقدنا تنمية أمواله، واعتمدنا في مضاعفة ارتفاعه وانتفاعه على أقواله وأفعاله، وعلمنا من ذلك مالانحتاج فيه إلى اختبار ولااعتبار، ولايحتاج في بيان الخبرة فيه إلى دليل إلا إذا احتاج إليه النهار، لنكون في ذلك بمثابة من ضاعف لهذه القرب أسباب ثوابها، أو جدد لها وقفاً: لكونه أتى بيوت الإحسان في ارتياد أكفاء النظر من أبوابها.
ولما كان فلان هو الذي نبهت أوصافه على أنه مأولي أمراً: إلا وكان فوق ذلك قدراً، ولااعتمد عليه فيما تضيق عنه همم الأولياء إلا رحب به صدراً، ولا طلع في أفق رتبة هلالاً إلا وتأملته العيون لأجل رتب الكمال بدراً، يدرك مانأى من مصالح مايليه بأدنى نظر، ويسبق في سداد مايبائره على مايجب سداد الآراء ومواقع الفكر. ونحن نزداد غبطة بتدبيره، ونتحقق أن كل كل ماعدقنا به إليه من أمر جليلٍ فقد أسندناه إلى عارفه وفوضناه إلى خبيره- اقتضت آراؤنا الشريفة أن نعدق بجميل نظره هذا المهم المقدم لدينا، وأن نفوض إليه نظر هذه الأوقاف التي النظر في مصالحها من آكد الأمور المتعينة علينا.
فرسم بالأمر الريف- لازال فضله عميماً، وبره يقدم في الرتب من كان من خواص الأولياء كريماً- أن يفوض إليه كيت وكيت. فليل هذه الرتبة التي أريد بها وجه الله وماكان لله فهو أهم، وقصد بها النفع المتعدي إلى العلماء والفقراء والضعفاء زمراعة ذلك من أخص المصالح وأعم، ولينظر في عموم مصالحها وخصوصها نظراً يسد خللها، ويزيح عللها، ويعمر أصولها، ويثمر محصولها، ويحفظ في أماكنها أموالها، ويقيم بها معالم العلوم في أرجائها، ويستنزل بهامواد الرحمة لساكنها بألسنة قرائها، ويستعيد صحة من بها من الضعفاء بإعداد الذخائر لملاطفة أسقامها ومعالجة أدوائها، ويحافظ على شروط الواقف في إقامة وظائفها، واعتبار مصارفها، وتقديم ما قدمه مع ملاءة تدبيره باستكمال ذلك على أكمل مايجب، وتمييز حواصلها بما يستدعي إليها من الأصناف أبت يعز زجزدها ويجتلب، وضبط تلك الحواصل التي لاخزائن لها أوثق من أيدي أمنائه وثقاته، وىمودع لها أوفق من أمانة من يتقي الله حق تقانه؛ فلذلك وكلناه في الوصايا إلى حسن معرفته واطلاعه، ويمن نهوضه بمصالحنا واضطلاعه، إن شاء الله تعالى.
الوظيفة الثانية: نظر الجامع الطولوني:
من إنشاء المقر البدري ابن المقر العلائي بن فضل الله صاحب ديوان الإنشاء الشريف في الدولة الظاهرية برقوق، كتب به المقر الشمسي العمري كاتب الدست الشريف لأبي يزيد الدوادار، وهي: الحمد لله الذي أقام أوليائنا خير ناظر، يقر به كل ناظر، وأدام بنا بناء المعروف الزاهر وحسنه الباهر، وأنام الأنام في مهاد الأمن بانتقاء ولي لسان الكون حامد له ومادح وشاكر، وفتح أبواب السعادة باصطفاء صفي طاب بسفارته كل خاطر من مقيم وخاطر، ومنح أسباب السيادة بأوفى وفي وفي عمر بوجوده الوجود وغمر بجوته كل بادٍ وحاضر، وأبصر بالدين المتين والفضل المبين فأقمناه للنظر على بيوت الله تعالى لأولويته بذلك: {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر} نحمده على نعمه التي ظهرت بالمزيد فسرت السرائر، وظهرت بنور الرشد المديد فأشرق بها الباطن والظاهر، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العزيز القادر، شهادةً صدقت في الإخلاص بها الألسنة والضمائر، ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله معدن الأسرار، وبحر الجود الزاخر، ومنبع الأنوار، صاحب الآيات الظاهرة والمعجزات الباهرة والمفاخر، الذي يبعثه الله مقاماً محموداً يحمده الأوائل والأواخر، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه النجوم الزواهر، الذين جاهدوا في الله حق جهاده فكان كل منهم للدين الحنيف أعظم مجتهد ومؤيد وناصر، وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد، فإن أولى من ألقيت إليه مقاليد الأمور، وصرفناه في جميع مصالح الجمهور، وفوضنا إليه النظر في بيوت الله تعالى ليعمرها بنظره السعيد وتضاعف له الأجور، ومكنا له في دولتنا الشريفة حتى صار قطب فلكها عليه تدور، وبسطنا يده ولسانه فهو ينطق عنا ويأمر بالقضاء والقدر في الورود والصدور، وقيدنا الأرزاق بقلمه، والمهمات بكلمه، فلافضل إلا من فيضه المنشور- من امتاز على غيره بفضيلتي السيف والقلم، وتقدم في الطاعة الشريفة بأثبت قدم، كان بها من السابقين الأولين من القدم، واتصف بالشجاعة والشهامة والمعرفة التامة والحلم والعدل والحكم؛ فهو الترجمان عنا الناطق بفصل الخطاب في السر للترك والعرب والعجم، وعرف بالرأي السديد، والنظر السعيد، والتدبير الحميد، والقول المفيد، والجود والكرم؛ وطبع على الخير الجزيل، والدين الجميل، عمره في الحق قائم، لا تأخذه في الحق لومة لائم، طالما أحسا بحسن السفارة من العدم.
هو واحد في الفضل والنظر السعيد لأبي سعيد، فمن الذي يحكيه في الشـرف العتيد، بطل الوغى أبو يزيد. قد تفرد في العفة والديانة، والثقة والأمانة، والتحف بالصفا، وتردى بالوفا، وشفى بالخير والجبر من كان بالفقر على شفا فحصل له الشفا، ووفى بالعهود والمواثيق وذلك أمر ما خفى، ولحق في الجود والدين بسميه أبي يزيد البسطامي الولي:
قالوا الولي أبو يزيدٍ قد مضى ** وهو الفريد بفضله والصادق!

قلت الأمير أبو يزيدٍ مثله ** هذاك سابقه وهذ اللاحق!

ولما كان فلان هو المشار إليه بهذه الصفات الحسنة، والمناقب التي تنوعت في مدائحها الألسنة، وعرف بالجود فملك حبه الأفئدة فارتفعت الأصوات بالدعاء له معلنة، طالما أنال النعم، وأزال النقم، وجبر القلوب وكشف الكروب، وجلا ظلام الخطوب، ونشر المعروف، وأغاث الملهوف، وأنقذ من المهالك، وعمر بتدبيره الممالك، ووصل الأرزاق، وأجرى الأطلاق على الإطلاق- اقتضت آراؤنا الشريفة أن نعتمد في جميع الأشياء عليه، ونلقي مقاليد الأمور إليه، وننوط به المهمات وغيرها: ليكون العلم بالكليات والجزئيات لديه.
فلذلك رسم بالأمر الشريف- لازال يتحف بالمزيد من كرمه، ويسبغ جلابيب نعمه، ويجري بحر فضله الواسع، ويعم بنظره المقربين من أوليائه كل جامع للخير جامع، أن يستقر...........
فليتلق هذا التفويض الجليل بقبوله، ويبلغ الجامع المذكور مايرتقبه من عمارته التي هي غاية مأمولة. ومنه تؤخذ الوصايا لأنه لساننا الناطق، وسفير مملكتنا العالم بالحقائق والدقائق، فلايحتاج أن يوصى ولاأن نفتح معه في الوصية باباً، ومايصلح أن يقال لغيره لايجوز أن يكون له خطاباً:
ومثلك لايدل على صوابٍ ** وأنت تعلم الناس الصوابا!

والله تعالى يؤيده في القول والعمل، ويعم بوجوده وجود الوجود وقد فعل، ويبقيه مدى الدهر، ويستخدم لسعوده الساعة واليوم والجمعة والشهر، ويجعل بابه الطاهر مفتوحاً للقاصدين على الدوام، ويقيمه واسطة عقد الملك فإنه مبارك أينما كان ورحمة للأنام، والاعتماد على الخط الشريف أعلاه حجة بمقتضاه، إن شاء الله تعالى.
الوظيفة الثالثة: بقايا الأشراف:
وقد تقدم في الكلام على ترتيب وظائف الديار المصرية في المقالة الثانية أن موضوعها التحدث على الأشراف، وهو أولاد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قلت: وقد جرت العادة أن الذي يتولى هذه الوظيفة يكون من رؤوس الأشراف، وأن يكون من أرباب الأقلام، وإنما أوردته مع أرباب السيوف لأن المقر الشهابي بن فضل الله قد ذكر في بعض دساتيره الشامية أنه يكتب لنقيب الأشراف الأميريولايكتب له القضائي ولو كان صاحب قلم. وقد رأيت له عدة تواقيع على ذلك مكتتبةً من الأبواب السلطانية وعن نائبي الشام وحلب وغيرهما، معبراً عنه فيها بالأميري وتوقيعه في قطع الثلث مفتتح بخطبة مفتتحة بالحمد لله.
وهذه نسخة توقيع بنقابة الأشراف، وهي: الحمد لله مشرف الأنساب، وموفي الأحساب، حقوق ملاحظتهم بغير حساب، وجاعل أيامنا الشريفة تحمد الاكتساب.
نحمده بمحامد حسنة الإيجاد والإيجاب، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة لاشك في مقالها ولاارتياب، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله ونبيه الذي أنزل عليه الكتاب، وشرف به الذراري من شجرته المباركة الأعقاب، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاةً لاتتوارى شمسها بحجاب.
وبعد، فإن خير ماصرفت الهمم إلى تشييد مبانيه، وتقييد مهمل رواعيه وملاحظة قاصيه وداني، المحافظة على كل مايرفع قدر الآل ويعليه، ويرد إليهم عنان الاعتناء ويثنيه.
ولما كاتب العترة الطاهرة النبوية وراث الوحي الذين آل إليهم ميزاته، وأهل البيت الذين حصل لهم من السؤدد آياته؛ وقد سأل الله هو المسؤول لهم القربى، وخصهم بمزايا حقيق بمثل متصرفهم أنه بها يحبى وأنها لهم تجبى: لما في ذلك من بركاتٍ ترضي سيد المرسلين وتعجبه، ويسطر الله الأجر لفاعله ويكتبه، وكان لابد لهم من رئيس ينضد سلكهم وينظمه، ويعظم فخرهم ويفخمه، ويحفظ أنسابهم، ويصقل بمكارمه أحسابهم، وينمي بتدبيره ريعهم، ويتابع تحت ظل هذه الشجرة الزكية مازكى ينعهم، ويحفظهم في ودائع النسل، ويصد عن شرف أرومتهم من الأدعياء المدعين بكل بسل، ويحرس نظامهم، ويوالي إكرامهم، ويأخذهم بمكارم الأخلاق، ويمدهم بأنواع الإرفاد والإرفاق، ويتولى ردع جانيهم إذا لم يسمع، ويتدبر فيه قوله: أنفك منك وإن كان أجدع، ولما كان فلان هو المشار إليه من بني هذه السلالة، وله من بينهم ميزة باطنة وظاهرة وإن كانوا كلهم شيئاً واحداً في الإجلال والإعظام، فقد تميزت من بين الأنامل السبابة على الخنصر والبنصر والوسطى والإبهام، وكم ثمر جني فضل بعضه على بعض في الأكل وهو يسقى بماء واحد، وقد امتاز على بني هاشمٍ سيد المرسلين عليه أفضل الثلاة والسلام- اقتضى حسن الرأي المنيف، أن رسم بالأمر الشريف- لابرح يختار وينتقي، ويجتبي من يخشى الله ويتقي- أن تفوض إليه نقابة الأشراف الطالبيين على عادة من تقدمه من النقباء السادة.
فليجمع لهم من الخير مايبهج الزهراء البتول فعله، ويفعل مع أهله وقرابته منهم ماهو أهله، وليحفظ مواليدهم، ويحرز أسانيدهم، ويضبط أوقافهم، ويعتمد إنصافهم، ويثمر متحصلاتهم، ويكثر بالتدبير غلاتهم، ويأخذ نفسه بمساواتهم، في جميع حالاتهم، وليأخذهم بالتجمع عن كلمايشين، والعمل بما يزين، حتى يضيفوا إلى السؤدد حسن الشيم، وإلى المفاخر فاخر القيم، وكل مايفعله معهم من خير أو غيره هو له وعليه، ومنه وإليه، والله يحفظه من خلفه ومن بين يديه، بمنه وكرمه! وهذه نسخة وصية لنقيب الأشراف أوردها في التعريف فقال: ونحن نجلك عن الوصايا إلا ما نتبرك بذكره، ويسرك إذا اشتملت على سره، فأهلك أهلك؛ راقب الله ورسوله جدك صلى الله عليه وسلم فيما أنت عنه من أمورهم مسؤول، وارفق يهم فهم أولاد أمك وأبيك حيدرة والبتورة، وكف يد من علمت أنه قد استطال بشرفه فمد إلى العناد يدا، وأن الأعمال محفوظة ثم معروضة بين يدي الله فقدم في اليوم ماتفرح به غدا، وأزل البدع التي ينسب إليها أهل الغلو في ولائهم، والعلو فيما يوجب الطعن على آبائهم: لأنه يعلم أن السلف الصالح رضي الله عنهم كانوا منزهين عما يدعيه خلف السوء من افتراق ذات بينهم، ويتعرض منهم أقوام إلى مايجرهم إلى مصارع حينهم، فللشيعة عثرات لاتقال، من أقوال ثقال، فسد هذا الباب سد لبيب، واعمل في حسم مواده عمل أريب، وقم في نهيهم والسيف في يدك قيام خطيب، وخوفهم من قوارعكمواقع كل سهم مصيب؛ فما دعي بحي على خير العمل إلى خير من الكتاب والسنة والإجماعفانظم في نادي قومك عليها عقود الاجتماع. ومن اعتزى إلى اعتزال، أو مال إلى الزيدية في زيادة مقال، أو ادعى في الأئمة الماضين مالم يدعوه، أو اقتفى في طرق الإمامية بعض ما ابتدعوه، أو كذب في قول على صادقهم، أو تكلم بما أراد على لسان ناطقهم؛ أوقال: إنه تلقى عنهم سراً ضنوا على الأمة ببلاغه، وذادوهم عن لذة مساغه، أو روى عن سوم القيفة والجمل غير ماور أخباراًأو تمثل بقول من يقول: عبد شمس قد أوقدت لبني هاشم ناراً أو تمسك من عقائد الباطن بظاهر، أو قال إن الذات القائمة بالمعنى تختلف في مظاهر، أو تعلق له بأئمة الستر رجاء، أو انتظر مقيماً برضوى عنده عسل وماء، أو ربط على السرداب فرسه لمن يقود الخيل يقدمها اللواء؛ أو تلفت بوجهه يظن علياً كرم الله وجهه في الغمام، أو تفلت من عقال العقل في اشتراط العصمة في الإمام. فعرفهم أجمعين أن هذا من فساد أذهانهم، وسوء عقائد أديانهم؛ فإنهم عدلوا في التقرب بأهل هذا البيت الشريف عن مطلوبهم، وإن قال قائل إنهم طلبوا فقل له: كلا بل ران على قلوبهم.
وانظر في أمور أنسابهم نظراً لايدع مجالاً للريب، ولايستطيع معه أحد أن يدخل فيهم بغير نسب، ولايخرج منهم بغير سبب، وساوق المتصرفين في أموالهم في كل حساب واحفظ لهم كل حسب. وأنت أولى من أحسن لمن طعن في أسانيد هذا الحديث الشريف أو تأول فيه على غير مراد قائله صلى الله عليه وسلم تأديباً، وأراهم مما يوصلهم إلى الله تعالى وإلى رسوله طريقاً قريباً، ونكل بمن علمت أنه قد مالأ على الحق أو مال إلى فريق الباطل فرقاً، وطوى صدره على الغل وغلب من أجله على ماسبق في علم الله تعالى من تقديم من تقدم حنقاً، وجار وقد أوضحت لهم الطريقة المثلى طرقاً، واردعهم إن تعرضوا في القدح إلى نضال نصال، وامنعهم فإن فرقهم كلها وإن كثرت خابطة في ظلام ضلال، وقدم تقوى الله في كل عقد وحل، واعمل بالشريعة الشريفة فإنها النسب الموصول الحبل.
واعلم أن المقر الشهابي بن فضل الله قد ذكر في التعريف عدة وصايا لجماعة من أرباب السيوف، لم يكتب لأحد منهم في زماننا، بل رفض استعمالها وأهمل. ونحن نذكرها، حفظاً لذكرها، واحتياطاً أن يقتضي الحال في زمنٍ كتابة شيءٍ منها.
إحداها- وصية أتابك المجاهدين.
وقد تقدم في الكلام على ترتيب وظائف الديار المصرية أن أصله أطابك بالطاء المهملة ومعناه الأب الأمير، وأن أول من لقب بذلك زنكي أطابك صاحب الموصل، ثم غلبت فيه التاء المثناة بدل الطاء، وهي: وأنت ابن ذلك الأب حقيقة، وولد ذلك الوالد الذي لم تعمل له إلا دماء الأعداء عقيقة؛ وقد عرفت مثله بثبات الجنان، وصلت بيدك ووصلت إلى مالم يصل إليه رمح ولاقدر عليه سنان، ولم يزاحمك عدو إلا قال له: أيها البادي المقاتل كيف تزاحم الحديد، ولاسمي اسمك لجبار إلا قال له: وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ماكنت منه تحيد. وأنت أولى من قام بهذه الوظيفة، وألف قلوب هذه الطائفة التي ماحلم بها حالم إلا وبات يرعد خيفة؛ فليأخذ هذا الأمر بزمامه، وليعمل الله ولإمامه، وليرم في حب البقاء الدائم بنفسه على المني، ولينادم على معاقرة الدماء زهور سكاكينه الحني، واطبع منهم زبراً تطأول السيوف بسكاكسنها، وتأخذ بها الأسود في عرينها، وتمتد كأنها آمال، لما تريد، وترسل كأنها آجال، ولهذا هي إلى كل عدو أقرب من حبل الوريد، وأذك منها شعلاً إذا دعيت بأحسابها لاتجد إلا متحامياً، وارم منهم سهاماً إذا دعيت بأنسابها الإسماعيلية فقد جاء اسماعيل كان رامياً، وفرج بهم عن الإسلام كل مضيق، واقلع عن المسلمين من العوانية كل حجر في الطريق، وصرف رجالك الميامين، وتصيد بهم فإنهم صقور ومناسرهم السكاكين، واخطف بهم الأبصار فبأيمانهم كل سكينة كأنها البرق الخاطف، واقطف الرؤوس فإنها ثمرات أينعت لقاطف، واعرف لهم حقهم وضاعف لهم تكريماً، وأدم لهم بنا براً عميماً، وقدم أهل النفع منهم فقد قدمهم الله {وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً} واعلم أنهم مثل الوحوش فزد في تأنيسهم، واشكر إقدامهم فطالما اقتحموا على الملوك وماهأبوا يقظة حرسهم، وارفع بعضهم على بعض درجاتٍ في نفقات تسافيرهم وقعود مجلسهم، ولاتسو بينهم فيما هم سواء لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم. واصل هذه الدعوة مازالت تنتقل بالمواريث حتى انتهت إلينا حقوقها، وأومضت بنا حيث خلعت هياكلها بجرعاء الحمى بروقها؛ والله تعالى ييوقفه ويرشده، ويطول باعه لما قصرت عنه سواعد الرماح ووصلت إليه يده.
الثانية- وصية أستاذ الدار:
وليتفقد أحوال الحاشية على اختلاف طوائفها، وأنواع وظائفها، وليرتبها في الخدمة على مايجب، وينظر في أمورهم نظراً لايخفى معه شيء مما هم عليه ولايحتجب، وليبدأ في أمورهم نظراً لايخفى معه شيء مما هم عليه ولايحتجب، وليبدأ بمهم السماط المقدم الذي يقدم، ومايتنوع فيه من كل مطعم، ومايمد منه في كل يوم بكرة والعصر، ومايستدعى معه من الطواريء التي لايحدها الحد ولايحصرها الحصر، وأحوال المطبخ الكريم الذي منه ظهور تلك المخافي، ووفاء ذلك الكرم الوافي، والتقدم إلى الأمناء والمشرفين فيه بأمانة الإنفاق، وصيانة المآكل مما يعاب على الإطلاق. ثم أمر المكشروب وماتغلق عليه أبواب الشراب خاناه السعيدة من لطائف مأكول ومشروب، وشيءٍ عزيزٍ لايجود إلا فيها إذا عز المطلوب، ومراجعة الأطباء فيما تجري عليه قوانينها، وتشب لطبخه من حمر اليواقيت كونينها، وإفراز ماهو للخاص الشريف منها وماهو للتفرقة، ومالايصرف إلا بخط الطبيب ولايسلم إلا إلى ثقة. ثم الطشت خانها السعيدة التي هي خزانة اللباس، وموضع مانبرز به من الزينة للناس، ومايحتاج إليه من آلات التطبيب، ومايعين لها من الصأبون وماء الورد والطيب، وغير ذلك من بقية ماهي مستقرة، ويؤخذ منها مستدرة، ومن يستخدم بها ممن برأ من الريب، وعرف بالعفاف والأدب، وعلم أنه من أهل الصيانة، وعلى ماسلم إليه ومن خالطه الأمانة. ثم الفراش خاناهوماينصب فيها من الخيام، ومايكون فيها من فرش سفر ومقام، وشمع يفضض كافور كافوريته آبنوس الظلام. ثم غلمان الإصطبل السعيد والنجابة وإن كان إلى سواء استخدامهم، ولدي غيره مستقرهم ومقامهم، لكنهم كاخرجوا من عديده، ولايروقهم ويروعهم إلا حسن وعده وخشن وعيده. ثم المناخات السلطانية ومابها من جمال، ومايسرح فيها من مالٍ وجمال، ومن يستخدم فيها من سيروان ومهمرد، ومافيها من قطار مزدوج وفرد؛ فيوفر لهذه الجهة نصيباً من النظر يشاهد أمورها وقد غابت في الأقطار، وتفرقت كالسحب يلزمها القطار القطار؛ وليكونوا على باله فإنهم يسرقون الذرة من العين ومعهم الذهب العين محملاً بالقنطار،؛ فليحسن منهم الارتياد، وليتخير أرقهم أفئدة فإنهم بكثرة ملازمتهم للإبل مثلها حتى في غلظ الأكباد. وطوائف المعاملين، والأبقار ومن عليها من العاملين، وزرائب الغنم وخولها ورعائها، وأصناف البيوت الكريمة. وماتطلبه في استدعائها، ونفقات الأمراء المماليك السلطانية في إهلال كل هلال، ومايصرف في كساهم على جاري عادتهم إو إذا دعت إليه ضرورة الحال، ومايؤخذ عليه خطه من وصولات تكتب، واستدعاآت تحسب من لوازمه وهي للكثرة لاتحسب؛ فليكن لهذا مراعياً، ولأموره واعياً، ولما يجب فيه دون مالايجب مستدعياً وإليه داعياً؛ وهو كبير البيت وإليه يرجع أمر كل مملوك ومستخدم، ويأمره يؤخر من يؤخر ويقدم من يقدم، ومثله يتعلم منه ولايعلم، وعصاه على الكل محمولة على الرقاب، مبسوطة في العفو والعقاب، ومكانه بين يدينا حيث نراه ويرانا ولدينا قاب قاسين أو أدنى من قاب.
وعليه بتقوى الله فيها تمام الوصايا وكما الشروط، والأمر بها فعصاه محكمه وأمره مبسوط، وكل مايناط بنا: من خاصة أمورنا في بيتنا- عمره الله ببقائناوزارد تعميره- بتدبيره منوط.
الثالثة- وصية أمير آخور.
وقد تقدم في الكلام على الألقاب في المقالة الثالثة أنه مركب من لفظين: عربي وهو أمير ومعناه معروف، وأخور فارسي ومعناه العلف، والمعنى أمير العلف. وكأنه في الأصل كان هو المتولي لعلوفة الخيل، ثم ارتفعت وظيفته حتى صار صاحبها من أكبار الأمراء القمديمن؛ وهو يتحدث في الاصطبلات السلطانية وماحوته من خيل وبغال ودواي وجمال وأثاثٍ، وغير ذلك.
وهذه نسخة وصيته:
وليكن على أكمل مايكون من إزاحة الأعذار، والتأهب لحركاتنا الشريفة في ليل كان أو نهار، مقدماً الأهم فالأهم من الأمور، والأبدأ فالأبدأ من تقديم مراكبنا السعيدة وتهيئة موكبنا المنصور، وترتيب ذلك كله على ما جرت به العوائد، وتحصيل ماتدعو الحاجة إليه على قدر الكفاية والزوائد، والنظر في جميع إصطبلاتنا الشريفة، والجشارات السعيدة، وخير البريد، والركايب المعدة لقطع كل مدى بعيد، ومايجتمع في ذلك وينقسم، ومايركب منها ويجنب مما يسم الأرض بالبدور والأهلة من كل حافر ومنسم، وماهو برسم الإطلاق، ومايعد لمماليك الطباق، وخيل التلاد، ومايجلب من قود كل قبيلة من القباشل ويجيء من كل بلدٍ من البلاد، والمشترى مما يباع من المواريث ويستعرض من الأسواق، ومايعد للمواكب وللسباق؛ وليجل رأيه في ترتيب ذلك كله في مراتبه على ماتقتضيه المهمات، والاحتراز في التلاد مما لعله يبدل ويقال هو هذا أو يؤخذ بحجة أنه مات؛ وليجتهد في تحقيق مانفق، وليحرره على حكم مايتحقق عنده لاعلى مااتفق، وكذلك فليكن فحصه عمن ستخدم عنده من الغلمان، ولايهمل أمورهم مع معاملتهم بالإحسان، ولايستخدم إلا من تشكر سيرته في أحواله، وتعرف خبرته فيما يراد من أمثاله؛ وكذلك الركابة الذين تملك أيديهم أعنة هذه الكرائم، والتحرز في أمرهم ممن لعله يأوي غليهم من أرباب الجرائم، والأوشاقيه الذين هم مثل مماليكه وهم في الحقيقة إخوانه، وجماعة المباشرين الذين هم في مباشرة الإصطبلات السعيدة ديوانه؛ وكل هؤلاء يلزمهم أمثالهم من السلوك، ويعلمهم بما يجب عليهم أن يتعلموه من خدمة الملوك، ولايسمح لأحد منهم في أمر يفضي إلى إخلال، ولايقتضي فرط إدلال، وليقم أودهم بالأدب فإن الأدب مافيه إذلال؛ وكل هؤلاء الطوائف ممن يتجنب العامة مخالطتهم بما طار في أيام من تقدم عن أمثالهم من سوء السمعة، ويتخوف منهم السرعة؛ فليكن لهم منك أعظم زاجر، ومن شكي إليك منهم فسارع إلى التنطيل به وبادر، واشهر من فعلك لهم مايوجب منهم الطمأنينة، ولايعود أحد بعده يكذب يقينه؛ وأمراء أخورية الذين هم أتباعك، وبهم يمتد باعك، هم بحسب ما تجعلهم بصدده، ومامنهم إلا من يقدر أن يتعدى حده في مقام قدمه وبسط يده؛ فاجعل لكل منهم مقاماً معلوماً، وشيئاً تجعل له فيه تحكيماً. وتثمين الخيول المشتراة والتقادم قومها بأهل الخبرة تقويم عدل، وقل الحق ولايأخذك فيه لوم ولاعذل؛ ومايصرف من العليق برسم الخيول السلطانية ومن له من صدقاتنا الشريفة عليق، مر بصرفه عند الاستحقاق واضبطه بالتعليق، وتصرف في ذلك كله ولاتتصرف إلا تصرف شفيق، وصنه بأقلان جماعة الديوان ولاتقنع في غير أوقات الضرورة برفيق عن رفيق؛ وكذلك البراسيم السلطانية أصلاً وزيادة، ولا تصرف إلا مانأمر به وإلا فلا تخرج فيه عن العادة؛ ونزلاؤك من أمراء العربان عاملهم بالجميل، وزد في أخذ خواطرهم ولو ببسط بساط الأنس لهم فما هو قليل، لتتضاعف رغبتهم في كل عام، وليستدلوا ببشاشة وجهك لهم على مابعده من الأنعام؛ وبغال الكؤوسات السعيدة والأعلام المنصورة، وأثقال الخزانة العالية المعمورة، واجعلها من المهمات المقدمة، والمقدمات لنتائج أيام النصر المعلمة، ورتبها في مواقفها، وأتمها أتم مايكون من وظائفها؛ فبها تثبت مواقف العسكر المنصور، وإليها يأوي كل مستظل ورحى الحرب تدور، وغير ذلك من قماش الإصطبلات السعيدة من الذهب والفضة والحرير، وكل قليل وكثير، باشره مباشرة من لايتخلى، وأحصه خرجاً ودخلاً؛ وإياك والأخذ بالرخص، أو إهمال الفرص، أو طلب فائت جرم أهملته حتى نكص.
الرابعة- وصية مقدم المماليك.
وقد تقدم في الكلام على أرباب الوظائف أنه يتحدث في أمر المماليك السلطانية والحكم بينهم، ويركب خلفهم إذا ركب السلطان كأنه يحفظهم والوصية هي:
وليحسن إليهم، وليعلم أنه واحد منهم ولكنه مقدم عليهم، وليأخذ بقلوبهم مع إقامة المهابة التي يخيل إليهم بها أنه معهم وخلفهم وبين يديهم، وليلزم مقدم كل طبقة بما يلزمه عند تقسيم صدقاتنا الجارية عليهم: من ترتيب الطباق، وإجراء ساقيةٍ جارية من إحساننا إليهم ولاينس السواق؛ وليكن لأحوالهم متعهداً، ولأمورهم متفقداً، وليستعلم أخبارهم حتى لايزال منها على بصيرة، وليعرف ماهم عليه مما لايخفى عليه فإنهم وإن لم يكونوا له أهلاً فإنهم جيرة، وليأمر كلاً منهم ومن مقدميهم والسواقين لهم بما يلزمهم من الخدمة، وليرتبهم على حكم مكانتهم منا فإن تساووا فليقدم من له قدمة، وليعدل في كل تفرقة، وليحسن في كل عرض ونفقة، وليفرق فيهم مالهم من الكساوى ويسبل عليهم رداء الشفقة، وليعد منهم لغابنا المحمي سباعاً تفترس العادية، وليجمل النظر في أمر الصغار منهم والكبار أصحاب الطبقات العالية، وليأخذهم بالركوب في الأيام المعتادة، والدخول إلى مكان الخدمة الشريفة والخروج على العادة، وليدرهم في أوقات البياكير والأسفار نطاقاً دائر الدهليز المنصور، وليأمرهم أمراً عاماً بأن لايركب أحد منهم إلا بدستور ولاينزل إلا بدستور، وليحترز عليهم من طوائف الغلمان، ولايستخدم منهم إلا معروفاً بالخير ويقيم عليهم الضمان، وليحرر على من دخل عليهم وخرج، ولايفتح لأحد منهم إلا من عليم أنه ليس في مثله حرج، ولايدع للريبة بينهم مجالاً للأضطراب، وليوص مقدميهم بتفقد مايدخل إليهم فإن الغش أكثره من الطعام والشراب، وليدم مراجعتنا في أمرهم فإن بها يعرف الصواب، وليعمل بما نأمره به ولايجد جوى في جواب.
الضرب الثاني ممن يكتب له بالولايات بالديار المصرية أرباب الوظائف الدينية:
وهو على طبقتين:
الطبقة الأولى: أصحاب التقاليد ممن يكتب له بالجناب العالي:
وتشتمل على عدة وظائف:
الوظيفة الأولى: القضاء:
قد تقدم في المقالة الثانية في الكلام على ترتيب الوظائف أن الديار المصرية كان يليها قاضٍ واحد، إلى أن كانت الولة الظاهرية بيبرس في أوائل الدولة التركية، وقاضي القضاة يومئذ القاضي تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز الشافعي، فاضطرب الأمر لاختلاف المذاهب، فاقتضى رأي السلطان تقرير أربعة قضاة من كل مذهب قاض، وقرر القاضي تاج الدين ابن بنت الأعز في قضاء قضاة الشافعية على حاله، وكتب لكل منهم تقليد بذلك؛ ثم خص قاضي القضاة الشافعية بالتولية في بلاد الريف دون غيره من القضاة الثلاثة، واستمر الأمر على ذلك إلى الآن. إلا أنه لما حدث بديوان الإنشاء تنويع مايكتب لأرباب اللأقلام إلى تقاليد، في قطع الثلثين، وتفاويض، وتواقيع، في قطع النصف، تقرر الحال على أن يكتب للقضاة الأربعة تواقيع في قطع النصف، تقرر الحال على أن يكتب للقضاة الأربعة تواقيع في قطع لنصف بالمجلس العالي، ولم يزل الأمر على ذلك إلى أن ولي القاضي عماد الدين أحمد الكركي الأزرقي قضاء قضاة الشافعية في أول سلطنة الظاهر برقوق الثانية، وأخوه القاضي علاء الدين علي كاتب السر، فعني بأخيه عماد الدين المذكور، فكتب له تقليداً في قطع الثلثين بالجناب العالي. وبقي الثلاثة على ماكانوا عليه من كتابة التواقيع إلى أن ولي القاضي جمال الدين محمود الحلبي القيسري المعروف بالعجمي رحمه الله قضاء قضاة الحنفية في الدولة الظاهرية أيضاً، مضافاً إلى نظر الجيش، فكتب له تقليد في قطع الثلثين بالجناب العالي أيضاً؛ وبقي المالكي والحنبلي على ماكانا عليه من كتابة التواقيع في قطع النصف. ولم يزل الأمر على ذلك إلى أن ولي قاضي القضاة جمال الدين يوسف البساطي قضاء قضاة المالكية في الدولة الناصرية فرج بن الظاهر برقوق فأنشأت له تفويضاً وكتبت له به، ولم يكن أحد ممن عاصرناه كتب له تفويض غيره. ثم لما ولي الشيخ جمال الدين عبد الله الأقفهيس قضاء المالكية، كتب له توقيع في قطع النصف، إلا أنه كتب له بالجناب العالي كما يككتب لأصحاب التقاليد، وجرى الأمر فيمن بعده على ذلك. ولم يبق من هو على النمط الأول سوى قاضي القضاة الحنايلة، ويوشك أن يكتب لكل من المالكي والحنبلي أيضاً تقليد: لمساواتهم بغيرهم من الأربعة. وقد ذكرت مايكتب لهم من تقاليد وتواقيع هنا جمعاً للمفترق وتقريباً للمأخذ وهأنا أذكر مايكتب للأربعة على الترتيب:
الأول: قضاء القضاة الشافعية وهذه نسخة تقليدٍ بقضاء القضاة الشافعية، كتب به لقاضي القضاة تاج الدين ابن بنت الأعز رحمه الله، حين استقر أحد القضاة الأربعة بعد انفراده بالوظيفة على ماتقدم، وهي من إنشاء القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر رحمه الله تعالى، وهي: الحمد لله مجرد سيف الحق على من اعتدى، وموسع مجاله لمن راح إليه واغتدى، وموضح طريقه لمن اقتاد واقتدى، ومزين سمائه بنجوم تستمد الأنوار من شمس الهدى، الذي أعذب لشرعة الشريعة المحمدية ينبوعاً، وأقامها أصلاً مد بثمار الرشد فروعاً. نحمده على نعمه التي ألزمتنا لتشييد مبانيها شروعاً، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نعمر بها من القلوب والأفواه ربوعاً، ونصلي على سيدنا محمد الذي أرسله الله إلى الخلائق جميعاً، وقام بعبء الأمر يصنع حسناً ويحسن صنيعاً، صلى الله عليه وعلى آله صلاةً لايبرح برقها ملموعاً، ولاينفك وترها بالتسليم مشفوعاً.
وبعد، فإن أحق من جدد له شرف التقريض، وخلد له إرضاء الأحكام وإمضاء التفويض، وريش جناحه وإن لم يكن المهيض، وفسح مجاله وإن كان الطويل العريض، ورفع قدره على الأقدار، وتقسمت من سحائبه الأنواء ومن أشعته الأنوار، من غزر مده فجرت منه في رياض الحق الأنهار، وغداً تخشع لتقواه القلوب وتنصت لقوله الأسماع وترنو لمحياه الأبصار، وقد أوفى من إرشاده للأمة لطفاً فلطفاً، وأوقد من علمه جذوةً لاتخبو وقبساً بلاهوى لايطفى، وفات النظراء والنظار فلايرسل أحد معه طرفاً ولايمد إليه من حيائه طرفاً، واحتوى من علوم الشريعة على ماتفررق من غيره، وغدا خير دليل إلى الحق فلا يقتدى في المشكلات إلا برأي اجتهاده ولايهتدى في المذاهب إلا بسيره، وكان لفلك الشريعة المحمدية قطباً، ولجثمانها قلباً ولسوارها قلباً؛ ولدليلها برهاناً، ولأنسانها عيناً ولعينها إنساناً؛ فكم أرضى بني الأنام على الأيام، وكم أغضى حياءً مع قدرته على الانتقام، وكم أمضى لله حكماً لاانفصال لعروته ولا انفصام، وكم أمضى لله حكماً لاانفصال لعروته ولا انفصام، وكم قضى بالجور في ماله وبالعدل في الأيتام؛ فلو استعداه الليل على النهار لأنصفه من تعديه، ولم يداجه لما ستره عليه من تعديه في دياجيه؛ فهو الصادع بما أمر الله به ولو على نفسه، والمسترد الحقوق الذاهبة من غير محاباة حتى لغده من يومه وليومه من أمسه.
ولما كان قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب ممن هو في أحسن هذه السمات قد تصور، وكات نجوم السماء السماء بأنواره تتكثر، وتجوهر بالعلوم فأصبح حقيقةً هو التاج المجوهر، وله مزايا السؤدد التي لايشك فيها ولايرتاب، وسجايا الفضل التي إذا دخل إليه غيره من باب واحد دخل هو إليه من عدة أبواب؛ وهو شجرة الأحكام، ومصعد كلم الأحكام الحكام، ومطلع أنجم شرائع الإسلام، ومهبط وحي المقدمات والارتسام، ومجتمع رفاق القضايا في الحلال والحرام- خرج الأمر الشريف بتجديد هذا التقليد الشريف له بقضاء القضاة بالديار المصرية: فليستصحب من الحق ما هو ملي باستصحابه، وليستمر على إقامة منار الحق الذي هو موثق عراه ومؤكد أسبابه، وليحتلب من أخلاف الإنصاف ماحفله اجتهاده ليد احتلابه، عالماً بأن كل إضاءة إنارتها من قبسه، وإن استضاء بها في دياجي المنى، وكل ثمرة من مغترسه، وإن مد إليها يد الاجتنا، وكل جدول هو من بحره وإن بسط إليه راحة الاغتراف، وكل منهج هو من جادته وإن ثنى إلى سلوكه عنان الانصراف لاالانحراف؛ وهو بحمد الله المجتهد المصيب، والمادة للعناصر وإن كان نصيبه منها أوفر نصيب، وسجاياه يتعلم منها، كيف يوصى ويعلم، ومزاياه تقوم الأود، كيف يقوم، والله الموفق بمنه وكرمه! الثاني- قاضي القضاة الحنفية على مااستقر عليه الحال من لدن القاضي جمال الدين محمود القيسري وإلى آخر وقت. وموضوعها النظر في الأحكام الشرعية على مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه، ويختص نظره بمصر والقاهرة خاصة.
وهذه نسخة تقليد بقضاء قضاة الحنفية كتب به لمن لقبه شمس الدين، وهي:
الحمد لله الذي أطلع في أفق الدين الحنيف شمساً منيرة، ورفع درجة من جعله من العلم على شريعةٍ ومن الحكم على بصيرة، وقلد أمور الأمة لمن يعلم أن بين يديه كتاباً لايغادر صغيرة ولاكبيرة، ووفق لفصل القضاء من مشى على قدم أقدم الأئمة فسار في مذهبه المذهب أحسن سيرة، الذي أدخر للحكم في أيامنا الشريفة من نفائس العلماء أفضل ذخيرة، وقضى بإرجاء أمره لنختار له من تحلى به بعد العطل وكل قضاء خيرة، وأيقظ عنايتنا لمن رقد الدهر عن فضله فباتت عين الاستحقاق باستقرار رتبته قريرة.
نحمده حمد من توافت إليه النعم الغزيرة، وتوالت عليه المنن الكثيرة في المدد اليسيرة، وأخصبت في أيامه رياض الفضائل فهي بكل عالم عدم النظير نضيرة، وافتتح دولته برفع منار العدل فآمال أهل الظلم عن تعاطيه قاصرة وأيدي أهل الباطل عن الامتداد إليه قصيرة، وخص المناصب في ممالكه بالأكفاء فإذا تلبست بهم همم غيرهم عادت خاسئةً أو امتدت إليها أبصار من دونهم رجعت حسيرة.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تصلح العلن والسرية، وتصبح بها القلوب موقنة والألسن ناطقةً والأصابع مشيرة، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي بعث الله به الرسل مخبرةً وأنزل الكتب بمبعثه بشيرة، واجتباه من خير أمة من أكرم أرومة وأشرف عشيرة، وأظهر أنوار ملته إلا لمن أعمى الغي بصيرته وهل ينفع العمي شمس الظهيرة، وخصه بالأئمة الذين وفقهم للاستعانة بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة، وجعل علماءهم ورثة الأنبياءفلو ادعيت لأحكامهم العصمة لكانت بذلك جديرة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاةً نتقرب بدوامها إلى الله فيضاعفها لنا أضعافاً كثيرة، وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد، فإن أولى الأمور بأن تشاد قواعده، وتتعهد معاهده، ويعلى مناره، وتفاض بطلوع شمسه أنواره، ويحلى به بعد العطل جيده، وينظم في سلك عقود الأمة فريدة، وتكمل به قوى الدين تكملة الأجساد بقوى الطبائع الأربع، وتعمر ربوع الملة التي ليس بعدها من مصيف لملة ولامربع، وتثبت به قوائم الشرع التي ماللباطل في إمالة بعضها من مطمع، وتجلى به عمن ضاق عليه المجال في بعض المذاهب الغمة، ويستقر به عدد الحكام على عدد الأئمة المستقر على عدد الخلفاء الراشدين من خلفاء الأمة، ويمد به على الخلق جناح الرحمة وافر القوادم وراف الظلال، ويجمع به عليهم ماجمع الله في أقوال أئمتهم من الحق وماذا بعد الحق إلا الضلال، - أمر القضاء على مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت رضي الله عنه الذي اشتق الله له من الملة الحنيفية نسبة سرت في الآفاق، وأفاض عليه من مواد القياس الجلي كنوزاً نمت على الإنفاق، وعضد أيامه بوليي عهد قولهما حجة فيما تفردا به من الخلاف أو اجتمعا عليه من الوفاق؛ وعد من التابعين لقدم عهده، وسمي سراج الأمة لإضاءة نوره بهما من بعده.
ولما خلا بانتقال مباشرة الله تعالى، توقف مدةً على ارتياد الأكفاء، وارتياء من هو أهل الاصطفاء، واختيار من تكمل به رفعة قدره، ويعيد لدسته بتصدر على بساط سليمانه بهجة صدره، ويغدو لسر إمامه بعد إماتة هذه الفترة ياعثاً، ويصبح وإن كان واحد عصره لأبي يوسف ثانياً ولمحمد بن الحسن ثالثاً؛ ويسبه به البخي زهداً وعلماً، والطحاوي تمسكاً بالسنة وفهماً، ويغترف القدوري من يحره، ويعترف الحصري بالحصر عن إحصاء فضله وحصره، ويقف من مذهب ابن ثابت، على أثبت قدم وينتمي من فقه النعمان إلى فرع زاكٍ وأصل ثابت، وينشر من أحكامه ماإن وافق الأئمة فهو حجة قاطعة ومحجة ساطعة، أو خالفهم بمذهبه فهو رحمة واسعة، ونعمه وإن كانت بين الطرق فارقةً فإنها على الحق جامعة.
ولماكان فلان هو المنتظر لهذه الرتبة انتظار الشمس بعد الغسق، والمرتقب لبلوغ هذه المنزلة التي تقدمت إليها بوادر استحقاقه في السبق، والمعطوف على من وصف من الأئمة وإن تأخر عن زمانه عطف؛ وهو الذي يعدل دم الشهداء مداد أقلامه، وتضع الملائكة أجنحتها رضاً بما يصنع من نقل خطواته في طلب العلم وسعي أقدامه، ودخل من خشية الله تعالى في زمرة من حصر بإنما، وهجر المضاجع في طاعة الله لتحصيل العلم فلو عدت هجعاته لقلما، وهجر في إحراز الفضائل فقيد أوابدها، وأحرز شواردها، ولجج في بحار المعاني فغاص على جواهرها، ونظر نظرةً في نجوم العلوم فاحتوى على زهرها وارد خمائل الفضائل فاستولى على أزاهرها، وانتهى إليه علم مذهبه فبرز على من سلف، وجارى علماء عصره فوقفت أبصارهم عن رؤية غباره وماوقف، ونحا نحو إمامه فلوقابله يعقوب مع معرفته في بحث لانصرف، وتعين عليه الضاء وإن كان فرض كفاية لافرض عين، وقدمه الترجيح الذي جعل رتبته همزة استفهامٍ ورتبة غيره بين بين- اقتضى رأينا الشريف اختصاصه بهذا التمييز، والتنبيه على فضله البسيط بهذا اللفظ الوجيز.
فلذلك رسم أن يفوض إليه كيت وكيت. فليتول هذه الرتبة التي أصبح فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نائباً وبشرعه قائماً، ويتقلدها تقلد من يعلم ألأنه قد أصبح على حكم الله مقدماً على الله قادماً، ويتثبت تثبت من يعتصم بالله في حكمه فإن أحد الخصكين قد يكون ألحن بحجته وإن كان ظالماً، ويلبس لهذا المنصب حلة تمنع المبطل من الإقدام عليه، وتدفع الظالم عن التطأول إلى أمر نزعه الشرع من يديه، وتؤمن الحق من امتداد يدي الجور والحيف إليه، وليسوا بين الخصمين في مجلسه ولحظه، ويعدل بينهما في إنصاته ولفظه،: ليعلم ذو الجاه أنه مساوٍ في الحق لخصمه، مكفوف باستماع حجته عن الطمع في ظلمه، ولاينقض حكماً لم يخالف نصاً ولاسنةً ولاإجماعاً، وليشارك فيما لايجهله من القضايا غيره من العلماء ليتزيد بذلك مع اطلاعه اطلاعاً، وليغتنم في ذلك الاستعانة بآرائهم فإن الله تعالى لاينتزع هذا العلم انتزاعاً، وليسد مسالك الهوى عن فكره، ويصرف دواعي الغضب لغير الله عن المرور بذكره؛ وليجعل العمل لوجه الله نتيجة علمه، وليحكم بما أراه الله والله يحكم لا معقب لحكمه إن شاء الله تعالى.
الثالث- قاضي قضاة المالكية: وهذه نسخة تقليد بقضاء المالكية، لقاضي القضاة جمال الدين يوسف البساطي المقدم ذكره في العشر الأخير من رجب الفرد سنة أربع وثمانمائة، وهو: الحمد لله الذي شفع جلال الإسلام بجماله، وناط أحكامه الشرعية بمن اقترن بحميد مقاله جميل فعاله، وخص مذهب عالم المدينة بخير حاكم ماجرى حديثه الحسن يوماً إلا وكان معدوداً من رجاله، وعدق النظر في أحكامه بأجل عالم لو طلب له في الفضل مثل لعجز الزمان أن يأتي بمثاله.
نحمده على أن أخلف من النبعة الزكية صنواً زاكساً، وأدال من الأخ الصالح أخاً للعلوم شافياً، ولمنصبه العلي ولله الحمد وافياً، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مجرد سيف الحق على كل مبطل معاند، ومرهف حده القاضب لكل ملحدٍ عن سواء السبيل حائد، وأن سيدنا محمداً عبده ورسوله أفضل نبي فاق الأنام بفضله وعم البرية بعدله، وسد باب التوبة على منتقصه فلم تكن لتقبل توبة مثله، وكان إلى مالك مصيره فلا جرم قضى بإهدار دمه وتحتم قتله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين ذأبوا عن حمى الدين وذادوا، وسلكوا سبيل المعدلة إذ حكموا فما ضلوا عن سنن الطريق ولاحادوا، صلاةً تبقى ببقاء الدهور، ولاتزول بهجة جمالها بتوالي الأعوام والشهور، وسلم تسليمكاً كثيراً.
أما بعد، فإن أولى ماقصر عليه النظر، واستغرقت فيه الفكر وعر العيون فيه السهر، وصرفت إليه الهمم، ورغبت في البراءة من تخلفه الذمم- النظر في أمرمنصب الشرع الشريف الذي يأوي الملهوف إلى ظله، ويلجأ المستجير إلى عدله، ويتعلق العفاة بوثيق عروته وميتن حبله، وبرهبته يكف الظالم عن ظلمه، وينتصف الخصم من خصمه، ويذعن العاصي إلى طاعته وينقاد الأبي إلى حكمه، ويأتم به الحائر في دجى الجهل فيستضيء بنوره ويهتدي بنجمه؛ لاسيما مذهب مالكٍ الذي لم يزل للدين من أهل الإلحاد مثئراً، وللقصاص من أهل العناد مبتدراً، وبسل سيف الحق على الطغاة المتمردين مشتهراً؛ ففاز من سطوات الإرهاب بأرفع المراتب، وعلا رقاب الملحدين بأرهف القواضب، وخص من سفك دماء المبطلين على البت بما لم يشاركه فيه غيره من المذاهب؛ فوجب أن يختار له من ينص الاختبار على أنه أهل للاختيار، ويقطع المنافس أنه الراجح وزناً عند الاعتبار، وتأخذ مناقبه البسيطة في البسط فلا تنفذ إذا نفدت مناقب غيره المركبة عند الاعتبار، وتأخذ مناقبه البسيطة في البسط فلا تنفد إذا نفدت مناقب غيره المركبة عند الاختصار، ويشهد له ضده بالتقدم في الفضل وإنم لم تتقدم منه دعوى، ويعترف له بالاستحقاق خصمه فيتمسك من عدم الدافع فيه بالسبب الأقوى، ويحكم له بعلو الرتبة مناوئه فيرتفع الخلاف وتنقطع النجوى، ويسجل له حاسده بثبوت المفاخر المحكوم بصحتها فلا ينقضها حالكم وإن بلغ من تدقيق النظر الغاية القصوى، وتنفذ أحكامه في البرية فلا يوجد لها مخالف، وتحذر شيعة الباطل سطوته فلا يرى لباطل محالف، ويشتهر عنه من نصرة الحق مايأمن معه المستضعف الخائف، ويتحقق فيه من قيام العدل مايرتدع به الظالم الحائف، ويستوي عنده في لزوم الحق القوي والضعيف، ولايفرق في لازمه بين المشروف والشريف، ولايميز في حمل الأعباء الشرعية بين الشاق وغيره ولابين الثقيل والخفيف، ولايحابي قريباً بقرابته، ولا جليلاً لجلالته، ولا طالماً خوف ظلمه ولاذا استطالةٍ لاستطالته، ولايستزله ذو لسن للسنة ولابليغ لبلاغته، ولايخالف بين الصديق الملاطف وغيره إلا في منع قبول شهادته.
ولما كان المجلس العالي القاضوي، الكبيري، الإمامي، العالمي، الصدري، الرئيسي، الأوحدي، العلامي، الكاملي، الفاضلي، المفيدي، الفريدي، الحجي، القدوي، الخاشعي، الناسكي، الحاكمي، الجمالي، جمال الإسلام، شرف الأنام، حاكم الحكام، أوحد الأئمة، مفيد الأمة، مؤيد الملة، معز السنة، شمس الشريعة، سيف المناظرين، لسان المتكلمين، حكم الملوك والسلاطين، خالصة أمير المؤمنين؛ أبو المحاسن يوسف البساطي المالكي- أدام الله تعالى نعمته- هو المراد من هذه الصفات، التي وقعت من محله الكريم موقعها، والمقصود من هذه السمات، التي ألفت من سيرته الفاضلة موضعها، وقارع صفاة هذه الذروة التي ماكان ينبغي لغيره أن يقرعها، وشمس الفضل الحقيق بمثلها أن لايتوارى جمالها بحجاب الغروب، وفاصل مشكلات القضايا إذا اشتد إشكالها وعظمت في فصلها الخطول، ومتعين الولاية التي إذا كانت في حق غيره على الإباحة كانت في حقه على الوجوب؛ وقد درب الأحكام وخبرها، وعرف على التحقيق حالها وخبرها، وورد من مشاربها الرائقة أصفى المناهل فأحسن وردها وصدرها، ونفست جواهر فوائده ففاقت جواهر المعادن، وغطت محاسن فضله فضائل غيره ولاتنكر المحاسن ليوسف وهو أبو المحاسن؛ فعلومه المدونة بالبيان والتحصيل كافلة، ومقدمات تنبيهاته بنتائج النوارد الحسنة متواصلة، وتهذيب ألفاظه المنقحة تؤذن بالتحرير، وعيون مسائلة المتواردة لاتدخل تحت حصر ولاتقدير؛ فلو رآه مالكلقال: ماأعظم هذه الهمة، أو أدركه ابن القاسم لوفر من الثناء عليه قسمة، أو عاصره ابن عبد الحكم لحكم له بأن سهمه قد أصاب الغرض وغيره أطاش الريح سهمه، أو عاينه أشهب لقال قد ركب هذا الشهباء أنى يلحق، أو سمع ابن وهب كلامه لقطع بأنه هية ربانية وبمثله لم يسبق، أو بلغ ابن حبيب أو استشعر بقدومه ابن سيرين لبشر به، أو جاوره ابن عوف لعاف مجاورة غيره أو مجاوزة طنبه، أو جالسه ابن يونس لتأنس بمجالسته، أو حاضره أبو الحسن بن القصار لأشجى قلبه بحسن محاضرته، أو جاروه ابن عوف لعاف مجاورة غيره أو مجاوزة طنبه، أو جالسه ابن يونس لتأنس بمجالسته، أو حاضره أبو الحسن بن القصار لأشجى قلبه بحسن محاضرته، أو جاراه القاضي عبد الوهاب لقضى بعلو مكانته، أو اتصل ذكره بالمازري لزرى على مازر لبعدها عن دار إقامته، أو اطلع القاضي عياض على تحقيقاته لاستحسن تلك المدارك، أو ناظره ابن عبد السلام لسلم أنه ليس له في المناظرة نظير ولا في تدقيق البحث مشارك، أو مر به ابن الجلاب لجلب فوائده إلى بلاده، أو حضره ابن الحاجب لتحقق أنه جامع الأمهات على انفراده.
هذا وقد حف بجلال لاعهد لأحد مثله، ولاطاقة لفاضل بمقاومة فضله، ولايسمح الزمان بنظيره من بعده كما لم يسمح به من قبله؛ فاجتمع من جمال الجلال، وجلال الجمال، مالم يكن ليدخل تحت الإمكان، وعزز عددهما من أعلام الأئمة بثالث ورابع فقام بناء الدين من المذاهب الأربعة على أربعة أركان؛ ولاعبرة بما يذهب إليه الذاهبون من كراهة التربيع تبعاً للمنجمين في اعتقادهم الفاسد، فقد ورد أن زوايا الحوض على التربيع وذلك فيه أعظم دليل وأقوم شاهد.
وكان مذهب مالك رحمه الله هو المراد من هذه الولاية بالتخصيص، والمجلس الجمالي المشار إليه هو المقصود بهذا التفويض بالتنصيص- اقتضى حسن الرأي الشريف أن نوفي مرتبته السنية حقها، ونبويء النعم مستحقها، ونملك رقاب المعالي مسترقها، ونقدم على طائفة المالكية من أضحى لهم جمالاً، ونتحفهم بمن أمسى لعزهم كمالاً، ونفوض قضاء مذهبهم إلى من إذا جرى في ميدان حكمه قاللتمحاسن قضاياه: هكذا هكذا وإلا فلا لا، ونسند الأحكام الشرعية إلى مامن هو بها أعرف، ونقفها على من عرف أنه على الحقائق ماضٍ وعند السنة يتوقف، ونعدق أمرها بمن ألف النزاهة فنكرة المطامع عنده لا تتعرف، ونكل النظر فيها إلى من أمسى لشروط الاستيجاب جامعاً، ونقدم في ولاية هذا المنصب من شفع له استحقاقه وكفى بالاستحقاق شافعاً.
فلذلك رسم بالأمر الشريف- لازال يبسط لأوليائه من بساط الأنس ما كان مطوياً، وينيلهم من رغائب الآمال ماكان عنهم من سالف الأزمان مزوياً- أن يفوض إليه قضاة مذهب عالم المدينة، وإمام دار الهجرة، مالك بن أنس الأصبحي: قدس الله تعالى روحه. فليتلق مافوض إليه بأفضل تلق يليق بمثله، ويتقبله تقبلا يناسب رفعه محله، ويبتهج بأجل تفويض لم يسمح بتمنيه لآخر من قبله.
ومن أهم مانوصيه به، ونوجه القول إليه بسببه، تقوى الله تعالى التي هي ملاك الأمر كله، وقوام الدين من أصله، والاشتمال عليها في سره وجهره والعمل بها في قوله وفعله؛ ثم بر الخلق والإحسان إليهم، والتجاوز عنهم إلا فيما أوجبه الشرع من الحقوق عليهم؛ ففي التقوى رضا الله وفي البر رضا الله ورضا الخلق فقد حصل على خير الدنيا والآخرة؛ ووراء ذلك قاعدة في الوصايا جامعة، وتذكرة لذوي الذكرى نافعة، وهي أن يتأمل أحوال غيره تأمل من جعلها لنفسه مثالاً، ولنسجه منوالاً؛ فما ساتحسنه منها أتى مثله، وكااستقبحه تحنب فعله؛ واقفاً في ذلك عند ماوردت به الشريعة المطهرة بنص صريح أو تأويل صحيح، معرضاً عن العقليات المحضة فلا مجال للعقل في تحسين ولاتقبيح.
وأما أدب القضاء الجاري ذكر مثله في العهود، والنظر في أمر النواب وكتاب الحكم والشهود، فهو به أدرب وأدرى، وبمعرفة ذلك لهم وعليهم أحق وأحرى؛ غير أنا نوصيه بالتثبت في أمر الدماء وعلاقتها، وتحقق حكمها قبل الحكم بإراقتها؛ فإن ذلك لمادة القلق فيها أحسم، ومن تبعاتها في الدارين أسلم؛ والوصايا كثيرة ولكنها منه تستفاد، وعنه تؤخذ وإليه تعاد؛ والله تعالى يتولاه، ويحوطه فيما ولاه، ويديم عليه هذه النعمة فما فوق منصبه منصب يتمناه؛ والاعتماد........ إن شاء الله تعالى.
وكتب لست إن بقين من شهر رجب الفرد عام أربع وثمانمائة، حسب المرسوم الشريف، بمقتضى الخط الشريف.
وهذه نسخة توقيع بقضاء القضاة الحنفية بدمشق، من إنشاء القاضي ناصر الدين ابن النشائي، وهي: الحمد لله الذي جعل منار الشرع الشريف مستمراً على الدوام، وشمل منصب الحكم العزيز للعالم بعد العالم على ممر الأيام، وأجمل انتخاب من يقوم بأعباء القضايا، ومن تدوم به مزايا السجايا، فيتخير لذلك الإمام بعد الإمام، وأقبل بوجه اجتبائه على ولي نتأكد بإنصاته وإنصافه إحكام الأحكام، وعدل باعتنائه إلى تعيين من ترتفع به في العلوم أعلام الإعلام، ومن يتأيد به الحق في كل نقض وإبرام.
نحمده على نعمه الوافرة الأقسام، السافرة اللثام عن وجوهالزيادة الوسام، ونشكره على مننه الجسام، ومواهبه التي لاتبرح ثغور إمسانها لذوي ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة كفيلة بالمرام، منيلة للإكرام، جميلة التلفظ والالتئام، جزيلة الكنف والاعتصام، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي أقام الله به شعائر الإسلام، وأظهر شرائع الدين الحنيف بحسام نصره الحسام، وأورث من أهله من أمته كنوز العلوم التي لا تنفد فوائدها مع كثرة الإنفاق مدى السنين والأعوام، صلى الله عليه وعلى آلة وصحبه الذين هوا المؤمنين بإلهام الكلام، وعدوا على المشركين بسهام الكلام، وأبدوا من إرشادهم إلى خفايا القضايا ما يظهر بتهذيبهم ظهور بدر التمام، صلاة دائمة باقية تجزل لقائلها الأجر التام، وترسل إليه سحائب المواهب هاطلة الغمام، وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد، فإن أولى من تذهب به مذهبه، وتحلى به محمل الشرع الشريف ومنصبه، وأنار بنور إرشاده ليل الشك وغيهبه، وسهل بتقريبه على فهم الطالب مطلبه، وهمى به وابل العلم وصيبه وأتيح به للمستفيد كنزالفوائد التي يدنو بها أربه، وشيم من برق شيمه بالشام ماوجد في الجود صادقه وفقد خلبه- من علا في العلوم نسبه، وتأكد في الدين سببه، وشيد مبني المعالي معربه، وصقل مرايا الأفهام مهذبه، وزاحم منكب الجوزاء في ارتفاع القدر منكبه، وجمل مواكب المباحث في الأصول والفروع موكبه، وسحن بدقائق الحقائق سحبه، واشتاق إلى قربه موطن الحكم العزيز فما زال يرتقبه، وارتاح الزمان إلى عفافه وإنصافه فأرشد حيث نختاره لذلك وننتخبه...
ولما كان المجلس العالي...... أيد الله أحكامه هو الذي أرشد الطالبين في البداية، وأفاد المنتهين درجات النهاية، وأفهم المستفيدين صواب الهداية، وغدا سابقاً في حلبة العلماء إلى أقصى غاية. كم قرب إلى الأذهان غامض المشكل وأوضح مفهومه، وكم أشاع فرائد فوائده التي طبق الأرض بها علومه، وكم أباح لقط ألفاظه المشحونه بالحكم فتحلى الناس بدررها المنثورة والمنظومة، مع ماله من دينٍ متين، واتباع لسنن الحق في الحكم بين للخلق على يقين- اقتضى حسن الرأي الشريف أن يقرن منصب القضاء بجماله، وأن يعوض عن إمامه المفقود بإمامه الموجود ليستمر الأمر على حاله.
فلذلك رسم... – لازالت أئمة العلم الشريف في أيامه يخلف بعضهم بعضاً، وأقدارهم تدوم رفعتها مدى المدد فلا تجد نقصاً ولانقضاً- أن يفوض......
فليباشر ذلك بعلمه المأثور، وحكمه المشهور، وإنصافه الذي يعدل فيه، ةاتصافه بالحق الذي مابرح يوفيه، قاضياً بين الخصوم بما أمر الله عز وجل، مراقباً لخشية الله على عادته، مذيعاً للملة الحنيفة أنواع إفادته، قاطعاً بنصل نصه مشكل الإلباس، جامعاً في أحكامه المسددة بمقتضى مذهبه بين الكتاب والسنة والقياس، ومازالت عمدته التي يعتمد عليها، وعدته التي يستند في إسناد أمره إليها، والله تعالى بجمل الأيام بأحكامه، ويببلغ من خير الدنيا والآخرة غاية مراده ومرامه، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة توقيع بقضاء قضاة المالكية أيضاً، أنشأته لقاضي القضاة جمال الدين البساطي المذكور عند عودته إلى الوظيفة، لأربع بقين من ذي القعدة سنة سبع وثمانمائة. وقد وافق عود شيخ الإسلام جلال الدين عبد الرحمن البلقيني إلى قضاة الشافعية أيضاً، وهي: الحمد لله الذي أعاد لرتبة القضاء رونق جمالها وأسعد جدها بأسعد قرانٍ ظهرت آثار يمنه بما آثرته من ظهور جلاله وأجاب سؤلها بأجل حاكم لم تعدل عنه يوماً في سؤالها، وأسعد طلبتها بأكمل كفء لم تنفك عن خطبته وإن أطال في مطالها، وأكرم مآبها بأكرم كافٍ مافاتها منال ماضٍ إلا أدركته به في مآلها.
نحمده على أن أعطيت القوس باريها، وأعيدت مياه الاستحقاق إلى مجاريها، وردت الشاردة إلى مالكٍ ألفت منه بالآخرة ماألفت من خيره مباديها.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً يخفق بالإخلاص مناطها، ويزداد مع طول الأمد نشاطها، ولاينطوي على ممر الأيام- إن شاء الله تعالى- بساطها، ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله أفضل نبي رفع قواعد الدين وشاد، وقام في الله حق القيام فحسم بسيف الشرع مادة الفساد، وأحكم بسد الذرائع سداد الأمور فجرت أحكام شريعته المطهرة على السداد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين استنشق من معدلتهم أطيب عرف، وخصوا من صفات الكمال بأحسن حلية وأكمل وصف، صلاةً توهي عرا الإلحاد، وتفصمها، وتبك أعناق أهل العناد، وتقمصها، وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد، فلاخفاء في أن الأبصار تتشوف لرؤية الهلال مع قرب الغيبة للإخذ منه بنصيبها، والشمس يترقب طلوعها في كل يومٍ وإن قرب زمان مغيبها، والمسافر يسر بإيابه وإن تكرر قدومه من بعيد المسافة وقريبها، والسهران يتطلع من ليلته الطويلة إلى طلوع فجرها، والمناصب السنية تأزر إلى مستحقها كما تأرز الحية إلى جحرها.
ولما كان المجلس العالي، القاضوي، إلى آخر ألقابه أعز الله تعالى أحكامه هو الذي حمدت في القضاء آثاره، وسارت بحسن السيرة في الآفاق أخباره، وحسن بحسن تأتيه في الورد والصدر إيراده وإصداره، وتنافس في جميل وصفه الطرس والقلم، وظهرت فضائله ظهور نار القرى ليلاً على علم، ونشرت الأيام من علومه ماتطوى إليه المراحل، وجادت مواطر فكره بما يخصب به جناب المربع الماحل، وعمرت من منصب القضاء بولايته معاهده، وجرت بقضايا الخير في البدء والعود عوائده، ونفذت بنفاذ أوامره في الوجود أحكامه، ورقم في صحائف الأيام على توالي الدهور نقضه وإبارمه، وسجل بثبوت أحقيته فانقطعت دون بلوغ شأوه الأطماع، وحكم بموجب فضله فانعقد على صحة تقدمه الإجماع؛ ففراشد فواشده المدونة تؤدن بالبيان والتحصيل، ومقدمات تنبيهاته المحققة، تكفي نتائج إفضالها عن غلإجمال والتفصيل، وجواهر ألفاظه الرائقة، نعم الذخيرة التي تقتنى، ومدارك معانيه الفائقة، حسبك من ثمرة فكر جتنى، وتهذيب إيرادته الواضحة تغني في إدراكها عن الوسائل، وتحقيق مسائله الدقيقة تحقق فيها أنها عيون المسائل- وكانت وظيفة قضاء قضاة المالكية بالديار المصرية في رفيع رتبتها، ووافر حرمتها، قد ألقت إليه مقاليدها، ورفعت بالانتماء إلة مجلاسه العالي أسانيدها، وعرفت محله الرفيع فتعلقت منه بأعز منال، وحظيت بجماله اليوسفي المرة بعد الأخرى فقالت: لابراح لي عن هذا الجمال، وعجمت بتكرر العود عوده فأعرضت عن السوى، وقرت بالإياب إليه عيناً فألقت عصاها واستقر بها النوى- اقتضى حسن الرأي الشريف أن نعيد الوظيفة المذكورة إليه، ونعول في استكشاف مشكلات الإحكام على مالديه، إقرار للأمر في نصابه، ورداً له بعد الشراد إلى مثابه، وإسعافاً للمنصب بطلبته وإن أتعب غيره نفسه في طلابه.
فلذلك رسم بالأمر الشريف- لازال يبديء المعروف ويعيده، ويوفر نصيب الأولياء ويزظيده- أن يفوض إلى المجلس العالي المشار إليه قضاء القضاة بمذهب عالم المدينة وإمام دار الهجرة مالك بن أنس الأصبحي رضي الله عنه، على جاري عادته المتقدمة في ذلك، وأن يضاف إليه تدريس قبة الصالح ةالأنظار الشاهد بها توقيعه الشرف، وأن لا يقرر أحد في دروس المالكية من مدرس ومعيد إلا بتعيينه، على أتم العوائد وأجملها، وأعم القواعد وأكملها.
فليعد إلى رتبته السنية برفيع قدره وعلى همته، ويقابل إحساننا بالشكر نتحفه بمزيد الإقبال إذ لا زيادة في العلو على رتبته. ثم أول مانوصيه به، ونؤكد القول عليه بسببه، تقوى الاه التي هي ملاك الأمور كلها، وأولى المفترضات في عقد الأمور وحلها؛ فهي العصمة التي من لجأ إليها نجا، والوقاية التي ليس لمن حاد عنها من لحاق قوارع الله ملتجا. ونتبع ذلك بالتلويح إلى الاحتياط في المسائل التي تفرد بها مذهبه الشريف ضيقاً وسعة، واختص بها إمامه الأصبحي دون غيره من الأئمة الأربعة؛ وهي مسائل قليلة، آثارها في الورى كثيرة جليلة؛ منها سفك دم المنتقص والساب، وتحتم قتله على البت وإن تاب؛ فعليه أن يأخذ في ذلك بالاهتمام، ولايعطي رخصة في حق أحدٍ من الأنبياء والملائكة عليهم السلام، ليكون ذلك وسيلة إلى الخلوص عن القذى، وذريعةً إلى سلامه الشرف الرفيع من الأذى؛ إلا أنا نوصيه بالتثبت في الثبوت، وأن لا يعجل بالحكم بإراقة الدم فإنه لا يمكن تداركه بعد أن يفوت. ومنها: الشهادة على الخط وإحياء مامات من كتب الأوقاف والأملاك، وتقريب ماشط فلايقبل فيه إلا اليقظ الواقف مع تحققه دون حدسه، ولايطلق عنان الشهود فإن الكاتب ربما شاتبه عليه خط نفسه- ومنها: ثبوت الولاية للأوصياء، فيجريها على اعتقاده، ولكن إذا ظهرت المصلحة في ذلك على وفق مراده- ومنها: إسقاط غلة الوقف إذ استرد بعد بيعه مدة بقائه في يد المشتري، يحذيراً من الإقدام على بيع الوقف وعقوبة رادعةً لبائعة المجتري، إلى عير ذلك من مسائل الانفراد، وما شاركه فيه غيره من المذهب لموافقة الاعتقاد، فيمضضي الحكم فيه بأقوى العزائم، ويلزم فيها بما استبان له من الحق ولاتأخذه في الله لومة لائم.
وأما غير ذلك من الوصايا الراجعة إلى أدب القضاء فلديه منها الخبر والخبر، ومنه تستملى فوصيته بها كنقل التمر إلى هجر؛ والله تعالى يعامله بلطفه الجميل ويحفه بالعناية الشاملة في المقام والرحيل، إن شاء الله تعالى؛ والاعتماد....
وهذه نسخة توقيع قضاة الحنابلة، وهي: الحمد لله الذي أطلع في افق الدين القيم شمساً منيرة، ورفع درجة من جعله من العلم على شريعة ومن الحكم على بصيرة، وقلد أمور الأمة بمن يعلم أن بين يديه كتاباً لا يغادر صغيرة ولاكبيرة، ووفق لفصل القضاء من مشى على قدم إمامه الذي ادخر منه للحكم في أيامنا الشريفة من نفائس العلماء أفضل ذخيرة؛ وقضى بإرجاء أمره لنختار له من تحلى به بعد العطل وكل قضاءً خيرة، وأيقظ عنايتنا لمن رقد الدهر عن فضله فباتت عين الاستحقاق باستقرار رتبته قريرة.
نحمده حمد من توافت إليه النعم الغزيرة، وتوالت عليه المنن الكثيرة في المدد اليسيرة، وأخصبت في أيامه رياض الفضائل فهي بكل عالم عدم النظير نضيرة، وافتتح دولته برفع منار العدل فآمال أهل الظلم عن تعاطيه قاصرة وأيدي أهل الباطل عن الامتداد إليه قصيرة، وخص المناصب في ممالكه بالأكفاء فإذا تلبست بها همم غيرهم عادت خاسئة أو امتدت إليها أبصار من دونهم رجعت حسيرة.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تصلح العلن والسرية، وتصبح بها القلوب موقنةً والألسن ناطقةً والأصابع مشيرة، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي بعث الله به الرسل مخبرةً وأنزل الكتب بمبعثه بشيرة، واجتباه في خير أمة من أكرم أرومةٍ وأشرف عشيرة، وأظهر أنوار ملته إلا لمن أعمى الغي بصيرته وهل تنفع العمي شمس الظهيرة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة تتقرب بدوامها إلى الله فيضاعفها لنا أضعافاً كثيرة، وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد، فإن أولى الأمور بأن تشاد قواعده، وتتعهد معاهده، ويعلى مناره، وتفاض بطلوع شمسه أنواره، وتكمل به قوى الدين تكملة الأجساد بقوى الطبائع الأربع، وتعمر به ربوع الملة التي ليس بعدها من مصيف لملة ولامربع، وتثبت به قوائم الشرع التي ماللباطل في إمالة بعضها من مطمع، أم رالقضاء على مذهب الإمام الرباني أحمد بن حنبل رضي الله عنه، وكان قد خلا بانتقال مباشره إلى الله تعالى، وتوقف مدة على ارتياد الأكفاء، والإرشاد إلى من هو أهل الاصطفاء، واختيار من تكمل به رفعة قدره، ويعيد لدسته على بساط سليمانه بهجة صدره.
ولما كان فلان هو المنتظر لهذه الرتبة انتظار الشمس بعد الغسق، والمرتقب لبلوغ هذه المنزلة التي تقدمت إليها بوادر استحقاقه في السبق، والمعطوف على الأئمة من أصحاب إمامه- وإن تأخر زمانه- عطف النسق، وهو الذي مازال يعدل دم الشهداء مداد أقلامه، وتضع الملائكة أجنحتها رضاً بما يصنع من نقل خطواته في طلب العلم وسعي أقدامه، ودخل من خشية الله تعالى في زمرة من حصر بإنما، وهجر المضاجع في طاعة الله ولتحصيل العلم فلو عدت هجعاته لقلما، وهجر في إحراز الفضائل فقيد أوابدها، وأحز شواردها، ولجج في بحار المعاني فغاص على جواهرها، ونظر نظرةً في نجوم العلوم فاحتوى على زهرها وزار خمائل الفضائل فاستوى على أزاهرها، وانتهى إليه علم مذهبه فبرز على من سلف، وجارى علماء عصره فوقفت أبصارهم عن رؤية غباره فبرز على من سلف، وجارى علماء عصره فوقفت أبصارهم عن رؤية غباره وماوقف، وتعين عليه القضاء وإن كان فرض كفاية لا فرض عين، وقدمه الترجيح الذي جعل رتبته همزة استفهام ورتبة غيره بين بين- لاقتضى رأينا الشريف اختصاصه بهذا التمييز، والتنبيه على فضله البسيط بهذا اللفظ الوجيز.
فلذلك رسم أن يفوض إليه كيت وكيت. فليتول هذه الرتبة التي أصبح فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم- نائباً وبشرعه قائماً، ويتقلدها تقلد من يعلم أنه قد أصبح على حكم الله تعالى مقدماً وعلى الله قادماً، ويتثبت تثبت من يعتصم بحبل الله تعالى مقدماً وعلى الله قادماً، ويتثبت تثبت من يعتصم بحبل الله في حكمه فإن أحد الخصمين قد يكون ألحن بحجته وإن كان ظالماً، ويلبس لهذا المنصب حلة تمنع المبطل من الإقدام عليه، وتدفع الظالم عن التطأول إلى أمر نزعه الشرع الشريف من يديه، ويؤمن الحق من امتداد يد الجور والحيف إليه، وليسو بين الخصمين في مجلسه ولحظه، مكفوف باستماع حجته عن الطمع في ظلمه، ولاينقض حكماً لم يخالف نصاً ولاسنة ولا إجماعاً، وليشارك فيما لا يجهله من القضايا غيره من العلماء ليتزيد بذلك مع إطلاعه إطلاعاً، وليغتنم في ذلك الاستعانة بآرائهم: فإن الله تعالى لا ينتزع هذا العلم انتزاعاً، وليسد مسالك الهوى عن فكره، ويصرف دواعي الغضب لغير الله عن المرور بذكره، وليجعل العمل لوجه الله نتيجة علمه، وليحكم بما أراه الله {والله يحكم لا معقب لحكمه} وهذه نسخة وصية أوردها في التعريف تشمل القضاة الأربعة، قال: وصية جامعة لقاض من أي مذهب كان، وهي:
وهذه التربة التي جعل الله إليها منتهى القضايا، وإنهاء الشكايا، ولايكون صاحبها إلا من العلماء، الذين هم ورثة الأنبياء، ومتولي الأحكام الشرعية بها كما ورث عن نبي الله صلى الله عليه وسلم علمه، كذلك يورث حكمه؛ وقد أصبح بيده زمام الأحكام، وفصل القضاء الذي يعرض بعضه بعده على غيره من الحكام؛ ومامنهم إلا من ينقد نقد الصيرفي، وينفذ حكمه نفاذ المشرفي؛ فليترو في أحكامه قبل إمضائها، وفي المحاكمات إليه قبل فصل قضائها، وليراجع الأمر مرة بعد مرة حتى يزول عنه الالتباس؛ ويعاود فيه بعد التأمل كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والإجماع والقياس؛ وماأشكل عليه بعد ذلك فليجل ظلمه بالاستخارة، وليحل مشكلة بالاستشارة، ولاير نقصاًعليه إذا استشار فقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالشورى، ومر من أول السلف من جعلها بينه وبين خطأ الاجتهاد سوراً؛ فقد يسنح للمرء ماأعيا غيره وقد أكثر فيه الدأب، ويتفطن الصغير لما لم يفطن إليه الكبير كما فطن ابن عمر رضي الله عنهما للنخلةو ومامنعه أن يتكلم إلا صغر سنه ولزوماً مع من هو أكبر منه للأدب؛ ثم إذا وضح له الحق قضى به لمستحقه، وسجل له به وأشهد على نفسه بثبوت حقه، وحكم له به حكماً يسره يوم القيامة أن يراه، وإذا كتب له به، ذكر بخير إذا بلي وبقى الدهر ماكتبت يداه. وليسوا بين الخصوم حتى في تقسيم النظر حتى لا يدخل عليه زيف، وليتحر في استيداء الشهادات فرب قاض ذبح بغير سكين وشاهدٍ قتل بغير سيف؛ ولايقبل منهم إلا من عرف بالعدالة، وألف منه أن يرى أوامر النفس أشد العدا له- وغير هؤلاء ممن لم تجر له بالشهادة عادة، ولاتصدى للارتزاق بسحتها ومات وهو حي على الشهادة، فليقبل منهم من لا يكون في قبول مثله ملامة، فرب عدلٍ بين منطقةٍ وسيف وفاسقٍ في فرجيه وعمامة- ولينقب على مايصدر من العقود التي يؤسس أكثرها على شفا جرف هار، ويوقع في مثل السفاح إلا أن الحدود تدرأ بالشبهات ويبقى العار- وشهود اتلقيمة الذين يقطع بقولهم في حق كل مستحق ومال كل يتيم، ويقلد شهاداتهم على كل أمر عظيم؛ فلا يعول منهم إلا على كل رب مالٍ عارفٍ لا تخفى عليه القيم، ولا يخاف معه خطأ الحدس وقد صقل التجريب مرآة فهمه على طول القدم. وليتأن في ذلك كله أناةً لا تقضي بإضاعة الحق، ولاإلى المطأولة التي تقضي إلى ملل من استحق، وليمهد لرمسه، ولايتعلل بأن القاضي أسير الشهود وهو كذلك وإنما يسعى لخلاص نفسه- والوكلاء هم البلاء المبرم، والشياطين المسولون لمن توكلوا له الباطل ليقضى به وإنما تقطع لهم قطعة من جهنم، فليكف بمهابته وساوس أفكارهم، ومساوي فجارهم، ولايدع لمحجنى أحدٍ منهم ثمرةً إلا ممنوعة، ولايد اعتداء تمتد إلا مغلولة إلى عنقه أو مقطوعة، وليطهر بابه من دنس الرسل الذين يمشون على غير الطريق، وإذا رأى واحد منهم درهماً ود لو حصل في يده ووقع في نار الحريق؛ وغير هذا مما لا يحتاج به مثله أن يوصى، ولاأن يحصى عليه منه أفراد عمله وهو لا يحصى، ومنها النظر في أمور أوقاف أهل مذهبه نظر العموم، فليعمرها بجميل نظره فرب نظرة أنفع من الغيوم، وليأخذ بقلوب طائفته الذين خص من بينهم بالتقديم، وتفاوت بعد ما بينه وبينهم حتى صار يزيل عارض الرجل منهم النظرة منه ويأسو جراحه منه التكليم. وهذه الوصايا إنما ذكرت على سبيل الذكرى، وفيه- بحمد الله- أضعافها ولهذا وليناه والحمد لله شكرا؛ وقد جعلنا له أن يستنسب من يكون بمثل أوصافه أو قريباً من هذه المثابة، ومن يرضى له أن يحمل عنه الكل ويقاسمه ثوابه؛ وتقوى الله تعالى هي جماع الخير ولاسيما لصاحب هذه الوظيفة، ولمن وليها أصلاً وفرعاً لا يستغني عنها رب حكم مطلق التصرف ولاخليفة.
ويزاد الشافعي: وليعلم أنه صدر المجلس، وأنه أدنى القوم وإن كانوا أشباهه منا حيث نجلس، وأنه ذو الطيلسان الذي يخضع له رب كل سيف ويبلس؛ وليتحقق أنه إنما رفعه علمه وتقاه، وأن سبب دينه لا دنياه هو الذي رقاه؛ فليقدر حق هذه النعم، وليقف عند حد منصبه الذي يود لو اشترى سواد مداده بحمر النعم.
ويقال في وصيته: وأمر دعاوى بيت المال المعمور، ومحاكماته التي فيها حق كل فردٍ فرد من الجمهور؛ فليحترز في غاية الاحتراز، وليعمل بما يقتضيه لها الحق من الصيانة والإحراز، ولايقبل فيها كل بينة للوكيل عن المسلمين فيها مدفع، ولايعمل فيها بمسألة ضعيفة يظن أنها ماتضر عند الله فإنها ماتنفع؛ وله حقوق فلايجد من يسعى في تملك شيءٍ منها بالباطل منه إلا الياس، ولايلتفت إلى من رخص لنفسه وقال: هو مال السلطان فإنه مالنا فيه إلا مالواحدٍ من الناس. وأموال الأيتام ومنهم صغار لا يهتدون إلى غير الثدي للرضاع ومنهم حمل في بطون الأمهات؛ فليأمر المتحدثين لهم بالإحسان إليهم، وليعرفهم بأنهم سيجزن في بينهم بمثل مايعملون معهم إذا ماتوا وتركوا مافي يديهم، وليحذر منهم من لا ولد له: {وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذريةً ضعافاً خافوا عليهم}. وليقص عليهم في مثل ذلك أنباء من سلف تذكيراً، وليتل عليهم القرآن ويذكرهم بقوله تعالى: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً}. والصدقالت الموكولة إلى تصريف قلمه، المأكولة بعدم أمانة المباشرين وفي في ذممه، يتيقظ لإجرائها على السداد في صرفها في وجوه استحقاقها، والعمل بما لا يجب سواه في أخذها وإنفاقها، والمسائل التي تفرد بها مذهبه وترجح عنده بها العمل، وأعد عنها الجواب لله إذا سأل، لا يعمل فيها بمرجوح إلا إذا كان نص مذهب إمامه أو عليه أكثر الأصحاب، ولرآه قد حكم به أهل العلم ممن تقدمه لرجحانه عنده وللاستصحاب. ونواب البر لا يقلد منهم إلا من تحقق استحقاقه، فإنه إنما يوليه على مسلمين لا علم لأكثرهم فهم إلى ذي العلم أشد فاقة؛ هذا إلى مايتعرف من ديانتهم ومن عفافهم الذي يتجرع المرء منهم به مرارة الصبر من الفاقة وهو به يتحلى، ثم لا يزال له عين عليهم فإن الرجال كالصناديق المقفلة لا يعرف الرجل ماهو حتى يتولى.
ويزاد الحنفي: وليعلم أن إمامه أول من دون الفقه وجمعه، وتقدم وأسبق العلماء من تبعه؛ وفي مذهبه ومذاهب أصحابه أقوال في المذهب؛ ومسائل مالحقه فيها مالك وهو أول من جاء بعده وممن يعد من سوابقه أشهب؛ ومن أهمها تزويج الصغائر، وتحصينهن بالأكفاء من الأزواج خوفاً عليهن من الكبائر، وشفعة الجوار التي لة لم تكن من رأيهم لما أمن جار السوء على رغم الأنوف، ولأقام الرجل الدهر ساكناًفي داره بين أهله وهو يتوقع المخوف، وكذلك نفقة المعتدة التي هي بالتي تستطيع أن تتزوج من رجل ينفق عليها من ماله، ومن استدان مالاً فأكله وادعى الإعسار، ولفق له بينةً أراد أن تسمع له ولم يدخل الحبس ولا أرهق من أمر الإعسار، وأهل مذهبه على أنه يسجن ويمكث مدة، ثم إذا أدعى أن له بينة أحضرت ثم هل تقبل أو لا. فهذا وأمثاله مما فيه عموم صلاح، وعظيم نفع مافيه جناح؛ فيقض في هذا كله إذا رآه بمقتضى مذهبه، وليهتد في هذه الآراء وسواها بقمر إمامه الطالع أبي حنيفة وشبهه، وليحسن إلى فقهاء أهل مذهبه الذين أدنى إليه أكثرهم الاغتراب، وحلق بهم إليه طائر النهار حيث لا يحلق البازي وجناح الليل حيث لا يطير الغراب؛ وقد تركوا وراءهم من البلاد الشاسعة، والأمداد الواسعة، مايراعى لهم حقه إذا عدت الحقوق، ويجمعه وإياهم به أبواه أبو حنيفة ومامثله من ينسب إلى العقوق.
ويزاد المالكي:
ومذهبه له السيف المصلت على من كفر، والمذهب بدم من طل دمه وحصل به الظفر؛ من عدا قدره الوضيع، وتعرض إلى أنبياء الله صلوات الله عليهم بالقول الشنيع، فإنه إنما يتقل بسيفه المجرد، ويراق دمه تعزيزاً بقوله الذي به تفرد؛ ولم يزل سيف مذهبه لهم بارز الصفحة، مسلماً لهم إلى مالك خازن النار من مذهب مالكٍ الذي مافيه فسحة؛ وفي هذا مايصرح غدر الدين من القذى، ومالم تطل دماء هؤلاء لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى؛ ولإنما نوصيه بالتحري في الثبوت، والبينة التي لا يستدرك بها مايفوت، وإنما هو رجل يحيا أو يموت، فليتمهل قبل بت القضاء، وليعذر إليهم لا حتمال ثبوت تفسيق الشهود أو بغضاء، حتى لا يعجل تلافاً، ولايعجل بما لا يتلافى؛ فكما أننا نوصيه أن لا ينقض في شد الوثاق عيهم إبارماً، فهكذا نوصيه أن لا يصيب بغير حقه دماً حراماً؛ وكذلك قبول الشهادة على الخط، وإحياء مامات من الكتب وإدناء ماشط، فهذا مما فيه فسحة للناس للناس، وراحة مافيها ياس؛ إلا أنه يكون الثبوت بهذه البينة لللاتصال، لا لنزع يدٍ ولاإلزام بمجردها بمال؛ وهذا مايراه من ولاية الأوصياء وهو مما تفرد به دون البقية، وفيه مصلحة وإلا فما معنى الوصية؛ وهو زيادة احتراز ماتضر احتراز ماتضر مراعاة مثلها في الأمور الشرعية، وسوى هذا مثل إسقاط الريع في وقف استرد وقد بيع، وعطل المشتري من التكسب بذلك المال مدة لا يشتري ولايبيع؛ وهذا مما يبت قضاءه في مثله، ويجعل عقاب من أقدم على بيع الوقف إحرامه مدة البيع من مغله، وسوى ذلك مما عليه العمل، ومما إذا قال فيه قال وإذا حكم عدل. وفقهاء مذهبه في هذه البلاد قليل ماهم، وهم غرباء فليحسن مأواهم، وليكرم بكرمه مثواهم، وليستقر بهم النوى في كنفه فقد ملوا طول الدرب، ومعاناة السفر الذي هو أشد الحرب، ولينسهم أوطانهم ببره ولايدع في مآقيهم دمعاً يفيض على الغرب.
ويزاد الحنبلي: والمهم المقدم- وهو يعلم ماحدث على أهل مذهبه من الشناعة، وما رموا به من الأقوال التي نتركها لما فيها من البشاعة، ونكتفي به في تعفية آثارها، وإماطة أذاها عن طرق مذهبه لتأمن السالكة عليه من عثارها؛ فتعالى الله أن يعرف بكيف، أو يجاوب السائل عنه بهذا إلا بالسيف؛ والانضمام إلى الجماعة والحذر من الانفراد، وإقرار آيات الصفات على ماجاءت عليه من الاعتقاد، وأن الظاهر غير المراد، والخروج بهم إلى النور من الظلماء، وتأويل مالابد من تأويله مثل حديث الأمة التي سئلت عن ربها: أين هو فقالت في السماء؛ وإلا ففي البلية بإثبات الجهة مافيها من الكوارث، ويلزم منها الحدوث والله سبحانه وتعالى قديم ليس بحادثٍ ولامحلاً للحوادث؛ وكذلك القول في القرآن ونحن نحذر من تكلم فيه بصوت أو حرف، فما جزاء من قال بالصوت إلا سوط وبالحرف إلا حتف؛ ثم بعد ههذا الذي يزع به الجهال، ويرد دون غايته الفكر الجوال، ينظر في أمور مذهبه ويعمل بكل ماصح نقله عن إمامه وأصحابه: من كان منهم في زمانه ومن تخلف عن أيامه؛ فقد كان رحمه الله إمام حق نهض وقد قعد الناس تلك المدة، وقام نوبة المحنة مقام سيد تيم- رضي الله عنه- نوبة الردة، ولم تهب به زعازع المريسي وقد هبت مريساً، ولا ابن أبي داود وقد جمع له كل ذود وساق إليه من كل قطر عيساً، ولانكث عهدة ماقدم له المأمون في وصية أخيه من الموائق. ولاروعه سوط المعتصم وقد صب عليه عذابه ولاسيف الواثق فليقف على أثره، وليقف بمسندهلى مذهبه كله أو أكثره، وليقض بمفرداته ومااختاره أصحابه الأخيار، وليقلدهم إذا لم تختلف عليه الأخبار، وليحترز لدينه في بيع مادثر من الأوقاف وصرف ثمنه في مثله، والاستبدال لما فيه المصلحة لأهله، والفسخ على من غاب مدةً يسوغ في مثلها الفسخ، وترك زوجةً لم يترك لها نفقة وخلاها وهي مع بقائها في زوجيته كالمعلقة، وإطلاق سراحها لتتزوج بعد ثبوت الفسخ بشروطه التي يبقى حكمها به حكم المطلقة، وفيما يمنع مضاره الجار، ومايتفرع على قوله صلى الله عليه وسلم: «لاضرر ولاضرار»، وأمر وقف الإنسان على نفسه وإن رآه سوى أهل مذهبه، وطلعت به أهلة عليماء لولاهم لما جلا الزمان جنح غيهبه؛ وكذلك الجوائح التي يخفف بها عن الضعفاء وإن كان لا يرى بها الإلزام، ولاتجري لديه إلا مجرى المصالحة بدليل الالتزام؛ وكذلك المعاملة التي للولا الرخصة عندهم فيما لم أكل أكثر الناس إلا الحرام المحض، ولاأخذ قسم الغلال والمعامل هو الذي يزرع البذور ويحرث الأرض، وغير ذلك مما هو من مفرداته التي هي للرفق جامعة، وللرعايا في أكثر معايشهم وأسبابهم نافعة؛ فإذا استقرت الفروع كانت الأصول لها جامعة. وفقهاء مذهبه هم الفقراء لقلة المحصول وضعف الأوقاف، وهي على الرقة كالرماح المعدة للثقاف؛ فخذ بخواطرهم، ومد آمالهم في غائب وقتهم وحاضرهم، واشملهم بالإحسان الذي يرغبهم، ويقل به طلبهم لوجوه الغنى ويكثر طلبهم.
الطبقة الثانية من أرباب الوظائف الدينية: أصحاب التواقيع:
وتشتمل على مراتب المرتبة الأولى ما كان يكتب في النصف بالمجلس العالي كما كان يكتب للقضاة الأربعة أولاً، وقد تقدم المرتبة الثانية ما يكتب في قطع الثلث بالسامي بالياء واعلم أن الأصل فيما يكتب من التواقيع أن يفتتح بأما بعد إلا أن الكتاب قد تسامحوا فيه فافتتحوا لمن علت رتبته حيث اقتضى الحال الكتابة له في الثلث بالحمد لله، وأبقوا من انحطت رتبته عن ذلك على ماكان عليه الافتتاح بأما بعد وهاأنا أورد ماسنح من ذلك مما أنشأه الكتاب في ذلك من الافتتاحين جميعاً. ويشتمل على وظائف.
الوظيفة الأولى: قضاء العسكر:
وقد تقدم في المقالة الثانية أن موضوعها التحدث في الأحكام في الأسفار السلطانية وأن له مجلساً يحضره بدار العدل في الحضر. وقد جرت العادة أن يكون قضاة العسكر أربعة: من كل مذهب قاض.
وهذه نسخة توقيع شريفٍ بقضاء العسكر المنصور بالحضرة السلطانية، وهي: الحمد لله الذي رفع للعلم الشريف في أيامنا الزاهرة مناراً، وزاد بإعلاء رتب أهله دولتنا القاهرة رفعةً وفخاراً، وزان أحكامه الشريفة بحكامه الذين طلعوا في غياهب مشكلاته بدوراً وتدفقوا في إفاضته في الأحكام الشرعية بحاراً.
نحمده على نعمه التي حلت فحلت، ومننه التي أهلت الجود فاستهلت. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تكون لقائلها ذخراً، وتعلي للمتمسك بها في الملأ ذكراً، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي هو أسبق الأنبياء رتبة وإن كان آخرهم عصراً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين أضحوا للمقتدين بهم شموساً منيرة وللمهتدين بعلومهم نجوماً زهراً، صلاةً لاتزال الألسن تقيمها، والأسماع تستديمها، وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد، فإن أولى من نوهنا بذكره، ونبهنا على رفعة قدره، وأطلقنا ألسنة الأقلام في وصف مفاخره وشكره، وأثلنا قواعد مجده التي لو رام بنان البيان استقصاءها حال الحصر دون حصره، ونفذنا كلم حكمه ورفعنا في أندية الفضائل ألوية فنونه وأعلام نصره، من لم يزل دم الشهداء بعدل مداد أقلامه، وتقيم منار الهدى أدلة فضائله وشواهد أحكامه، وتوضح الحق حتى يكاد المتأمل يلحظ الحكم لوضوحه ويبصره، وينصر الشرع بأمداد عليمه ولينصرن الله من ينصره، وشيد مذهب إمامه الإمام الفلاني فأصبح فسيح الأرجاء وإن لم يكن فيه فسحة، وجدد قواعد العدل في قضايا العددل في قضايا عساكرنا المنصورة فهو مشاهد من كلمه ومن نظره في لمحة ملحة.
ولما كان فلان هو الذي نعتنا بما تقدم من الخطاب خلائقه الحسنى، وأثنينا على ماهو عليه من الإقبال على جوهر العلم دون التعرض إلى العرض الأدنى؛ مع ماحواه من مواد فضائل تزكو على كثرة الإنفاق، وفرائد فوائد تجلب علي أيدي الطلبة إلى الآفاق، وقوة في الحق، الذي لا تأخذه فيه لومة لائم، وعدل أحكام في الخلق، ألذ من سنة الكرى في جفن نائم- اقتضى حسن الرأي الشريف أن نوطد في عساكرنا المنصورة قواعد أحكامه، ونوطن كلاً منهم على أنه تحت مايمضيه في أقضيته النافذه من نقضه وإبرامه.
فلذلك رسم بالأمر الشريف أن يفوض إليه قضاء العساكر المنصورة الشريفة. على أجمل العوائد، وأكمل القواعد، وأن تبسط كلمته في كل مايتعلق بذلك من أحكام الشرع الشرف؛ فليحكم في ذلك كله بما أراه الله من علمه، وآتاه من حكمه وحكمه، وبين له من سبل الهدى، وعينه لبصيرته من سنن نبيه صلى الله عليه وسلم التي من حاد عنها فقد جار واعتدى، وليقف من الأحكام عندما قررته الشريعة المطهرة من أحكام الله التي لا يعقلها إلا العالمون، ويأمر كلاً من المتقاضين بالوقوف عندما حد له: {من يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون}. والوصايا وإن كثرت فمن مثله تفاد، وإن جلت فسمعه في غنى عما يبدأ له منها ويعد؛ وملاكها تقوى الله تعالى التي هي شعار أنسه، وحلية يومه وأمسه؛ والله تعالى يسدده في القول والعمل، ويوفقه لما يرضاه ويصونه من الخطأ والخطل.
وهذه وصية لقاضي العسكر، أوردها في التعريف وهي أن يقال: وهو الحاكم حيث لا تنفذ إلا أقضية السيوف، ولاتزدحم الغرماء إلا في مواقف الصفوف، والماضي قلمه وكل خطي يمد بالدماء، والممضى سجله وقد طوى العجاج كالكتاب سجل السماء؛ وأكثر مايتحاكم إليه في الغنائم التي لم تحل لأحد قبل هذه الأمة، وفي الشركة وماتطلب فيه القسمة، وفي المبيعات ومايرد منها بعيب، وفي الديون المؤجلة ومايحكم فيها بغيب؛ وكل هذا مما لا يحتمل طول الأناة في القضاء، واشتغال الجند المنصور عن مواقف الجهاد بالتردد إليه بالإمضاء؛ فليكن مستحضراً لهذه المسائل ليببت الحكم في وقته، ويسارع السيف المصلت في ذلك الموقف ببته، وليعلم أن العسكر المنصورهم في ذلك الموطن أهل الشهادة، وفيهم من يكون جرحه تعديلاً له وزيادة؛ فليقبل منهم من لا تخفى عليه سيما القبول، ولايرد منهم من لا يضره أن يرده هو وهو عند الله مقبول، وليجعل له مستقراً معروفاً في المعسكر يقصد فيه إذا نصبت الخيام، وموضعاً يمشي فيه ليقضي فيه وهو سائر وأشهر ماكان على يمين الأعلام؛ وليلزم ذلك طول سفره وفي مدد المقام، ولايخالفه ليبهم على ذوي الحوائج فما هو بالصالحية بمصر ولابالعادلية الشام، وليتخذ معه كتاباً تكتب للناس وإلا فمن أين يوجد مركز الشهود، وليسجل لذي الحق بحقه وإلا فما أنسد باب الجحود؛ وتقوى الله هي التي بها تنصر الجنود، ومالم تكن أعلى ما يكون على أعلام الرحب وإلا فما الحاجة إلى نشر البنود.
الوظيفة الثانية: إفتاء دار العجل:
وموضوعها الجلوس بدار العدل حيث يجلس السلطان لفصل الحكومات، والإفتاء فيما لعله يطرأ من الأحكام بدار العدل. وهي وظيفة جليلة، لصاحبها مجلس بدار العدل يجلسه مع القضاة الأربعة ومن في معناهم.
وهذه نسخة توقيع لمن لقبه جمال الدين ينسج على منوالها، وهي: الحمد لله جاعل العلم للدين جمالاً، وللدنيا عصمةً وثمالاً، ولأسباب النجاة والنجاح شارةً إذا تحلى بها ذو لا تمييز كان أحسن ذوي المراتب حالاً، وأجلهم في الدراين مبدأ ومآلاً، وأحقهم برتبة التفضيل التي ضربت لها السنة المطهرة فضل البدر على الكواكب مثالاً.
نحمده على نعمه التي خصت دار عدلنا الشريف من العلماء بأكفائها، واصطفت لما قرب من مجلسنا المعظم من دل على أن التأييد قرين اصطفائها.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً يفتر عن شنب الصواب، ثغرها، ويتفتح عن فصل الخطاب، زهرها؛ ونشهد أن سيدنا محمداً عيده ورسوله المخصوص بمحكم التنزيل، المنصوص في الصحف المنزلة على ذكر أمته الذين علماؤهم كأنبياء بني اسرائيل، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين هم كالنجوم المشرقة، من اقتدى به اهتدى، وكالرجوم المحرقة، من اعتدى وجد منها شهاباً رصدا؛ وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد، فإن أولى ماارتدنا له من رياض العلم من سما فيه فرعه، ورحب بتلقي أنواع العلوم ذرعه، وبسقت في فنون الفضائل أفناهن، ونسقت فرائد الفوائد في سلك الطروس بنانه- فتيا دار عدلنا الشريف التي أحكامنا لها تابعة، وأغصان العدل بثمار فتاويها مورقة يانعة، وأعيينا إلى أفواه مفتيها رامقة وآذاننا لمقالاتهم سامعة.
ولما كان فلان هو ثمرة هذا الارتياد، ونخبة هذا الانتقاد، المعقود عليه في اختيار العلماء بالخناصر، والعريق في أصالة العلوم بأصالةٍ ثابتة الأواصر، والذي إذا أجاب تدفقت أنواء الفوائد، وتألقت أضواء الفرائد، واتخذت مسائل فقهه قواعد تترتب الأحكام الشرعية عليها ومصادر وحيه موارد- اقتضت آراؤنا الشريفة أن نوين بهجة هذه الوظيفة بجماله، وننزه إشراقها بنور فضائله التي لو قابلها بدر الأفق نازعته حلة كماله.
فلذلك رسم بالأمر الشريف- لازالت أحكامه مع أوامر الشرع الشريف واقفة، ومعدلته الشريفة باقتفاء آثار الحق لمشتكيات الظلم كاشفة- أن يفوض إليه كذا: فليباشر هذه الوظيفة السنية مفجراً ينابيع العلوم في أرجائها، محققاً للفتاوى بتسهيل مواردها وتقريب أوجائها، موضحاً طرقها بإقامة براهينه وأدلته، مبدياً دقائقها التي يشرق بها أفق الفكر إشراق السماء بنجومها والأفق بأهلته، مظهراً من غوامضها مايقرب على الأفهام مناله، ويفسح لجساد القرائح مجاله، وينقح لكل ذي ترو رويته ولك مرتجل بديهته وارتجاله؛ فإنه الكامل الذي قطع إلى بلوغ الغاية مسالك الليالي، والإمام الذي غاص فكره من كل بحر لجج المعاني فاستخرج منها مكنون اللآلي؛ مع أن علمه المهذب غني عن تنبيه الوصايا، ملي بما يلزم هذه الوظيفة من الخصائص والمزايا؛ فإن البحر يأبى إلا تدفقاً، والبدر إلا تألقاً؛ والله تعالى يزيده من فضله، ويزين به أفق العلم ويزيد منا دنواً قرب محله.
الوظيفة الثالثة: الحسبة:
وقد تقدم أن موضوعها التحدث على أرباب المعايش والصنائع، والأخذ على يد الخارج عن طريق الصلاح في معيشته وصناعته. وحاضرة الديار المصرية تشتمل على حسبتين: الأولى- حسبة القاهرة: وهي أعلاهما قدراً، وأفخمهما رتبة، ولصاحبها مجلس بدار العدل مع القضاة الأربعة وقضاة العسكر ومفتي دار العدل وغيرهم؛ وهو يتحدث في الوجه البحري من الديار المصرية في ولاية النواب وعزلهم.
قلت: ولم تزل الحسبة تولى للمتعممين وأرباب الأقلام إلى الدولة المؤيدية شيخ، فولاها للأمير سيف الدين منكلي بغا الفقيه أمير حاجب مضافة إلى الحجوبية. على أن في سجلات الفاطميين مايشهد لها في الزمن المتقدم. وربما أسندت حسبة القاهرة إلى والي القاهرة، وحسبة مصر إلى والي مصر.
وهذه نسخة توقيع من ذلك، وهي: الحمد لله مجدد عوائد الإحسان، ومجري أولياء دولتنا القاهرة، في أيامنا الزاهرة، على ماألفوه من الرتب الحسان ظن ومضاعف نعمنا على من ىجتنى لنا بحسن سيرته الدعاء الصالح من كل لسان.
نحمده على نعمه التي لا تحصى بعدها، ولاتحصر بحدها، ولاتستزاد بغير شكر آلاء المنعم وحمدها.
ونشهد أن لا إله إلا الله لا شريك له شهادة نقيمها في كل حكم، وتحأول سيوفنا جاحديها فتنهض فتنطق بالحجة عليهم وهم بكم، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله أشرف من ائتمر بالعدل والإحسان، وأعدل آمر أمته بالوزن بالقسط وأن لا يخسروا الميزان، صلى الله عليه وعلى آله وصحيه الذين احتسبوا في سبيل الله جل عتادهم، واحتبسوا أنفسهم في مقاطعة أهل الكفر وجهادهم؛ فلا تنتهب جنائبها في الوجود، وتسري نجائبها في التهائم والنجود، وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد، فإن أولى من دعاه إحساننا لرفع قدره، وإنارة بدره، وإعلاء رتبته، وإناء منزلته، وإعلام مخلص الأولياء بمضاعفة الإحسان إليه أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، وأن كرمنا لا يخيب لمن أسلف سوابق طاعته في أيامنا الشريفة أملاً، من لم تزل خدمه السابقة إلى الله مقربة، وعن طرق الهوى منكبة، وبالله مذكرة، وعلى الباقيات الصالحات من الأعمال موفرة، مع ماأضافه إلى ذلك من أمر بمعروف، وإغاثة ملهوف، ونهي عن منكر، واحتساب في الحق أتي فيه بكل ماتحمد خلائقه وتشكر، واجتناب لأعراض الدنيا الدنية، واجتهاد لما يرضي الله ويرضينا من اتباع سيرتنا السرية، وشدة في الحق حتى يقال به ويقام، ورفق بالخلق إلا في بدع تنتهك بها حرمة الإسلام، أو غش إن لم يخص ضرره الخاص فإن ذلك يعم العام.
ولما كان فلان هو الذي اختص من خدمتنا، بما رفعه لدينا، وأسلف من طاعتنا، مااقتضى تقريبه منا واستدعاءه إلينا، ونهض فيما عدقناه به من مصالح الرعايا وكان مشكور المساعي في كل ماعرض من أعماله في ذلك علينا- اقتضى رأينا الشرف أن يفوض إليه كذا، فليستقر في ذلك مجتهداً في كل ما يعم البرايا نفعه، ويجمل لديهم وقعه، ويمنع من يتعرض باليسار، إلى مالهم بغير حق، أو يضيق بالاحتكار، على ضعفائهم مابسط الله لهم من رزق، ويذب عنهم بلإقامة الحدود شبه تعطيلها، ويعرفهم بالمحافظة على الحق في المعاملات قواعد تحريمها وتحليلها، ويريهم بالإنصاف نار القسطاس المستقيم لعلمه يبصرون، ويؤدب من يجد فيهم من المطففين: {الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون} ويأمر أهل الأسواق بإقامة الجماعات والجمع، ويقابل من تخلف عن ذلك بالتأديب الذي يردع من أصر فيه على المخالفة ويزع، ويلزم ذوي الهيئات بالصيانة التي تناسب مناصبهم، وتوافق مراتبهم، وتنزه عن الأدناس مكاسبهم، وتصون عن الشوائب شاهدهم وغائبهم، ولا يمكن ذوي البيوع أن يغبنوا ضعفاء الرعايا وأغبياءهم، ولايفسح لهم أن يرفعوا على الحق أسعارهم ويبخسوا الناس أشياءهم.
وليحمل كلاً منهم على المعاملات الصحيحة، والعقود التي غدت لها الشريعة الشريفة مبيحة، ويجنبهم العقود الفاسدة، والحيل التي تغر بتدليس السلع الكاسدة، وهو أخبر بالبيوع المنصوص على فسادها في الشرع الشريف، وأدرى بملا في عدم تحريرهم المكابيل والموازين من الإخسار والتطفيف؛ فليفعل ذلك في كل مايجب، ويحتسب فيه مايدخره عند الله ويحتسب؛ ولتكن كلمته في ذلك مبسوطة، ويد تصرفه في جميع ذلك محيطة وبما يستند إليه كم أوامره محوطة، ويقدم تقوى الله على كل أمر، ويتبع فيه رضا الله تعالى لا رضا زيد وعمرو؛ والخط الشريف أعلاه.
وهذه نسخة توقيع من ذلك بحسبة الفسطاط المعبر عنه الآن بمصر عوداً إليها، وهي: الحمد لله الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، الشاهد بالعدل الذي تقوى به كلمة الإيمان وتنصر، والغامر بالجود الذي لا يحصى والفضل الذي لا يحصر، العامر ربوع ذوي البيوت بتقديم من انعقدت الخناصر على فضله الذي لا يجحد ولا ينكر..
نحمده على نعمه التي لاتزال ألسنة الأقلام ترقم لها في صحف الإنعام ذكراً وتجدد لها بإصابة مواقع الإحسان العام شكراً، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تصدع بنورها ليل الشرك فيؤول فجراً، ونشهد أ، سيدنا محمداً عبده ورسوله الذي قمع الله به من اغتر بالمعاصي وغرر، وأقام بشريعته لواء الحق الأطهر ومنار العدل الأظهر، وعلى آله وصحبه الذين سلكوا من الهدايا بإرشاده منهج الحق الأنور، واحتسبوا نفوسهم في نصرته ففازوا من رضاه بالحظ الأوفى والنصيب الأوفر.
وبعد، فإن الله تعالى لما جعل كلمتنا المبسوطة على العدل والإحسان مقصورة، وأوامرنا الشريفة بإقامة منار المعروف ممؤيدةً منصورة، وأحكامنا المشهورة بالإنصاف في صحائف الدهر بالمحاسن مسطورة، وألهمنا من اتباع الشرع الشريف ماغدت به قلوب الرعايا آمنة مسرورة- قصدنا أن نختار لمراتب الديانة والعفاف من لم يزل بيته بالصدارة عليا، ووصفه بأنواع المحامد والممادح ملياً.
ولما كان فلان هو الذي ورث بالسيادة، عن سلف طاهر، وتلقى السعادة، عن بيت فروعه التقوى فأزرت بالروض الزاهي الزاهر، وسرت سرائره بحسن سيرته وسيره، وأبطن من الديانة ما أظهرته أدلة خيره، وتنقل في المراتب الدينية الدينية فأربى في حسن السلوك على غيره، وسلك من الأمانة الطريق المثلى، واعتمد ماعدم بع مضاهياً ومثلاً، وجنى مانطق بإنصافه فضل الكيل والميزان، ورجاه من أهل الخير كل ذي إحسان وخشية أهل الزيغ والبهتان؛ وكانت الحسبة المباركة بمصر المحروسة قد ألفت قضاياه وأحكامه، وعرفت بالخير معروفة وشكرت نقضه وإبارمه، فارقها على رغمها منه اختياراً، وعادت له خاطبةً عقيلة نزاهته التي لا تجارى.
فلذلك رسم بالأمر الشريف العالي أن يفوض إليه كذا. فليقدم خيرة الله في مباشرة هذه الوظيفة، وليقم منارها بإقامة حدودها الشريفة، ولينظر في الكيل والميزان اللذين هما لسان الحق الناطق، ولينشر لواء العدل الذي طالما خفقت بنوده في أيامنا حتى غدا قلب المجرم، وليحسن النظر في المطاعم والمشارب، وليرع أهل البدع ممن مستخف بالليل وسارب؛ وفيه- بحمد الله تعالى- من حسن الألمعية مايغني عن الإسهاب في الوصايا، ويعين على السداد في نفاذ الأحكام وفصل القضايا؛ وكيف لا وهو الخبير بمايأتي ويذر، والصدر الذي لا يعدو الصواب إن ورد أو صدر؛ والله تعالى يعمر به للعدل معلماً، ويكسوه بالإقبال في أيامنا الشريفة ثوباً بالثواب معلماً؛ والخط الشريف أعلاه، حجة بمقتضاه.
وهذه وصية محتسب أوردها في التعريف وهي: وقد ولي أمر هذه الرتبة، ووكل بعينه النظر في مصالح المسلمين لله حسبة؛ فلينظر في الدقيق والجليل، والكثير والقليل، ومايحصر بالمقادير وما يحصر، ومايؤمر فيه بمعروف أو ينهي عن منكر، ومايشتري ويباع، ومايقرب بتحريره إلى الجنة ويبعد من النار ولو لم يكن قد بقي بينه وبينها إلا قدر باع أو ذراع؛ وكل مايعمل من المعايش في نهار أوليل، ومالايعرف قدره إلا إذا نطق لسان الميزان أو تكلم فم الكيل. وليعمل لديه معدلاً لكل عمل، وعيار إذا عرضت عليه المعايير يعرف من جار ومن عدل، وليتفقد أكثر هذه الأسباب، ويحذر من الغش فإن الداء أكثره من الطعام والشراب، وليتعرف الأسعار ويستعلم الأخبار، في كل سوق من غير إعلام لأهله ولا إشعار، وليقم عليهم من الأمناء من ينوب عنه في النظر ويطمئن به وإن غاب إذا حضر، ويأمره بإعلامه بما أعضل، ومراجعته مهما أمكن فإن رأي مثله أفضل. ودار الضرب والنقود التي منها تنبث، وقد يكون فيها من الزيف مالايظهر إلا بعد طول اللبث؛ فليتصد لمهماتها بصدره الذي لا يحرج، وليعرض منها على المحك من رأيه مالا يجوز عليه بهرج، مايعلق من لا ذهب المكسور ويروبص من الفضة ويخرج، وماأكلت الناركل لحامه أو بعضه فليقم عليه من جهته الرقباء، وليقم على شمس ذهبه من يرقب منه ماترقب من الشمس الحرباء، وليقم الضمان على العطارين والطرقية من بيع غرائب العقاقير إلا ممن لا يستراب فيه وهو معروف، وبخط متطبب ماهرٍ لمريضٍ معينٍ في دواء موصوف. والطرقية وأهل النجامة وسائر الطوائف المنسوبة إلى ساسان، ومن يأخذ أموال الرجال بالحيلة ويأكلهم باللسان، وكل إنسان سوء من هذا القبيل هو في الحقيقة شيطان لا إنسان؛ امنعهم كل المنع، واصدعهم مثل الزجاج حتى لا ينجير لهم صدع، وصب عليهم النكال وإلا فما يجدي في تأديبهم ذات التأديب والصفع، واحسم كل هذه المواد الخبيثة، واقطع مايجدد ضعفاء الناس من هذه الأسباب الرثيثة؛ ومن وجدته قد غش مسلماً، أوأكل بباطل درهماً، أو أخبر مشترياً بزائد، أو خرج عن معهود العوائد، أشهره في البلد، وأركب تلك الآلة قفاه حتى يضعف منه الجلد؛ وغير هؤلاء من فقهاء المكاتب وعالمات النساء وغيرهما من الأنواع ممن يخاف من ذئب العائث في سرب الظباء والجآذر، ومن يقدم على ذلك ومثله وما يحاذر، ارشقهم بسهامك، وزلزل أقدامهم بإقدامك، ولاتدع منهم إلا من اختبرت أمانته، واخترت صيانته. والنواب لا ترض منهم إلا من يحسن نفاذاً، ويحسب لك أجر استنابته إذا قيل لك من استنبت فقلت هذا؛ وتقوى الله هي نعم المسالك، ومالك في كل ما ذكرناه بل أكثره إلا إذا عملت فيه بمذهب مالك.
الوظيفة الرابعة: وكالة بيت المال:
وهي وظيفة عظيمة الشان رفيعة المقدار، وقد تقدم أن موضوعها التحدث فيما يتعلق بمبيعات بيت المال ومشترواته: من أرضٍ وغير ذلك مما يجري هذا المجرى، وأن متوليها لا يكون إلا من أهل العلم والديانة، وأن له مجلساً بدار العدل: تارة يكون دون مجلس المحتسب، وتارة فوق مجلسه، بحسب رفعة قدر كل منهما في نفسه. وقد أضيف إليها في المباشرة نظر كسوة الكعبة الشريفة وصارا كالوظيفة الواحدة.
وهذه نسخة توقيع بوكالة بيت المال: الحمد لله جامع المناصب الدينية، لمن خطبته لها رتبتان: العلم والعمل، ومكمل الرتب السنية، لمن وجدت فيه أهبتان: الورع والتقى، وعدمت منه خلتان: الحرص والأمل، جاعل اختصاص الرتب بأكفائها حلية الدول، والنظر في مصالحها الخاصة والعامة زينة أيامنا التي تتلفت إلى محاسنها أجياد الأيام الأول.
نحمده على نعمة التي عصمت آراءنا من اعتراض الخلل، وأمضت أوامرنا من مصالح الأمة بما تسري به المحامد سري النجوم ويسير به الشكر سير المثل.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً لم نزل نستنطق بها في الجهاد، ألسنة الأسل، ونوقظ لإقامتها عيون جلاد، لها الغمود جفون والسهام أهداب السيوف مقل، ونشهد أن محمداً ورسوله الذي أظهر الله دينه على الأديان وشرف ملته على الملل، وأسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى إلى سدرة المنتهى وعاد ولم يكمل الليل بين السير والقفل، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين هجروا في المهاجر إليه الأحياء والحلل، وشفوا بأسنة سنته العلل والغلل، وتفردوا بكمال المفاخر فإذا خلعت الأقلام على أوصافهم حللاً غدت منها في أبهى من الحلل، صلاةً تتوالى بالعشى والإبكار وتتواتر في الإشراق والطفل، وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد، فإن أولى الرتب بإنعام النظر في ارتياد أكفائها، وانتقاد فرائد الأعيان لها وانتقائها، واستخارة الله تعالى في اختيار من يكون أمر دينه هو المهم المقدم لديه، واستنارة التوفيق في اصطفاء من يكون مهم آخرته هو المرئي المصور بين عينيه، مع مااتصف به من محاسن سجايا جبلت عليها طباعة، وخص به من سوابق مزايا رحب بها في تلقي المصالح الدينية صدره وباعه، رتبتان يعم نفعهما ويخص، ويحسن وقعهما بما يبديه من أوصافه ويقص، ويتعلق كل منهما بجماعة الأمة فرداً فرداً، ويشتملان على منافعهم على اختلافها بداً وإعادةً وعكساً وطرداً، ويكون المتصدي لهما مناقشاً على حقوقهم وهم ساهون، ومفتشاً عن مصالحهم وهم عنها لاهون، ومناضلاً عنهم وهم غافلون، ومشمراً للسعي في مصالحهم وهم في حبر الدعة رافلون، ومتكلفاً لاستماع الدعوى عنهم جواب فلوات الجواب، ومتكفلاً بالتحري في المحاورة عنهم وإصابة شاكلة الصواب، ومؤدياً في نصحهم جهده تقرباً إلى مراضينا وله عندنا الرضا وابتغاء ثواب الله: {والله عنده حسن الثواب} وهما وكالة بيت المال المعمور والحسبة الشريفة بالقاهرة المحروسة: فإن منافع وكالة بيت مال المسلمين عائدة عليهم، آئلة بأحكام الشريعة المطهرة إليهم، راجعة إلى ما يعمهم مساره، معدة لما تدفع به عنهم من حيث لا يشعرون مضاره، صائنة حقوقهم من تعدي الأيدي الغاصبة، حافظة بيوت أموالهم من اعتراض الآمال العاملة الناصبة: وكذلك نظر الحسبة: فإنه من أخص مصالح الخلق وأعمها، وآكد الوظائف العامة وأكملها استقصائية للمصالح الدينية والدنيوية وأتمها، يحفظ على ذوي الهيئات أقدارهم، ويبين بتجنب الهنات في الصدر مقدارهم، ويصون بتوقي الشبهات إيرادهم وإصدارهم، وينزه معاملاتهم عن فساد يعارضها أو شبه تنافي كمال الصحة وتناقضها، ويحفظ أقواتهم من غش متلف، أو غلو مجحف، إلى غير ذلك من أدويةٍ لابد من الوقوف على صحة ترتيبها وتركيبها، وتتبع الأقوال التي تجري بها الثقة إلى غاية تجريبها؛ ولذلك لا تجمعان إلا لمن أوقفه علمه على جادة العمل، واقتصر به ورعه على مادة الحق فليس له في التعرض إلى غيره أمل، وسمت به أوصافه إلى معالم الأمور فوجد التقى أفضل مايرتقى، وعرضت عليه أدواته جوهر الذخائر فوجد العمل الصالح أكمل ما ينتقد منها وماينتقى، وتحلى بالأمانة، فصارت له خلقاً وسجية، وأنس بالنزاهة، فكانت له في سائر الأحوال للنجاة نجية، وأرته فضائله الحق حيث هو فتمسك بأسبابه وتشبث بأهدابه، واتصف به في سائر أحواله؛ فإن أخذ أخذ بحكمه وإن أعطى أعطى به، واحترز لدينه فهو به ضنين، واستوثق لأمانته وإن لم يكن فيها بحمد الله متهماً ولاعليها بظنين، واجتنى ثمار المحامد الحلوة من كمام الأمانة المرة، وعلم أن رضا الله تعالى في الوقوف مع الحق فوقف معه في كل ماساءه للخلق وسره.
ولما كان فلان هو الذي أمسكت الفضائل بما كملها من آداب نفسه ونفاسة آدابه، وتجاذبته الرتب للتحلي بمكانته فلم تكن هذه التربة بأحق به من الأعلام لفظاً، ونوهت بذكره العلوم الدينية التي أتقنها بحثاً وأكملها درايةً وأثبتها حفظاً؛ فأوصافه كالأعلام المشتقة من طباعه، والدالة بدوامها على انحصار سبب الاستحقاق فيه واجتماعه؛ المنبهة على أنه هو المقصود بهذه الإشارات التي وراءها كل مايحمد من اضطلاعه بقواعد هذه الرتب واطلاعه؛ فهو سر ما ذكر من نعوتٍ وأوصاف، ومعنى ماشهر من معدلة وإنصاف، ورقوم ماحبر من حلل أفيضت منه على أجمل أعطاف- رسم أن يفوض........ تفويضاً يقع به الأمر في أحسن مواقعه، ونضع به الحكم في أحمد مواضعه، ويحل من أجياد هذه المناصب محل الفرائد من القلائد، ويقع من رياض هذه المراتب وقوع الحيا الذي سعد به رأي الرائد.
فليباشر هاتين الوظيفتين مرهفاً في مصالحهما همةً غير همة، مجتهداً من قواعدهما فيما تبرأ به عند الله منا ومنه الذمة، محاققاً على حقوق بيت المال حيث كانت محاققة من يعلم أنه مطلوب بذلك من جميع الأمة، متحرياً للحق فلا يغدو لما يجب له مهملاً، ولا لما يجب عليه مماطلاً، واقفاً مع حكم الله تعالى الجلي في الأخذ والعطاء فإنه سيان من ترك حقاً أو أخذ باطلاً، مجرياً عوائد الحسبة على ماألف من تدبيره، وعرف منإتقانه وتحريره، وشهر من اعتماده للواجب في سائر أموره، مكتفياً بما اطلع عليه قديماً من مصالحها، منتهياً إلى ماسبقت معرفته به من أسبابها ومناجحها، والله تعالى يوفقه في اجتهاده، زيعينه على مايدخره لمعاده، إن شاء الله تعالى.
وهذه وصية وكيل بيت المال أوردها في التعريف.
وهو الوكيل في جميع حقوق المسلمين وماله معهم إلا حق رجلٍ واحد، والمكلف بالمخاصمة عنهم حتى يقر الجاحد، وهو القائم للدعوى لهم وعليهم، والمطلوب من الله ومنا بما يؤخذ لهم أو يؤخذ من يديهم، والمعد لتصحيح العقود، وترجيح جهة بيت المال في العقار المبيع والثمن المنقود، والمتكلم بكتاب الوكالة الشرعية الثابتة، والثابت القدم والأقدام غير ثابتة، والمفسوح المجال في مجالس الحكام، والمجادل بلسان الحق في الأحكام، والموقوفة كل دعوى لم تسمع في وجهه أو في وجه من أذن له في سماعها، والمرجوع إليه في إماتة كل مخاصمة حصل الضجر من طول نزاعها، وإبداء الدوافع، مالم يجد بداً من الإشهاد عليه بعدم الدافع، والانتهاء إلى الحق كان له أو عليه ولايقف عند تثقيل مثقل ولاشفاعة شافع، وبوقوفه تحدد الحدود وتمتحن الشهود ويمشي على الطرق المستقيمة، وتحفظ لأصحابها الحقوق القديمة، وبه يتم عقد كل بيع وإيجار وإذا كانت المصلحة فيها لعامة المسلمين ظاهرة، ولهم فيما يوكل عنهم فيه الحظ والغبطة بحسب الأوقات الحاضرة.
ونحن نوصيه في ذلك كله بالعمل بما علم، والانتهاء في مقتضى قولنا إلى مافهم، وتقديم تقوى الله فإنه متى قدمها بين يديه سلم، والوقوف مع رضا الله تعالى فإنه متى وقف معه غنم، والعمل بالشرع الشريف كيفما توجهت به أحكامه، والحذر من الوقوف إذا نفذت سهامه؛ ومن مات له ورثة معروفة تستكمل بحقها ميراثه، وتحوز بحظها تراثه؛ لا يكلفهم ثبوتاً يكون من باب العنت، والمدافعة بحقٍ لا يحتاج مستحقه إلى زيادة ثبت؛ وإنما أنت ومن كانت فقضيته منكرة، والمعروف من مستحقي ميراثه نكرة، فأولئك شدد في أمرهم، وأوط شهداءهم في الاستفسار منهم على جمرهم؛ وتتبع باطن الحال لعله عنك لا يتستر، ولايمشي عليك فيه الباطل ويمشي شاهد الزور بكميه ويتبختر؛ فإن تحققت صحة شهاداتهم وإلا فأشهرهم في الدنيا ودعهم في الآخرة لا يخفف عنهم العذاب ولايفتر، وكل مايباع أو يؤجر ارجع فيه إلى العواشد، وتقلد أمر الصغير، وجدد لك أمراً منا في الكبير، وذلك بعد مراعاة ما يجب مراعاته، والتأني كل التأني حتى يثبت ماينبغي إثباته؛ وشهود القيمة عليهم المدار، وبشهادتهم يقدر المقدار؛ ومالم يكونوا من ذوي الأقدار، ومن أهل الخبرة بالبر والجدار، وممن اشترى العقار واستغله وبنى الدار؛ وإلا فاعلم أن مثله لا يرجع إليه، ولايعول ولاسيما في حق بيت المال عليه، فاتفق مع ولاة الأمور من أهل الأحكام، على تعيين من تعين لتقليد مثل هذه الشهادة، وتعرف منهم من له كل الخبرة حتى تعرف أنه من أهل الزهادة، ولك أن تدعي بحق المسلمين حيث شئت ممن ترى أن حقه عنده يترجح، وأن بينتهم تكون عنده أوضح، فأما الدعوى عليك فمن عادتها أن لا تسمع إلا في مجلس الحكم العزيز الشافعي- أجله الله تعالى- ونحن لا نغير العوائد، ولاننقض مابنت الدول السالفة عليه القواعد؛ فليكن في ذلك المجلس سماعها إذا تعينت، وإقامة البينات عليها إذا تبينت، والله الله في حق بيت المال، ثم الله الله في الوقت الحاضر والمآل، ومن تبستنيبهم عنك بالأعمال لا تقر منهم إلا من تقر به عينك، ويوفى به عند الله بما تحصله من الدنيا دينك؛ ومن كان لعمله مصلحاً، ولأمله منجحاً، ولاتغير عليه فيما هو فيه، ودعه حتى يتبين لك خافيه؛ ولتستقص في كل وقت عنهم الأخبار، ولتستعلم حقائق ماهم عليه بمن تستصحبه من الأخيار، ولاتزال منهم على يقين، وعملٍ بما فيه خلاص دنيا ودين.
الوظيفة الخامسة: الخطابة:
وهي من أجل الوظائف وأعلاها رتبةً في نفس الأمر. وموضوعها معروف وتختص هذه الطبقة من التواقيع بخطابة الجوامع.
وهذه نسخة توقيع بخطابة الجامع بقلعة الجبل المحروسة، حيث مصلى السلطان، من إنشاء شهاب الدين محمود الحلبي: الحمد لله الذي أنار بالذكر قلوب أوليائه، وكشف بالذكرى بصائر أصفيائه، وأنال أهل العلم بالإبلاغ عنه إلى خلقه وراثة أنبيائه، واختار لإذكارنا بآلاء الله من فرسان المنابر من يجاهد الأعداء بدعائه، ويجاهر الأوداء من مواعظه بما يعلم كل منهم أن في مؤلم صوادعه دواء دائه؛ فإذا افتتح بحمد الله أثنى عليه بمواد علمه حق ثنائه، ونزهه بما ينبغي لسبحات وجهه وجلال قدسه وتقدس أسمائه، وأثنى كما يجب على نبيه صلى الله عليه وسلم الذي آدم ومن بعده الرسل تحت لوائه، وإذا تليت على خيل الله خطبته تشوقت لبقاء أعداء الله إلى لقائه، وخطبت الجنان من بذل نفوسها ونفائسها بما أقتنته في سبيل الله لاتقائه.
نحمده على أن جعلنا لذكره مستمعين، ولأمره ونهيه متبعين، وعلى حمده في كل ملأ من الأولياء مجتمعين.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً لاتزال تختال بذكرها أعطاف المنابر، وتتعطر ألسنة الأقلام بما تنقله منها عن أفواه المحابر، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي هدى الله من تقدم من الأمة بخبره ومن تأخر بخبره، وجعل روضة من رياض الجنة بين قبره ومنبره، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين هم أول من عقدت بهم من الجمع صلواتها، وأكرم من زهيت به من الجهاد والمنابر صهواتها، صلاةً لانزال نقيمها عند كل مسجد، ونديمها في كل متهم في الآفاق ومنجد، وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد، فإن أولى المنابر أن يرتاد له من أئمة العلماء علامة عصره، ورحلة مصره، وإمام وقته الذي يصدع بالحق وإن صدع، وعالم زمانه الذي يقوم في كل مقام بما يناسبه مما يأخذ في الموعظة الحسنة ومايدع، منبر نذكر بآلاء الله على أعواده وإن لم نزل لها من الذاكرين، وننبه فيه على شكر الله بالرأفة على خلقه وإن لم نبرح لها بذلك وغيره من الشاكرين، ونشوق عليه إلى الجهاد في سبيل الله بما أعد لما على ذلك من النصر والأجر وإن كنا على الأبد إليه مبادرين، وإلى إقامة دعوة الحق به مباكرين.
ولما كان فلان هو الذي تعين لرقي هذه الرتبة فخطب لخطابتها، وتبين أنه كفؤها الذي تتشوق النفوس إلى مواعظه فترغب في إطالتها لإطابتها- اقتضت آراؤنا الشريفة أن نحلي بفضائله أعطاف هذا المنبر الكريم، وأن تحتص نحن وأولياؤنا بسماع مواعظه التي ترغب فيما عند الله بجهاد أعداء الله، والله عنده أجر عظيم.
فلذلك رسم بالأمر الشريف- لازال يطلع في أفق المنابر من الأولياء شمساً منيرة، ويقيم شعائر الدين من الأئمة الأعلام بكل مشرق العلانية طاهر السريرة- أن يفوض إليه كذا: فليحل هذه الرتبة التي لم تقرب لغيره جيادها، ويحل هذه العقيلة التي لا تزان بسوى العلم والعمل أجيادها، ويرق هذه الهضبة التي يطول إلا على مثله صعودها، ويلق تلك العصبة التي تجتمع للأولياء به حشودها. وهو يعلم أنه في موقف الإبلاغ عن الله لعباده، والإعلام لما أعد الله في دار كرامته لمن جاهد في الله حق جهاده، والإنذار لمن قصر في إعداد الأهبة ليوم معاده؛ وهو بمحضر من حماة الإسلام، ومشهد ممن قلدناه أمر أمة سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام؛ فليقصر خطبه على طاعة لله لولاة أمر قدمتها بين يديها، وتوبةٍ يبعث الهمم، على تعجيلها، وأوقات مكرمة ينبه الأمم، على احترامها بتقوى الله وتبجيلها، ودنيا ينذر من خداعها، ويبين للمغتر بها ماعرف من خلائقها المذمومة وألف من طباعها، وأخرى يوضح للمعرض عنها وشك قدومها، ويحذر المقصر في طلابها من عذابها ويبشر المشمر لها بنعيمها. وليعلم أن الموعظة إذا خرجت من الألسنة لم تعد الأسماع، ولم يحصل منها على غير تعقل القرائن والأسجاع؛ وإذا خرجت من القلوب وقعت في مثلها، وأثمرت في الحال بالمحافظة على فرض الطاعة ونفلها، وسكنت في السرائر طباع طاعة ٍ تأبى على محاول نقلها، وقدحت في البصائر من أنواع المعرفة مالم يعهد من قبلها. وليجعل خطبه في كل وقتٍ مناسبةً لأحوال مستمعيها، متناسبةً في وضوح المقاصد بين إدراك من يعي غوامض الكلام ومن لا يعيها؛ فخير الكلام ماقل ودل؛ وإذا كان قصر خطبة الرجل وطول صلاته منبئين عن فقهه فما قصر من حافظ على ذلك ولاأخل؛ وليوشح خطبه من الدعء لعموم الأمة فقد تعينت- إن شاء الله- الإصابة؛ وهذه الوصايا على سيبل الذكرى التي تنفع المؤمنين وترفع المحسنين، والله تعالى يجعله- وقد فعل- من أوليائه المتقين، بمنه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
وهذه وصية خطيب أوردها في التعريف: وليرق هذه الرتبة التي رفعت له ذرا أعوادها، وقدمت له من المنابر مقربات جيادها، وليصعد منها على أعلى درجة؛ وليسعد منها بصهوة كأنما كانت له من بكرة يومه المشرق مسرجة، وليرع حق هذه الرتبة الشريفة، والذروة التي ماأعدت إلا لإمامٍ فردٍ مثله أو خليفة، وليقف حيث تخفق على رأسه الأعلام، ويتكلم فتخرس الألسنة وتجف في فم الذرا الأقلام، وليقرع المسامع بالوعد والوعيد، ويذكر بأيام الله من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، ويلين القلوب القاسية وإن كان منها ماهو أشد قسوةً من الحجارة والحديد، وليكن قد قدم لنفسه قبل أن يتقدم، وليسبل عليه درع التوبة قبل أن يتكلم، وليجعل لكل مقام مقالاً يقوم به على رؤوس الأشهاد، ويفوق منه سهماً لا يخطيء موقعه كل فؤاد، وليقم في المحراب مقام من يخشى ربه، ويخاف أن يخطف الوجل قلبه، وليعلم أن صدفة ذلك المحراب ماانفلقت عن ممثل درته المكنونة، وصناديق الصدور ماأطبقت على مثل جوهرته المخزونة، ولؤم بذلك الجم الغفير، وليتقدم بين أيديهم فإنه السفير، وليؤد هذه الفريضة التي هي من أعظم الأركان، وأول الأعمال التي توضع في الميزان، وأقرب القرب التي يجمع إليها داعي كل أذان، وليقم بالصلاة في أوقاتها، وليرح بها الإمام، وعليه بالتقوى في عقد كل نية، وأمام كل قضية؛ والله تعالى يجعله ممن ينقلب إلى أهله وهو مسرور، وينصب له مع الأئمة المقسطين يوم القيامة عن يمين الرحمن منابر من نور؛ بمنه وكرمه.
الوظيفة السادسة: الإمامة بالجوامع والمساجد:
والمدارس الكبار التي تصدر التولية عن السلطان في مثلها وهذه نسخة توقيع بالإمامة:
أما بعد حمد الله على نعمه التي جعلت أيامنا الشريفة تزيد أهل الفضائل إكراماً، وتخص بالسيادة والتقديم من أنشأه الله تعالى قرة أعينٍ وجعله للمتقين إماماً، وقدمه على أهل الطاعة الذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً، والشهادة له بالوحدانية التي تكسو مخلصها جلالاً وساماً، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي أم الناس وعلمهم الصلاة وأظهر في إقامة الدين مقالاً محموداً ومقاماً، وعلى آله وصحبه الذين تمسكوا بسنته توثقاً واعتصاماً- فإن خير الرتب في هذا العصر وفيما تقدم رتبة الإمامة حيث تقدم سيد البشر في محرابها على الأمة وأم، فاختارها من اتبع الطريق المحمدية وشرعها، وعلم سناءها ورفعها، فزاد بذلك سمواً إلى سموه، وحصل على تضاعف الأجر ونموه؛ وهو فلان.
رسم- لازالت إيامه الشريفة تشمل ذوي الأصالة والصدارة بجزيل فضلها، وعوائد إنعامه تجري بإتمام المعروف فتبقي الرتب الدينية بيد مستحقها وتسارع إلى تخليد النعم عند أهلها- أن يستمر فلان في كذا جارياً فيه على أجمل العادات؛ إعانةً له على اكتساب الأجور بما يعتمده من تأهيل معهد العبادات، ورعايةً لتكثير المبار، وترجيحاً لما اشتمل عليه من حسن النظر في كل إيراد وإصدار، وتوفيراً للمناجح التي عرفت من بيته الذي كم ألف منه فعل جميل وعمل بار، ووثوقاً بأنه يعتمد في عمارة مساجد الله سبحانه وتعالى أن تشهد به الملائكة المتعاقبون بالليل والنهار، والله تعالى يجعل النعم عنده مؤبدة الاستقرار؛ إن شاء الله تعالى.
الوظيفة السابعة: التدريس:
وموضوعه إلقاء المسائل العلمية للطلبة وهذه نسخة توقيع بتدريس كتب به للقاضي عز الدين ابن قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة، عوضاً عن والده، في جمادى الآخرة سنة ثلاثين وسبعمائة؛ وهي: الحمد لله متم فضله على كل أحد، ومقر النعمة على كل والد وولد، الذي خص أولياءنا ببلوغ الغايات في أقرب المدد، واستصحاب المعروف فما ينوع منهم خاتم من يدٍ إلا ليد.
نحمده بأفضل مايحمده به من حمد، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً باقية على الأبد، ونصلي على سيدنا محمد نبيه الذي جعل شريعته واضحة الجدد، قائمةً بأعلام العلماء قيام الأمد، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين شبههم في الهدى بالنجوم وهم مثلها في كثرة العدد، وسلم تسليماً مكثيراً.
وبعد، فإن نعمنا الشريفة لا تتحول، ومواهبنا الجزيلة لاتزال لأوليائنا تتخول، وكرمنا يمهد منازل السعود لكل بدر يتنقل، وشيمنا الشريفة ترعى الذمم لكل من أنفق عمره في ولائها، وتحفظ مالها من المآثر القديمة بإبقائها من نجباء أبنائها؛ مع مانلاحظه في استحقاق التقديم، وانتخاب من ترقى منهم بين العلم والتعليم، وحصل في الزمن القليل العلم الكثير، واستم من نور والده وهو البدر المنير، وعلم بأنه في الفضائل سر أبيه الذي شاع، وخليفته الذي لو لم ينص عليه لما انعقد إلا عليه الإجماع، والواحد الذي ساد في رتبة أبيه وماخلت من مثله- لا أخلى الله منه البقاع! وكان المجلس السامي القضائي، الفلاني، هو المراد بما قدمنا من صفاته الجميلة، وتوسمنا أنه لمعة البدر وهي لا تخفى لأنها لا ترد العيون كليلة؛ ورأى والده المشار إليه من استحقاقه مااقتضى أن ينوه بذكره، وينبه على المعرفة بحق قدره، فآثر النزول له عما باسمه من تدريس الزاوية بجامع مصر المحروسة ليقوم مقامه، ويقرر فوائده وينشر أعلامه، ويعلم أنه قد حلق في العلياء حتى لحق البدر وبلغ تمامه؛ فعلمنا أن البركة فيما أشار، وأن اليمن بحمد الله فيما رجحه من الاختيار.
فلذلك رسم بالأمر الشريف- زاد الله في شرفه، وجعل أقطار الأرض في تصرفه- أن يرتب في هذا التدريس عوضاً عن والده، أطال الله بقاءه على عادته وقاعدته إلى آخر وقت لأنه أحق من استحق قدره الرفيع التمييز، وأولى بمصر ممن سواه لما عرفت به مصر من العزيز ثم من عبد العزيز.
ونحن نوصيك أيها العالم- وفقك الله- بالمداومة على ما أنت بصدده، والمذاكرة للعلم فإنك لا تكاثر العلماء إلا بمدده، والعمل بتقوى الله تعالى في كل قصد وتصدير، وتقريب وتقرير، وتأثيل وتأثير، وتقليل وتكثير، ونص وتأويل، وترتيب وترتيل، وفي كل ماتزداد به رفعتك، وتطير به سمعتك، ويحسن به الثناء على دينك المتين، ويقوم به الدليل على ماوضح من فضلك المبين.
واعلم بأنك قد أدركت بحمد الله تعالى وبكرمنا وبأبيك وباستحقاقك ما ارتد به كثير عن مقامك، ووصلت في البداية إلى المشيخة في زاوية إمامك؛ فاعمل في إفادة الطلبة بما يرفع الرافعي به الراية، ويأتم بك إمام الحرمين في النهاية؛ فقد أمسيت جار البحر فاستخرج جمانه، واجتهد لتصيب في فتاويك فإن أوليك سهام رميها من كنانة؛ وسبيل كل واقفٍ عليه العمل بمقتضاه والاعتماد وهذه نسخة توقيع بتدريس زاوية الشافعي بالجامع العتيق أيضاً، من إنشاء المولى زين الدين بن الخضر موقع الدست، كتب به لتاج الدين محمد الإخنائي شاهد خزانة الخاص، بالنيابة عن عمه قاضي القضاة تقي الدين المالكي في أيام حياته، مستقلاً بعد وفاته، وهي: أما بعد حمد الله على أن زان مجالس المدارس في أيامنا الشريفة بتاجها، وأقربها من ذوي الإنابة من يستحق النيابة عن تقي قوى الأحكام بإحكامها وإنتاجها، ورفع قدر بيتٍ مباركٍ طالما اشتهر علم علمه وصدر عن صدره فكان مادة مسرة النفس وابتهاجها، وجعل عوارفنا ترعى الذرية الصالحة في عقبها وتولي كل رتبة من أضحى لأهلها بوجاهته مواجهاً، والشهادة له بالوحدانية التي: تنفي شرك الطائفة الكافرة ومعلول احتجابها، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي استقامت به أمور هذه الأمة بعد اعوجاجها، وتشرفت به علماؤها حتى صارت كأنبياء بين اسرائيل بحسن استنباطها للجمل وجميل استخراجها، وعلى آله وصحبه الذين علموا وعملوا وأوضحوا لهذه الملة قويم منهاجها- فإن أولى الأولياء ببلوغ الأمل، وتعاهد مدارس العلم بصالح العمل؛ وإظهار سر الفوائد للطالبين، وحل عقود مشكلها بجميل الاطلاع وحسن اليقين، ومن حوى معرفة الفروع والأصول، وحاز من مذهبه المذهب خير محصول، ونشأ في حجر الفضائل وأقوى الدلائل، وله في الآباء والأبوة، الديانة التي بلغ بها من الإقبال مرجوه؛ طالما سارت أحكام عمه- أجله الله- في الأقطار، وحكم فأبدى الحكم بين أيدينا أو في الأمصار، وله العفاف والتقى والمآثر الجميلة وجميل الآثار، والفتاوى التي أوضح بها مشكلاً، وفتح مقفلاً، والفصل بين الخصوم بالحق المحتلى، والبركة التي لدولتنا الشريفة منها نصيب وافر، والتصميم الذي اقترن بغزارة العلم والوقار الظاهر؛ فهو- أعز الله أحكامه- من العلماء العاملين، وله البشرى بما قاله أصدق القائلين في النبأ الذي تتم به الزيادة والنماء: {إنما يخشى الله من عباده العلماء}.
ولما كان المجلس السامي هو الذي استوجب التصدير لإلقاء الدروس، وأضحى محله مناسباً لمحلها، أن يستقر في تدريس زواية الشافعي فلينب عن عمه في هذا التدريس، وليقف مايسر النفوس من أثره النفيس، وليفد الطلبة على عادته، وليبد لهم من النقول مايظهر غزير مادته، وليستنبط المسائل، وليجب بالأدلة المسائل، وليرجح المباحث، وليكن لوالده- رحمه الله- أحق وارث، وليستقل بهذه الوظيفة المباركة بعد وفاة عمه أبقاه الله تعالى، وليتزيد من العلم ليبلغ من صدقاتنا الشريفة آمالاً، والله تعالى يسدد له بالتقوى أقوالاً وأفعالاً، بمنه وكرمه.
وهذه نسخة توقيع بتدريس المدرسة الصلاحية المجاورة الرتبة الإمام الشافعي رضي الله عنه، كتب به لقاضي القضاة تقي الدين، ابن قاضي القضاة تاج الدين ابن بنت الأعز، من إنشاء القاضي محي الدين بن عبد الظاهر، وهي: الحمد لله شافي عي البحث بخير إمام الشافعي، والآتي منه في الزمن الأخير بمن لو كان في الصدر الأول لأثنى على ورعه ودينه كل صحابي وتابعي، ومفيد الأسماع من وجيز قولها المحرر ما لولا السبق لما عدل إلى شرح وجيز سواه الرافعي.
نحمده على نعم ألهمت وضع الأشياء في محلها، واستيداعها عند أهلها، وتأتيها بمايزيل الإشكال بانجذاب من شكله مناسب لشكلها.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً يتزين بها المقال، ويتبين بها الحق من الضلال، ونشهد أن محمداً عبده موضح الطرق إلى الحق المبين، وناهجها إلى حيث مجتمع الهدى ومرتبع الدين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاةً تهدي إلى صراط الذين، ورضي الله عن أصحابه، الذين منهم جاء بالصدق وصدق به فقوي سبب الدين المتين، ومنهم من فرق بين الحق والباطل وكان إمام المتقين وسمي أمير المؤمنين، ومنهم من جهز جيش العسرة فثبت جأش المسلمين، ومنهم من أعطاه صلى الله عليه وسلم الراية فأخذها منه باليمين، ورضي اللع عن بقية الصحابة أجمعين.
وبعد، فلما كان مذهب الإمام الشافعي محم بن إدريس رضي الله عنه هو شهدة المتلفظ، وكفاية المتحفظ وطراز ملبس الهدى، وميدان الاجتهاد الذي لا تقف أعنة جياده عن إدراك المدى؛ وقد تجملت ديار مصر من بركة صاحبه بمن تشد إليه الرحال، وتفخر جبانة هو فيها حال، وجيد هو بجواهر علومه حال، ومن يحسن إلى ضريحه المنيف الاستناد، وإذا قرئت كتبه لديه قيل ماأبعد هذا المرمى الأسنى!، وما أسعد حلقة تجمع بين يدي جدثه يتصدر فيها أجل حبر، ويتصدى لنشر العلوم بها من عرف بحسن السيرة عند السبر، ومن لولا خرق العوائد لأجاب بالشكر والثناء عليه صاحب ذلك القبر كلما قال: قال صاحب هذا القبر- حسن بهذه المناسبة أن لا ينتصب في هذا المنصب إلا من يحمد هذا السيد الإمام جواره، ومن يرضيه- رضي الله عنه- حسن العبارة، ومن يستحق أن يتصدر بين نجوم العلماء بدارة تلك الخطة فيقال قد جمل الله به دارة هذا البدر وعمر به من هذا المدرس داره، الذي يفتقر إلى تنويل نعمه، وتنويه قلمه، من الأئمة كل غني، ويعجب ببلاغة خطبه، وصياغة كتبه، من يحتلي ومن يجتني، ومن يهنا المستفيدون من عذوبة ألفاظه وصفاء معانيه بالمورد الهني، ومن إذا سح سحابه الهطال اعترف له بالمهو والهمول المزني، والذي لسعد جده من أبيه ليث أكرم به من ليث وأكرم ببنيه من أشبال!، وأعزز به من فاتح قعد كل ذي شماس، وإذا أخذ بالنص ذهب الاقتياس، وإذا قاس قيل هذا بحر المذهب المشار إليه بالأصابع في مصره جلالةً ولاينكر لبحر المصر الإشارة بالأصابع ولاالقياس، بإحاطته وحياطته قلم الفتاوى وقلم التنفيذ، ومن يفخر به كل عالم مفيد إذا قال: أنا بين يديه طالب وأنا له تلميذ، ومن حيثما التفت وجدت له سؤدداً جماً، وكيفما نظرت رأيت له من هنا حكماً!!!؛ فهو الأصل ومن سواه فروع، وهم الأثماد وهو الينبوع، وهو مجموع السيادة، المختار منه الإفادة، فما أحسنه من اختيار وماأتمه من مجموع. وكان قاضي القضاة، سيد العلماء، رئيس الأصحاب، مقتدى الفرق، قدوة الطوائف، الصاحب تقي الدين عبد الرحمن ولد الصاحب قاضي القضاة تاج الدين ابن بنت الأعز أدام الله شرفه، ورحم سلفه، وهو منتهى رغبة الراغب، ومشتهى منية الطالب، ومن إذا أضاءت ليالي النفوس بأقمار فتاويه قيل بياض العطايا في سواد المطالب، ومن تتفق الآراء على أنه بسن الكهولة شيخ المذاهب، ومن عليه يسحن الاتفاق، وبه يجمل الوفاق، وإذا ولي هذا المنصب ابتهج بولايته إياه مالك في المدينة وأبو حنيفة وأحمد رضي الله عنهم في العراق، واهتزت به وبمجاورة فوائده من ضريح إمامه جانب ذلك القبر طرباً، وقالت الأم لقد أبهجت- رحم الله سلفك- بجدك وإبائك جداً وأباً، ولقد استحقيت أن يقول لك منصب سلفك رضي الله عنهم: أهلاً وسهلاً ومرحباً، وهذه نسمات صباً، كانت الإفادة هنالك تعرفها منك من الصبا.
فالحمد لله على أن أعطى قوس ذلك المحراب باريها، وخص بشق سهامها من لايزال سعده مباريها، وجمل مطلع تلك السماء ببدرٍ كم باتت عليه الدرر تحسد دراريها، وألهم حسن الاختيار أن يجري القلم بما يحسن بالتوقيع الشريف موقعه، ويجمل في أثناء الطروس وضعه وموضعه.
فرسم بالأمر الشريف العالي المولوي، السلطاني: - أجراه الله بالصواب وكشف بارتيائه كل ارتياب، ولازال يختار وينتقي للمناصب الدينية كل عالم بأحكام السنة والكتاب- أن يفوض إليه تدريس المدرسة الصلاحية الناصرية المجاورة لضريح الإمام الشافعي بالقرافة رضي الله عنه. فليخول ولينول كل ذي استفادة، وليجمل منه بذلك العقد الثمين من علماء الدين بأفخم واسطةٍ تفخر بها تلك القلادة، وليذكر من الدروس مايبهج الأسماع، ويرضي الانتجاع، ويجاد به الانتفاع، ويحتلبه من أخلاف الفوائد ارتضاء الارتضاع، ويتناقل الرواة فوائده إلى علماء كل أفق من البقاع، وليقل فإن الأسماع لفوائده منصتة، والأصوات لمباحثه خاشعة والقلوب لمهابته مخبتة، ولينهض قوي المسائل بما يحصل لها أعظم انتعاش، وليمت ماأماته من البدع فيقال به له: هذا محمد بن إدريس مذ قمت أنت عاش، وليسمع بعلومه من به من الجهل صمم، وليستنطق من به من الفهاهةبكم، وليحقق عند الناس يتعصبه لهذا الإمام أنه قد قام بالتنويه به الآن الحاكم ابن الحاكم أخو الحاكم كما قام به فيما سلف بنو عبد الحكم.
وأما غير ذلك من الوصايا فهو بحمد الله صاحب إلهامها، وجالب أقسامها، وجهينة أخبارها، ومطلع أنوارها، فلا يعاد عليه مامنه يستفاد، ولا ينثر عليه در هو منظمه في الأجياد، والله تعالى يعمر بسيادته معالم الدين وأكنافه، ويزين بفضله المتين أوساط كل مصر وأطرافه، ويضيف إليه من السمتفيدين من بإرفاقه وإشفاقه يكون عيشه خفضاً بتلك الإضافة، ويجعله لا يخصص حنةه بمعهد دون معهد ولابمسافةً دون مسافةٍ، ويبقيه ومنفعته إلى ساريةٍ سارية الإطافة واللطافة، وألطافه بهذه الولاية تقول لكل طالبٍ في القرافة الق رافه.
قلت: ولما توفي قاضي القضاة بدر الدين بن أبي البقاء- تغمده الله تعالى برحمته- وكان من جملة وظائفه تدريس هذه المدرسة، كان السلطان قد سافر إلى الشام في بعض الحركات، فسافر ابنه أقضى القضاة جلال الدين حتى أدرك السلطان بالطريق، على القرب من غزة، فولاه الوظيفة المذكورة مكان أبيه، وكان القاضي نور الدين بن هلال الدولة الدمشقي حاضراً هناك، فأشار إليه القاضي فتح الدين فتح الله كاتب السر الشريف- عامله الله بلطفه الخفي- بإنشاء صدر لتوقيعه، يسطر به للعلامة الشريفة السلطانية، فأنشأ له سجعتين، هما: الحمد لله الذي أظهر جلال العلماء الشافعية بحضرة إمامهم، وأقام سادات الأبناء مقام آبائهم في بث علومهم وصلاتهم وصيامهم. ولم يجاوز ذلك إلى غيره، فسطر التوقيع بهاتين السجعتين، وعلم عليه العلامة السلطانية.
وكان من قول نور الدين بن هلال الدولة للقاضي جلال الدين المذكور: إن هذا التوقيع يبقى أبيض: فإنه ليس بالديار المصرية من ينهض بتكملته على هذا الأسلوب. فسمع القاضي كاتب السر كلامه، فكتب لي بتكملته على ظهره، وعاد به القاضي جلال الدين فأعطانيه، وأخبرني بكلام ابن هلال الدولة وكان من قوله، فتلكأت عن ذلك، ثم لم أجد بداً من إكماله وإن لم أكن من فرسان هذا الميدان، فأنشأت له تينك السجعيتن ماأكملته به، فجاء منه تلو السجعتين السابقتين اللتين أنشأهما ابن هلال الدولة: وخص برياسة العلم أهل بيتٍ رأت كهولهم في اليقظة مايتمنى شيوخ العلماء أن لو رأوه من منامهم.
وجاء من وسطه: اقتضى حسن الرأي الشريف أن ننوه بذكره، ونقدمه على غيره ممن رام هذا المقام فحجب دونه والله غالب على أمره وجاء في آخره: والله تعالى يرقيه إلى أرفع الذرا؛ وهذه الرتبة وإن كانت بدايته فهي نهاية غيره وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا وقد أعوزني وجدان النسخة عند إرادة إثباتها في هذا التأليف لضياع مسودتها ولم يحضرني منها غير ماذكرته. وفيما تقدم من إنشاء القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر من توقيع القاضي تقي الدين ابن بنت الأعز مالاينظر مع وجوده إلى غيره.
وهذه نسخة توقيع بتدريس المدرسة الصلاحية بمصر، المختصة بالمالكية، المعروفة بالقمحية، بمصر المحروسة، أنشأته لقاضي القضاة جمال الدين الأفقهسي، وهي:
الحمد لله الذي زين معالم المدارس من أعلام العلماء بحمالها، وميز مراتب الكملة بإجراء سوابق الأفكار في ميادين الدروس وفسيح مجالها، وعمر معاهد العلم بأجل عالم إذا ذكرت وقائع المناظرة كان رأس فرسانها وريس رجاله، وناط مقاصد صلاح الدين بأكمل حبر إذا أوردت مناقبه المأثورة تمسك أهل الديانة منها بوثيق حبالها.
نحمده على اختيار الجواهر والإعراض عن العرض، والتوفيق لإدراك المرامي وإصابة الغرض.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي خص أهل العلم بكريم جبائه، وشرف مقامهم في الخليقة فجعلهم في حمل الشريعة ورثة أنبيائه، شهادةً تعذب لقائلها بحسن الإيراد ورداً، وتجدد لمنتحليها بمواطن الذكر عهداً فيتخذ بها عند الرحمن عهداً، ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله أفضل نبي علم وعلم، وأكرم رسولٍ فصل الأحكام إذ شرع وندب وأوجب وحلل وحرم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين عنوا بتفسير كتاب الله تعالى فأدركوا دقيق معانيه، واهتموا بالحديث روايةً ودرايةً ففازوا بتأسيس فقه الدين وإقامة مبانيه، صلاةً تحيط من بحار العلم بزاخرها، وتأخذ من الدروس بطرفيها فتقارن الحمد في أولها وتصحب الدعاء في آخرها، ماتتبع بالمنقول مواقع الأثر، وعول في المعقول على إجالة الفكر وإجادة النظر، وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد، فإن أولى ماصرفت النفوس إليه هممها، وأخلصت فيه نيتها وخلصت من تبعاته ذممها، وتبعت فيه آثار من سلف من الملوك الكرام، وأعارته كلي نظرها وقامت بواجبه حق القيام- أمر المدارس التي هي مسقط حجر الاشتغال بالعلك ومستقر قاعدته، وقطب فلك تطلابه ومحيط داشرته، وميدان فرسان المشايخ ومدار رجالها، ومورد ظماء الطلبة ومحط رحالها؛ لاسيما المدارس الأيوبية التي أسس على الخير بناؤها، وكان عن صلاح الدين منشؤها فتألق برقها واستطار ضياؤها.
ومن أثبتها وثيقة، وأمثلها في الترتيب طريقة، المدرسة القمحية بالفسطاط الآخذة من وجوه الخير بنطاقها، والمخصوص بالسادة المالكية امتداد رواقها؛ إن اعتبرت رعاية المذاهب قالت: قد مالك ومامالك، وإن عملت حسبة المدارس في البر، كانت لها فذالك؛ قد رتب بها أربعة دروسٍ فكانت لها كالأركان الأربعة، وجعلت صدقتها الجارية براً فكانت أعظم براً وأعم منفعة.
ولما كان المجلس العالي، القاضوي، الشيخي، الكبيري، العالمي، العاملي، الأفضلي، الأكملي، الأوحدي، البليغي، الفريدي، المفيدي، النجيدي، القدوي، الحجي، المحققي، الإمامي، الجمالي: جمال الإسلام والمسلمين، شرف العلماء العاملين، أوحد الفضلاء المفيدين، قدوة البلغاء زين الأمة، وحد الأئمة، رحلة الطالبين، فخر المدرسين، مفتي الفرق لسان المتكلمين، حجة الناظرين، خالصة الملوك والسلاطين، ولي أمير المؤمنين، أبو محمدعبد الله الأقفهسي المالكي- ضاعف الله تعالى نعمته- هو عين أعيان الزمان، والمحدث بفضله في الآفاق وليس الخير كالعيان؛ مأولي منصباً من المناصب إلا كان له أهلاً، ولأراد الانصراف من مجلس علم إلا قال له مهلاً، ولارمى إلى غاية إلا أدركها، ولاأحاط به منطقة طلبةٍ إلا هزها بدقيق نظره للبحث وحركها، وإن أطال في مجلسه أطاب، وإن أوجز قصر محاوره عن الإطالة وأناب، وإن أورد سؤالاً عجز مناوئه عن جوابه، أو فتح باباً في المناظرة أحجم مناظره عن سد بابه، وإن ألم ببحث أربى فيه وأناف، وإن أفتى بحكم اندفع عنه المعارض وارتفع فيه الخلاف؛ فنوارده المدونة فيها البيان والتحصيل، ومقدماته المبسوطة إجمالها يغني عن التفصيل، ومشارقه النيرة لا يأفل طالعها، ومداركه الحسنة لا يسأم سامعها، وتهذيبه المهذب جامع الأمهات، وجواهره الثمينة لا تقاوم القيمة ولاتضاهى في الصفات- اقتضى حسن الرأي الشريف أن ننوه بذكره، ونقدمه على غيره، ممن حأول ذلك فامتنع عليه {والله غالب على أمره} فلذلك رسم بالأمر الشريف العالي، المولوي، السلطاني، الملكي، الناصري، الزيني- لازالت مقاصده الشريفة في مذاهب السداد ذاهبة، ولأغراض الحق والاستحقاق صائبة- أن يستقر المجلس العالي المشار إليه في تدريس المدرسة الصلاحية بمصر المحروسة المعروفة بالقمحية عوضاً عن فلان الفلاني، على عادة من تقدمه.
فليتلق ذلك بالقبول؛ ويبسط في مجالس العلم لسانه فمن كان بمثابته في الفضل حق له أن يقول ويطول؛ وملاك الأمر تقوى الله تعالى فهي خير زاد، والوصايا كثيرة وعنه تؤخذ ومنه تستفاد؛ والله تعالى يبلغه من مقاصده الجميلة غاية الأمل، ويرقبه من هضاب المعالي إلى أعلى مراتب الكمال وقد فعل؛ والاعتماد على الخط الشريف أعلاه تعالى أعلاه، حجة بمقتضاه، إن شاء الله تعالى. وهذه نسخة توقيع أيضاً بتدريس المدرسة الصلاحية المذكورة، أنشأته للقاضي شمس الدين محمد ابن المرحوم شهاب الدين أحمد الدفري المالكي، في شعبان سنة خمس وثمانمائة، وهو: الحمد لله مطلع شمس الفضائل في سماء معاليها، ومبلغ دراري الذراري النبيهة الذكر بسعادة الجد غاية غيرها في مباديها، وجاعل صلاح الدين أفضل قصدٍ فوقت العناية سهامها بإصابة غرضه في مراميها، ومجدد معالم المدارس الدراسة بخير نظر يقضي بتشييد قواعدها وإحكام مبانيها.
نحمده على أن صرف إلى القيام بنشر العلم الشريف اهتمامنا، وجعل بخيرته العائدة إلى التوفيق في حسن الاختيار اعتصامنا.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مفيض نتائج الأفكار من وافر إمداده، ومخصص أهل التحقيق بدقيق النظر تخصيص العام بقصره على بعض أفراده، ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله أوفر البرية في الفضل سهماً، والقائل تنويهاً بفضيلة العلم: لأبورك لي في صبيحة يومٍ لا أزداد فيه علماًصلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين حلوا من الفضل جواهره الثمينة، والتابعين وتابعي التابعين الذين ضربت آباط الإبل منهم إلى عالم المدينة.
وبعد، فإن أولى ماصرفت إليه الهمم، وبرئت بتأدية حقه الذمم، وغدت النفوس بالنظر في مصالحه مشتغلة، والفكر لشرف محله منه إلى غيره متنقلة، والنظر في امر المدارس التي جعلت للاشتغال بالعلم سبباً موصولاً، ولطلبته ربعاً لايزال بمجالس الذكر مأهولاً؛ لاسيما المدارس التي قدم في الإسلام عهدها، وعذب باستمرار المعروف على توالي الأيام وردها.
ولماكانت المدرسة الصلاحية بفسطاط مصر المحروسة قد أسس على التقوى بنيانها، ومهدت على الخير قواعدها وأركانها، واختصت طائفة المالكية منها بالخصيصة التي أغنى عن باطن الأمر عنوانها، وكان المجلس السامي هو الذي خطبته الرتب الجليلة لنفسها، وعينته لهذا الوظيفة فضائله التي قد آن ولله الحمد بزوغ شمسها، وعهدت منه المعاهد الجليلة حسن النظر فتاقت في يومها إلى ماألفت منه في أمسها- اقتضى حسن الرأي الشريف أن نفرده بهذه الوظيفة التي يقوم إفراده فيها مقام الجمع، ونجمع له من طرفيها مايتفق على حسنه البصر ويقضي بطيب خبره السمع.
فلذلك رسم بالأمر الشريف، العالي، المولوي، السلطاني، الملكي، الناصري، الزيني: - لازال يقيم للدين شعاراً، ويرفع لأهل العلم الشريف مقداراً- أن يستقر في الوظيفة المذكورة لما اشتهر من علمه وديانته، وبان عفته المشهورة ونزاهته، واتصف به من الإفادة، وعرف عنه من نشر العلوم في الإبداء والإعادة، وشاع من طريقته في إيضاحه وبيانه، وذاع من فوائده التي قدمته على أبناء زمانه، ورفعته إلى هذه المرتبة باستحقاقه على أقرانه.
فليباشر تدريسها مظهراً من فوائده الجليلة ماهو في طي ضميره، مضمراً من حسن بيانه كما يستغنى بقليله الجليلة ماهو في طي ضميره، مضمراً من حسن بيانه مايستغنى بقليله عن كثيره، مقرباً إلى أذهان الطلبة بتهذيب ألفاظه الرائقة مايفيد، مورداً من علومه المدونة مايجمع له بين نوادر المقدمات ومدارك التمهيد، موفياً نظرها بحسن التدبير حق النظر، مفراً رزقها بما يصدق الخبر فيه الخبر، قاصداً بذلك وجه الله الذي لا يخيب لراج أملاً، معاملاً فيه الله معاملة من يعلم أنه لا يضيع أجر من أحسن عملاً. وملاك الوصايا تقوى الله تعالى فليجعلها إمامه، ويتخيلها في كل الأحوال أمامه، ويتخيلها في كل الأحوال أمامه؛ والله تعالى يسدده في قوله وعمله، ويبلغه من رضاه نهاية سؤله وغاية أمله، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة توقيع بالتدريس بقبة الصالح، أنشأته لقاضي القضاة جمال الدين يوسف البساطيبعد أن كتب له بها مع قضاء القضاة المالكية في العشر الأخير من شعبان سنة أربع وثمانمائة، وهي:
الحمد لله الذي جعل للعلم جمالاً تتهافت على دركه محاسن الفضائل، وتتوارد على ثبوت محامده المتواردة قواطع الدلائل، وتحقق شواهد الحال من فضله مايتلمح فيه من لوائح المخايل.
نحمده على نعمه التي مااستهلت على ولي فأقلع عنه غمامها، ولا استقرت بيد صفي فانتزعت من يده حيث تصرف زمامها، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تزهر بمعالم الدين غروسها، وتينع بثمار الفوائد المتتابعة دروسها، وأن سيدنا محمداً عبده ورسوله أشرف الأنبياء قدراً، وأولهم في علو المرتبة مكاناً وإن كان آخرهم في الوجود عصراً؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الحائرين بقربه أفخر المناقب، والفائزين من درجة الفضل بأرفع المراتب، صلاةً تكون لحلق الذكر نظاماً، ولأولها افتتاحاً ولآخرها ختاماً، وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد، فإن من شيمنا الشريفة، وسجايانا الزاكية المنيفة، أنا إذا منحنا منحاً لا نستعيده، وإذا أعطينا عطاءً لا ننقصه بل نزيده، وإذا قربنا ولياً لا نقصيه، وإذا أنعمنا على صفي إنعاماً لانعده عليه ولانحصيه.
ولما كان تدريس المدرسة المالكية بقبة الصالح من أعلى دروسهم قدراً، وأرفعها لدى التحقيق ذكراً، وأعظمها إذا ذكرت الدروس فخراً؛ إذ بمجال جداله تنفطر المرائر، وبميدان مباحثه تشتهر البلق من مضمرات الضمائر، وبسوق مناظرته يتميز النضار عن الشبه، وبمحك مطارحته تتبين الحقائق من الشبه، وبمظان مجلسه يعرف العالي والسافل، وبمعركة فرسانه يعرف من المفصول والفاضل؛ ومن ثم لا يليه من علمائهم إلا الفحول، ولايتصدى لتدريسه إلا من أمسى بحسام لسانه على الأقران يصول؛ ولم يزل في جملة الوظائف المضافة لقضاء القضاة في الأول والآخر، تابعاً لمنصب الحكم في الولاية كل زمن إلا القليل النادر؛ وكان المجلس العالي، القاضوي، الكبيري إلى آخر ألقابه أدام الله تعالى نعمته قد اشتملت ولايته عليه لابتداء الأمر استحقاقاً، وحفظه كرمنا عليه فلم يجد الغير إليه استطراقاً- اقتضى حسن الرأي الشريف أن نتبع ذلك بولاية ثانيةٍ تؤكد حكم الولاية الأولى، ونردفه بتوقيع يجمع له شرف القدمة والجمع ولو بوجه أولى.
فلذلك رسم بالأمر الشريف العالي، المولوي، السلطاني، الملكي، الناصري، الزيني- لازال يعتمد في مشاهد الملوك أتم المصالح، ويخص الصالح منهم بمزيد النتظر حتى يقال ماأحسن الناصر في مصالح الصالح- أن يستمر المجلس العلاي المشار إليه على مابيده من الولاية الشريفة بالتدريس بقبة الصالح المذكورة، ومنع المعارض وإبطال ماكتب به وماسيكتب مادام ذلك في يده، على أتم العوائد وأكملها، وأحسن القواعد وأجملها.
فليتلق مافوض إليه بكلتا يديه، ويشكر إحساننا الشريف على هذه المنحة فإنها نعمة جديدة توجب مزيد الشكر عليه، وليتصدر بهذا الدرس الذي لم تزل القلوب تتقطع على إدراكه حسرات، وليتصدر بهذا الدرس الذي لم تزل القلوب تتقطع على إدراكه حسرات، ويتصد لإلقاء فوائده التي إذا سمعها السامع قال: هنا تسكب العبرات، ويبرز لفرسان الطلبة من...... صدره من كمينه، ويفض على جدأولهم الجافة ماسح به فكره من ينابيع معينه، مستخرجاً لهم من قاموس قريحته درر ذلك البحر الزاخر، مظهراً من مكنون علمه مالايعلم لمدة أول ولايدرك لمداه آخر، وينفق من ذخائر فضله ماهو بإنفاقه ملي، متفقداً لفضل غنائه من هو عن فرائده المربحة غير غني، مقرراً للبحث تقريراً يزول معه الالتباس، مسنداً فروعه النأمية إلى أثبت الأصول من الكتاب والسنة والإجماع والقياس، معتمداً لما عليه جادة مذهبه في الترجيح، جارياً على ما ذهب إليه جهابذة محققيه من التصحيح، مقبلاً بطلاقة وجهه في درسه على جماعته، باذلاً في استمالتهم طاقة جهده محسناً في التعليم مايبقى له ذكره على الأبد، منمياً ناشئتهم بالتدريب الحسن تنمية الغروس، جاهداً في ترقيهم بالتدريج حتى يؤهل من لم يكن تظن فيه أهلية الطلب لأن يتصدى للفتاوى وإلقاء الدروس؛ سالكاً من مناهج التقوى أحسن المسالك، مورداً من تحقيقات مذهبه ماإذا لمحة اللامح لم يشك أن لزمام المذهب مالك؛ والله تعالى يجريه على ماألفه من موارد إنعامه، ويمنع هذه الرتبة السنية: تارة بمجالس دروسه وتارةً بمجالس أحكامه؛ والاعتماد..........
وهذه نسخة توقيع بتدريس الحديث بالجامع الحاكمي، من إنشاء الشهاب محمود الحلبي للشيخ قطب الدين عبد الكريم وهي: الحمد لله الذي أطلع في أفق السنة الشريفة من أعلام علمائها قطباً، وأظهر في مطالعها من أعيان أئمتها نجوماً أضاء بهم الوجود شرقاً وغرباً، وأقام لحفظها من أئمة أعلامها أعلاماً أحسنوا عن سندها دفاعاً وأجملوا عن متونها ذباً، وشرف بها أهلها فكلما بعدت راحلتهم في طلبها ازدادوا من الله قرباً، واختار لحملها أمناء شغفت محاسنهم قلوب أهل الفرق على اختلافها حباً، وسلكوا باتباعها سنن السنن فأمنوا أن تروع لهم الشبه سرباً، وألهمنا من تعظيم هذه الطائفة مامهد لهم في ظل تقربنا إليه مقاماً كريماً ومنزلاً رحباً، وعصم آراءنا في الارتياد له من الخلل فلا نختار له إلا من تسر باختباره طلبة وتغبط بتعيينه أئمة وتنرضي بارتياده رباً.
نحمده على نعمه التي صانت هذه الرتبة السنية بأكفائها، وزانت هذه المرتبة الشريفة بمن لم تمل عينه في تأثيل قواعدها إلى إغفائها، وجعلت هذه الدرجة العلية فلكاً تشرق فيه لاشمة الحديث أننوار علوم تفنى الدهور دون إطفائها.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة مجادل عن سنته الشريفة بألسنة أسنته، مجالدٍ عن كلمتها بقبض معاقد وإطلاق أعنته، باعث بالجهاد دعوتها إلى كل قلب كان عن قبولها في حجب أكنته، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي أوتي جوامع الكلم، ولوامع السنة التي من اعتصم بهاعصم ومن سلم بها سلم؛ فهي مع كتاب الله أصل شرعه القويم، وحبل حكمه الذي لا تتمكن يد الباطل من حل عقده النظيم، وكنوز دينه التي لا يلقاها إلا ذو حظ عظيم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين عضوا على سنته بالنواجذ، وذبوا عن شريعته بسيوف الجلاد القواطع وسهام الجدال النوافذ، صلاةً لايزال يقام فرضها، ويملأ بها طول البسيطة وعرضها، وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد، فإن أولى ماتوجهت الهمم إلى ارتياد أئمته، وتوفرت الدواعي على التقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتفويض مناصبه إلى البررة الكرام من أمته- علم الحديث النبوي صلوات الله وسلامه على قائله، وحفظه بدروسه التي جعلت أواخر زمنه في صحة نقله ومعرفة أسراره كأوائله؛ وأن نختار لذلك من نشأ في طلبه حتى اكتهل، وسرى في تحصيله سرى الأهلة حتى اكتمل، وغذي بلبان التبحر فيه حتى امتزج بأديمه، وجد في تحصيله واجتهد حتى ساوى في الطلب بين حديث عمره وقديمه، وحفظ من متونه، مابمثله يستحق أن يدعى حافظاً، وغلب على فنونه، حتى قل أن يرى بغير علومه والنظر في أحكامه لافظاً؛ فإنه بعد كتاب الله العزيز مادة هذا الدين الذي يحكم بنصوصه، وتتفاوت رتب العلماء في حسن العمل بمطلقه ومقيده وعمومه وخصوصه، وعنهما تفرعت أحكام الملة فملأت علومها جميع الآفاق، وزكت أحكامها الشرعية على كثرة الإنفاق، وسرى الناس منها على المحجة التي استوى في الإشراق ليلها ونهارها، وعلا على الملل بالبراهين القاطعة نورها ومنارها؛ وكفى أهلها شرفاً أنهم يذبون عن سنة نبيهم ذب الليوث، ويجودون على الأسماع بما ينفع الناس في أمر دينهم ودنياهم منها جود الغيوث، ويحافظون على ألفاظها محافظة من سمعها منه صلى الله عليه وسلم، ويعظمون مجالس أقرادها ونقلها حتى كأنهم لحسن الأدب جلوس بين يديه، ويغالون في العلو طلباً للقرب منه وذلك من أسنى المطالب، ويرحلون لضم شوارده من الآفاق فياقرب المشارق عندهم من المغارب! ولما كان المجلس السامي الفلاني: هو الذي عني بكل ماذكر من وصفٍ كريم، وحديث ورع قديم، وقدم هجرة في علم الحديث اقتضت له حسن أولوية ووجوب تقديم، وتلقى هذا العلم كما وصف عن أئمته حتى صار من أعيانهم، ولقي منهم علماء أضحى باقتفائهم كما كتانوا رحلة زمانهم، ونظر في علومه فأتقنها فكأنه ينطق فيها بلسان ابن الصلاح، وأحرز غايات الكمال، في أسماء الرجال، فإلى إطلاعه يرجع في تجريح المجرح وتعديل الصحاح؛ وكان منصب تدريس الحديث الشريف النبوي الذي أنشأناه بالجامع الحاكمي تكثيراً لنشر أحاديث من لا ينطق عن الهوى، ونويناه لارتواء الرواة من بحر هذا العلم الشريف بالإعانة على ذلك وإنما لكل امريء مانوى، قد استغرقت أوقات مباشره بتفويضنا الحكم العزيز على مذهبه إليه، وتوفير زمانه على....
قلت: وتختلف أحوال التواقيع التي تكتب بالتداريس باختلاف موضوعاتها: من تدريس التفسير، والحديث، والفقه، واللغة، والنحو، وغير ذلك، في براعة الاستهلال والوصايا، وهو في الوصايا آكد.
وهذه نسخ وصايا أوردها في التعريف: وصية مدرس- وليطلع في محرابه كالبدر وحوله هالة تلك الحلقة، وقد وقت أهداب ذلك السواد منه أعظم اسوداداً من الحدقة، وليرق سجادته التي هي لبدة جواده إذا استن الجدال في المضمار، وليخفأضواء أولئك العلماء الذين هم كالنجوم كما تتضاءل الكواكب في مطالع الأقمار، وليبرز لهم من وراء المحراب كمينه، وليفض على جدأولهم الجافة معينه، وليقذف لهم من جنبات مابين جنبيه درر ذلك البحر العجاج، وليرهم من غرر حجياده مايعلم به أن سوابقه لا يهولها قطع الفجاج، وليظهر لهم من مكنون علمه ماكان يخفيخ الوقار، وليهب من ممنون فضله مايهب منه عن ظهر غنى أهل الافتقار، وليقرر تلك البحوث ويبين مايرد عليها، ومايرد به من منعها وتطرق بالنقض إليها، حتى لا تنفصل الجماعة إلا بعد ظهور الترجيح، والإجماع على كلمةٍ واحدةٍ على الصحيح، وليقبل في الدروس طلق الوجه عغلى جماعته، وليستملهم إليه بجهد استطاعته، وليربهم كما يربي الوالد الولد، وليستحسن ماتجيء به أفكارهم وإلا فكم رجل بالجبه لبنت فكر وأد؛ هذا إلى أخذهم بالاشتغال وقدح أذهانهم للاشتعال؛ ولينشيء الطلبة حتى ينمي منهم الغروس، ويؤهل منهم من كان لا يظن منه أنه يتعلم لأن يعلم ويلقي الدروس.
وصية مقريء: وليدم على ماهو عليه من تلاوة القرآن فإنه مصباح قلبه، وصلاح قربه، وصباح القبول المؤذن له برضا ربه، وليجعل سوره له أسواراً، وآياته تظهر بين عينيه أنواراً، وليتل القرآن بحروفه وإذا قرأ استعاذ، وليجمع طرقه وهي التي عليها الجمهور ويترك الشواذ، ولايرتد دون غايةٍ لإقصار، ولايقف فيعد أن أتم لم يبق بحمد الله إحصار، وليتوسع في مذاهبه ولايخرج عن قراءة القراء السبعة أئمة الأمصار، وليبذل للطلبة الرغاب، وليشبع فإن ذوي النهمة سغاب، ولير الناس ماوهبه الله من الاقتدار فإنه احتضن السبع ودخل الغاب؛ وليتم مباني ماأتم ابن عامر وأبو عرو له التعمير، ولفه الكسائي في كسائه ولم يقل جدي ابن كثير وحم به لحمزة أن يعود ذاهب الزمان، وعلم أنه لا عاصم من أمر الله يلجأ معه إليه وهو الطوفان، وطفق يتفجر عليماً وقد وقفت السيول الدوافع، وضر أكثر قراء الزمان لعدم تفهيمهم وهو نافع؛ وليقبل على ذوي الإقبال على الطلب، وليأخذهم بالتربية فما منهم إلا من هو إليه قد انتسب؛ وهو يعلم مامن الله عليه بحفظ كتابة العزيز من النعماء، ووصل سببه منه بحبل الله الممتد من الأرض إلى السماء؛ فليقدر حق هذه النعمة بحسن إقباله على التعليم، والإنصاف إذا سئل فعلم الله مايتناهى {وفوق كل ذي علم عليم}.
وصية محدث: وقد أصبح بالسنة النبوية مضطلعاً، وعلى ماجمعته طرق أهل الحديث مطلعاً؛ وصح في الصحيح أن حديثه الحسن، وأن المرسل منه في الطلب مقطوع عنه كل ذي لسن، وأن سنده هو المأخوذ عن العوالي، وسماعه هو المرقص منه طول الليالي، وأن مثله لا يوجد في نسبة المعرق، ولايعرف مثله للحافظين ابن عبد البر بالمغرب وخطيب بغداد بالمشرق؛ وهو يعلم مقدار طلب الطالب فإنه طالما شد له النطاق، وسعى له سعيه وتجشم المشاق، وارتحل له يشتد به حرصه والمطايا مرزمة، وينبهه له طلبه والجفون مقفلة والعيون مهومة، ووقف على الأبواب لا يضجره طول الوقوف حتى يؤذن له في ولوجها، وقعد القرفصاء في المجالس لا تضيق به على قصر فروجها.
فليعامل الطلبة إذا أتوه للفائدة معاملة من جرب، ولينشط الأقرباء منهم ويؤنس الغرباء فما هو إلا ممن طلب آونةً من قريب وآونةً تغرب، وليسفر لهم صباح قصده عن النجاح، ولينتق لهم من عقوده الصحاح، وليوضح لهم الحديث، وليرح خواطرهم بتقريبه ماكان يسار إليه السير الحثيث، وليؤتهم مما وسع الله عليه في المجال، ويعلمهم مايجب تعليمه من المتون والرجال، ويبصرهم بمواقع الجرح والتعديل، والتوجيه والتعليل، والصحيح والمعتل الذي تتناثر فيه عن دراسة أويقنع فيه بمجرد رواية، ومثله مايزاد حلماً، ولايعرف بمن رخص في حديثٍ موضوعٍ أو كتم علماً.
وصية نحوي:
وهو زيد الزمان، الذي يضرب به المثل، وعمرو الأوان، وقد كثر من سيبويه الملل، ومازني الوقت ولكنه الذي لم تستبح منه الإبل، وكسائي الدهر الذي لو تقدم لما اختار غيره الرشيد للمأمون، وذو السؤدد، لا أبو الأسود، مع أنه ذو السابقة والأجر الممنون؛ وهو ذو البر المأثور، والقدر المرفوع ولواؤه المنصوب وذيل فخاره المجرور، والمعروف بما لا ينكر لمثله من الحزم، والذاهب عمله الصالح بكل العوامل التي لم يبق منها لحسوده إلا الجزم؛ وهو ذو الأبنية التي لا يفصح عن مثلها الإعراب، ولايعرف أفصح منها فيما أخذ عن الأعراب، والذي أصبحت أهدابه فوق عمائم الغمائم تلاث، ولم يزل طول الدهر يشكر من أمسه ويومه وغده وإنما الكلمات ثلاث. فليتصد للإفادة، وليعلمهم مثل ماذكر منه أمسه ويومه وغده وإنما الكلمات الثلاث. فليتصد للإفادة، وليعلمهم مثل ماذكر فيه من علم النحو نحو هذا وزيادة، وليكن للطلبة نجماً به يهتدى، وليرفع بتعليمه قدر كل خبر يكون خبراً له وهو المبتدا، وليقدم منهم كل من صلح للتبريز، واستحق أن ينصب إماماً بالتمييز، وليورد من موارده أعذب النطاف، وليجر إليه كل مضاف إليه كل مضاف إليه ومضاف، وليوقفهم على حقائق الأسماء، ويعرفهم دقائق البحوث حتى اشتقاق الاسم هل هو من السمو أو من السيماء، وليبين لهم الأسماء الأعجمية المنقولة والعربية الخالصة، وليدلهم على أحسن الأفعال لا ما يشتبه فيه بصفات كان وأخواتها من الأفعال الناقصة، وليحفظهم المثل وكلمات الشعراء، ولينصب نفسه لحد أذهان بعضهم ببعض نصب الإغراء، وليعامل جماعة المستفيدين منه بالعطف، ومع هذا كله فليرفق بهم فما بلغ أحد علماً بقوة ولاغايةً بعسف.
وهذه وصية لغوي أوردها في التعريف.
الوظيفة الثامنة: التصدير:
وموضوعه الجلوس بصدر المجلس بجامع أو نحوه. ويجلس متكلم أمامه على كرسي كأنه يقرأ عليه، يفتتح بالتفسير ثم بالرقائق والوعظيات، فإذا انتهى كلامه وسكت، أخذ المتصدر في الكلام على ما هو في معنى تفسير الآية التي يقع الكلام عليها، ويستدرج من ذلك إلى ما سنح له من الكلام. وربما أفرد التصدير عن المتكلم على الكرسي.
وهذه نسخة توقيع بتصدير أنشأته للشيخ شهاب الدين أحمد الأنصاري الشهير بالشاب التائب بالجامع الأزهر، وهي: رسم.... لازالت صدقاته الشريفة تخثص المجالس بمن إذا جلس صدر مجلس كان لرتبته أجمل صدرٍ يجتبى من علماء التفسير، ومت إذا دقق لم يفهم شرحه إلا عنه، وإذا سلك سبيل الإيضاح كان كلامه في الحقيقة تفسير تفسير، وتصطفي من سراة الأماثل من دار نعته بين الشاب التائبو الشيخ الصالح فكان له أكرم نعتٍ على كل تقدير- أن يستمر المجلس السامي أدام الله تعالى رفعته- في كذا وكذا، لأنه الإمام الذي لا تسامى علومه ولا تسام، والعلامة الذي لا تدرك مداركه ولاترام، والحبر الذي تنعقد على فضله الخناصر، وفارس الحلبة الذي يعترف بالقصور عن مجاراة جياده المناظر، وآية التفسير التي لا تنسخ، وعقد حقيقته الذي لا يفسخ، والماهر الذي استحق بمهارته التصدير، والجامع لفنونه المتنوعة جمع سلامةٍ لا جمع تكسير، وترجمان معانيه الآتي من غرائب تأويله بالعجب العجاب، والعارف بهدي طريقه الذي إذا قال قال الذي عنده علم من الكتاب، وزاهد الوقت الذي زين بالعلم العمل، وناسك الدهر الذي قصر عن مبلغ مداه الأمل.
فليتلق ماألقي إليه بالقبول، وليستند إلى صدر مجلس يقول فيه ويطول، وليبين من معاني كتاب الله ماأجمل، ويوضح من خفي مقاصده ماأشكل، وليسلك في تفسيره أقوم سنن، ويعلن بأسراره الخفية فسر كتاب الله أجدر أن يكون على علن، وليجر فيه على ماألف من تحقيقاته فإنه لم يحقق المناظرة فمن؟ وليأخذ مشايخ أهل مجلسه الإحسان، ويحض شبابهم على التوبة ليجبهم الله فيتصل في المحبة سندهم فإن الشاب التائب حبيب الرحمن؛ والله تعالى يرقيه إلى أرفع الذرا، ويرفع مجلسه السامي على محل الثريا وإنا لنرجو فوق ذلك مظهراً، إن شاء الله تعالى.
الوظيفة التاسعة: النظر:
وموضوعه التحدث في أمور خاصة بإباحة ضروراتها، وعمل مصالحها، واستخراج متحصل جهانها، وصرفه على الوجه المعتبر، ومايجري مجرى ذلك.
وتشتمل على عدة أنظار:
منها: نظر الأحباس: جمع حبس وهو الوقف: فقد تقدم في المقالة الثانية أنه كان أثل وضعه أراضي اشتراها الإمام الليث بن سعد رضي الله عنه ووقفها على جهات بر، ثم تبعه الناس في لإضافة الأوقاف إلى ذلك، إلى أن كانت وزارة الصاحب بهاء الدين ابن حنا في سلطنة الظاهر بيبرس البندقداري، فأفرد للجوامع والمساجد والربط والزوايا ونحو ذلك رزقاً، وقصر تحدث ناظر الأحباس ومباشريه عليها، وأفردت الأوقاف بناظر ومباشرين كما سيأتي: وهذه نسخة توقيع بتدريس الطب بالبيمارستان المنصوري، كتب بها لمهذب الدين وهي: الحمد لله الذي دبر بحكمته الوجود، وعم برحمته كل موجود، وحال بنفع الدواء بين ضر الداء كما حالت عطاياه دون الوعود؛ نحمده ونشكره وهو المشكور المحمود، ونثني عليه خير الثناء قياماً وقعوداً وعلى الجنوب وفي السجود، ونستزيده من فضله فإنه أهل الفضل والجود.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة الله بها والملائكة وأول العلم شهود؛ ونشهد أن محمداً عبده ورسوله المبشر لأمته بالجنات والخلود؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة دائمةً إلى يوم الوعود.
وبعد، فإنا لما أقام الله بنا شعائر الإيمان، وأصبح دينه بحمد الله منصوراً بنا على سائر الأديان، وجاهدنا في الله حق الجهاد باليد والقلب واللسان، وشيدنا لعلومه وشرائعه كل بديع الإتقان، ورتبنا فيه من العلماء الأعيان كل رفيع الشان، واخترنا له الأخيار من أهل العلم بالطب والفقه والحديث والقرآن؛ ورأينا كل من تقدمنا من الملوك، وإن سلك في سياسة الرعية أحسن سلوك، وقد اهتم بعلم الأديان وأهمل علم الأبدان، وأنشأ كل منهم مدرسةً ولم يحفل ببيمارستان، وغفل عن قوله صلى الله عليه وسلم: «العلم علمان»، ولم يأخذ أحداً من رعيته بالاشتغال بعلم الطب المضطر إليه، ولاوقف وقفاً على طلبة هذا العلم المنصوص عليه، ولاأعد له مكاناً يحضر منه من يشتغل بهذا الفن فيه، ولانصب له شخصاً يتمثل هذا المشتغل لديه- علمنا نحن بحمد الله تعالى من ذلك ما جهلوه، وذكرنا من هذه القربة ماأهملوه، ووصلنا من هذه الأسباب الدينية والدنيوية مافصلوه، وأنشأنا بيمارستاناً يبهر العيون بهجة، ويفوق الأبنية بالدليل والحجة، وبحفظ الصحة والعافية على كل مهجة؛ لو حله من أشفى لعوجل بالشفا، أو جاءه من أكمده السقم لاشتفى، أو أشرف عليه العمر بلا شفاء لعاد عنه بشفا؛ ووقفنا عليه من الأوقاف المبرورة مايملأ العينين، ويطرف سماع جملته الأذنين، ويعيد عنه من أمه مملوء اليدين، وأبحنا التداوي فيه لكل شريف ومشروفٍ ومأمور وأمير، وساوينا في الانتفاع به بين كل صغير وكبير، وعلمنا أن لا نظير لنا في ملكنا ولانظير له في لإبقائه فلم نجعل لوقفه وشرطه من نظير، وجعلنا فيه مكاناً للاشتغال بعلم الطب الذي كاد أن يجهل، وشرعنا للناس إلى ورد بحره أعذب منهل، وسهلنا عليهم من أمره ما كان الحلم به من اليقظة أسهل، وارتدنا له من علماء الطب من يصلح لإلقاء الدروس، وينتفع به الرئيس من أهل الصناعة والمرؤوس، ويؤتمن على صحة الأبدان وحفظ النفوس؛ فلم نجد غير رئيس هذه الطائفة أهلاً لهذه المرتبة، ولم نرض بها من لم تكن له هذه المنقبة، وعلمنا أنه متى وليها أمسى بها معجباً وأضحت به معجبة.
ولما كان المجلس السامي مهذب الدين هو الرئيس المشار إليه، والوحيد الذي تعقد الخناصر عليه، وكان هو الحكيم بقراط بل الجليل سقراط بل الفاضل جالينوس بل الأفضل ديسقوريدوس- اقتضت الآراء الشريفة أن تزاد جلالته بتولية هذا المنصب الجليل جلالة، وأن تزف إليه تجر أذيالها، ويزف إليها يجرر أذياله، وأن يقال: لم يك يصلح إلا لها ولم تك تصلح إلا له فلذلك سم بالأمر الشريف- لازال للدين ناصراً، ولأعلام العلوم ناشراً- أن يفوض إليه تدريس الطب بالبيمارستان المبارك المنصوري، المستجد الإنشاء بالقاهرة المحروسة، علماً بأنه المتمهر في هذا الفن، وأنه عند الفراسة فيه والظن، وأنه سقراط الإقليم إذا كان غيره سقراط الدن، وثقةً بأنا للجوهر التقطنا، وبالخير قد اغتبطنا، وعلى الخبير قد سقطنا.
فليتلق هذه النعمة بالشكر الجليل، والحمد الجزيل، والثناء الذي هو بالنماء والزيادة كفيل، ولينتصب لهذا العلم المبارك انتصاب من يقوم بالفرض منه والسنة، ويعرف له فيه الفضل ويتقلد له فيه المنة، ويثنى على آثاره الجميلة فيه وتثنى إليه الأعنة، وليبطل بتقويمه الصحة ماألفه ابن بطلان، وليرنا، بتدبيره جبلة البر فإنه جالينوس الزمان، وليبذل النجاه من الأمراض والشفاء من الأسقام فإنه ابن سينا الأوان، وليجمع عنده شمل الطلبة، وليعط كل طالبٍ منهم ماطلبه، وليبلغ كل ممتن من الاشتغال أربه، وليشرح لهم صدره، وليبذل لهم من عمره شطره، وليكشف لهم من هذا العلم المكنون سره، وليرهم ما خفي عنهم منه جهرة، وليجعل منهم جماعة طبائعية، وطائفة كحالين وجرائحية، وقوماً مجبرين، وبالحديد عاملين، وأخرى بأسماء الحشائش وقوى الأدوية وأصافها عالمين، وليأمر كلاً منهم بحفظ مايجب حفظه، ومعرفة ما يزيد به حظه، وليأخذه بما يصلح به لسانه ولفظه، ولايفتر عنهم في الاشتغال لحظة، وليفرد كل علم من العلوم طائفة، ولكل فن من فنونه جماعةً بمحاسنه عارفة؛ وليصرف إليهم من وجوه فضائله كل عارفة، وليكشف لهم ماأشكل عليه من غوامضه فليس لهم من دون إيضاحه كاشفة، لينشر في هذا المكان المبارك من أرباب هذه العلوم قوم بعد قوم، ويظهر منهم في الغد- إن شاء الله- أضعاف ماهو ظاهر منهم اليوم؛ وليقال لكل من طلبته إذا شرع في إجازته وتزكيته: لقد أحسن شيخه الذي عليه تأدب، وإن من خرج هذا المهذب، عاملاً في ذلك بشروط الواقف أعز الله نصره، واقفاً عند أمره أمضى الله أمره؛ والخير يكون، إن شاء الله تعالى وهذه نسخة توقيع بنظر الأحباس مفتتحة بأما بعد وهي: أما بعد حمد لله الذي أذن أن ترفع بيوته ويذكر فيها اسمه، ويكثر فيها قسم ثوابه ويجزل قسمه، والصلاة على سيدنا محمد الذي عظم به قطع دابر الكفر زكثر حسمه- فإن خير من عول عليه تأسيس بيوت الله وعمارة ربوعها، ولم شعثها وشعب صدوعها، والقيام بوظائفها، وتسهيل لطائفها، وتأهيل نواحيها، لهبوط الملائكة لتلقي المصلين فيها، من كان ذا عزم لا تأخذه في الله لومة لائن، وحزم لا يلم بأفعاله لمم المآئم، ونظرٍ ثاقب، ورغبةٍ في اختيار جميل المآثر والمناقب، ومبائرةٍ ترعى قوانين الأمور وتكتنفها اكتناف مراقب.
ولما كان فلان ممن هذه الأوصاف شعاره، وإلى هذه الأمور بداره، وكم كتب الله به للدولة أجر راكع وساجد، وكم شكرته وذكرته ألسنة أعلام الجوامع وأفواه محاريب المساجد- اقتضى منيف الملاحظة والمحافظة على كل قريب من بيوت الله وشاهد، أن خرج الأمر الشريف- لابرح بكشف الأوجال، ويدعو له في الغدو والآصال رجال- أن يفوض لفلان نظر ديوان الأحباس والجوامع والمساجد المعمورة بذكر الله تعالى.
فليباشرها مباشرة من يراقب الله إن وقع أو توقع، وإن أطاع أو تطوع، وإن عزل أو ولي، وإن أدب من نهى عبداً إذا صلى، وليجتهد كل الاجتهاد في صرف ريع المساجد والجوامع في مصارفها الشرعية، وجهاتها المرعية، وليأخذ أهلها بالملازمة في أحيانها وأوقاتها، وعمارتها بمصابيحها وآلاتها، وحفظ مايحفظون به لأجلها، ومعاملتهم بالكرامة التي ينبغي أن يعامل مثلهم بمثلها، وليحرر في إخراج الحلالات إذا خرجت وأخرجت، وفي مستحقات الأجاشر إذا استحقت وإذا عجلت، وفي التواقيع إذا أنزلت وإذا نزلت، وفي الاستئمارات التي أهملت وكان ينبغي لو أهلت؛ وإذا باشر وظهر له بالمباشرة خفايا هذا الديوان، وفهم ماتحتويه جرائد الإحسان، فليكن إلى مصالحه أول مبادر، ويكفيه تدبر قوله تعالى: {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر} قلت: وقد كنت أنشأت توقيعاً بنظر الأحباس، للقاضي بدر الدين حسن الشهير بابن الداية، مفتتحاً بالحمد لله، جاء فرداً في بابه، إلا أن مسودته غيبت عني، فلم أجدها لأثبتها هاهنا كما أثبت غيرها مما أنشأته: من البيعات والعهود والتواقيع والرسائل وغير ذلك.
ومنها- نظر الأوقاف بمصر والقاهرة المحروستين، ويدخل فيه أوقاف الحرمين وغيرهما.
وهذه نسخة توقيع بنظرها، وهي: الحمد لله الذي حفظ معالم البر من الدثور، وأحيا آثار المعروف والأجور، وصان الأوقاف المحبسة من تبديل الشروط على توالي الأيام والشهور.
نحمده على فضله الموفور، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة لها في القلوب نور على نور، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله المؤيد المنصور، الطالع البدور، المبعوث بالفرقان والنور، والمنعوت في التوراة والإنجيل والزبور، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ماكرت الدهور، وطلعت كواكب ثم توغر.
وبعد، فإن أهل الخير من المؤمنين تقربوا إلى الله سبحانه وتعالى من طيبات أموالهم بأوقاف وقفوها على وجوه البر وعرفوها، وجعلوا لها شروطاً ووصفوها؛ فتقبل الله لهم ذلك، ثم ماتوا فما انقطع عملهم بها وهم في برزخ المهالك؛ ووليها بعدهم الأمناء من النظار، فقاموا بحقوقها وحفظ الآثار، وأجروا برها الدار في كل دار، وصانوا معالمها ن الأغيار، وشاركوا واقفيها في الصدقة لأنهم خزان أمناء أخيار.
ولما كان فلانهو الذي لا يتدنس عرضه بشائبة، ولاتمسي المصالح وهي عن فكره غائبة، ولاتبرح نجوم السعود طالعةً عليه غير غائبة، وهو أهل أن يناط به التحدث في جهات البر الموقوفة، وأموال الخير المصروفة، لأنه نزه نفسه عماليس له فلو كانت أموال غيره غنماً ما اختص منها بصوفة؛ فلذلك رسم...........
فليباشر هذه الوظيفة مباشرة حسنة التأثير، جميلة التثمير، مأمونة التغيير، مخصوصة بالتعبير، ولينظر في هذه الأوقاف على اختلافها من ربوع ومباني، ومساكن ومغاني، وخاناتٍ مسبلة، وحوانيت مكملة، ومسقفات معمورة، وساحاتٍ مأجورة غير مهجورة، وليبدأ بالعمارة فإنها تحفظ العين وتكفي البناء دثوره، وليتبع شروط الوقفين ولايعدل عنها فإن في ذلك سروره؛ ويندرج في هذه الأوقاف ماهو على المساجد ومواطن الذكر: فليقم شهارها، وليحفظ آثارها، وليرفع منارها؛ والوصايا كثيرة التقوى ظلها المخطوب، ومراقبة الله أصلها المطلوب ووصلها المحبوب، والله تعالى يجمع على محبته القلوب، بمنه وكرمه!.
ومنها- البيمارستان المنصوري بين القصرين لأرباب الأقلام، وهو من أجل الأنظار وأرفعها قدراً، مازال يتولاه الوزراء وكتاب السر ومنفي معناهم. وهذه سخة توقيع من إنشاء الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي، وهي: الحمد لله رافع قدر من كان في خدمتنا الشريفة كريم الخلال، ومعلي درجة من أضفى عليه الإخلاص في طاعتنا العلية مديد الظلال، ومجدد نعم من لم يخصه اعتناؤنا بغاية إلا ورقته همته فيها إلى أسنى رتب الكمال، ومفوض النظر في قرب سلفنا الطاهر إلى من لم يلاحظ من خواصنا أمراً إلا سرنا ما نشاهد فيه من الأحوال الحوال.
نحمده على نعمه التي لاتزال تسري إلى الأولياء عورافها، ومننه التي لاتبرح تشمل الأصفياء عواطفها، وآلائه التي تسدد آراءنا في تفويض قربنا إلى من إذا باشرها سر بسيرته السرية مستحقها وواقفها.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة رفع الإخلاص لواءها، وأفاض الإيمان على وجوه جملتها إشراقها وضياءها، ووالى الإيقان إعادة أدائها بمواقف الحق وإبداءها، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله المخصوص بعموم الشفاعة العظمى، المقصوص في السنة ذكر حوضه الذي من شرب منه شربةً فإنه بعدها لا يظمأ، المنصوص على نبوته في الصحف المنزلة وبشرت به الهواتف نثراً ونظماً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين فازوا من طاعته، بالرتب الفاخرة، وحازوا بالإخلاص في محبته، سعادة الدنيا والأخرة، وأقبلوا على حظهم من رضا الله ورضاه فلم يلوا على خدع الدنيا الساحرة، صلاةً دائمة الاتصال، آمنةً شمس دولتها من الغروب والزوال، وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد، فإن أولى الأمور بإنعام النظر في مصالحها، وأحقها بتوفير الفكر على اعتبار مناهجها واعتماد مناجحها- أمر جهات البر التي تقرب والدنا السلطان الشهيد- قدس الله روحه- بها إلى من أفاض نعمه عليه، وتنوع في إنشائها فأحسن فيها كما أحسن الله إليه، ورغب بها فيما عند الله لعلمه أن ذلك من أنفس الذخائر التي أعدها بين يديه، وحل منها في أكرم بقعة نقله الله بها عن سريره إلى مقعد صدق عند ربه، وعمر بها مواطن العبادة في ويم سلمه بعد أن عفى على معاقل الكفر في يوم حربه، وأقام بها منار العلوم فعلا منالها، وأعد للضعفاء بها من مواد البر والإلطاف مالو تعاطته الأغنياء قصرت عن التطأول إليه أموالها؛ وأن نرتاد لها من إذا فوضنا إليه أمراً تحققنا صلاحه، وتيقنا نجاحه، واعتقدنا تنمية أمواله، واعتمدنا في مضاعفة ارتفاعه وانتفاعه على أقواله وأفعاله، وعلمنا من ذلك مالانحتاج فيه إلى أخبار ولااختبار، ولايحتاج في بيان الخيرة فيه إلى دليل إلا إذا احتاج إليه النهار، لنكون في هذا بمثابة من ضاعف لهذه القرب أسباب ثوابها؛ أو جدد لها وقفاً لكونه أتى بيوت الإحسان في ارتياد الأكفاء لها من أبوابها.
ولذلك لما كان فلان هو الذي صان أموال خواصنا، وأبان عن يمن الآراء في استئثارنا به لمصالحنا الخاصة واختصاصنا، واعتددنا بجميل نظره في أسباب التدبير التي تملأ الخزائن، وتدل على أن من الأولياء من هو أوقع على المقاصد من سهامم الكنائن، وتحقق أنه كما في العناصر الأربعة معادن فكذلك في الرجال معادن، ونبهت أوصافه على أنه مأولي أمراً إلا وكان فوق ذلك قدراً، ولااعتمد عليه فيما تضيق عنه همم الأولياء إلا رحب به صدراً، ولاطلع في أفق رتبه هلالاً إلا وتأملته العيون في أجل درج الكمال بدراً؛ يدرك مانأى من مصالح مايليه بأدنى نظر، ويسبق في سداد مايباشره على مايجب سداد الآراء ومواقع الفكر؛ فنحن نزداد كل يوم غبطة بتدبيره، ونتحقق أن كل ماعدقنا به إليه من أمرٍ جليلٍ فقد أسندناه إلى عارفه وفوضناه إلى خبيره- اقتضت آراؤنا الشريفة أن نعدق بجميل نظره أمر هذا المهم المقدم لدينا، وأن نفوض إليه نظر هذه الأوقاف التي النظر في مصالحها من آكد الأمور المتعينة علينا.
فرسم بالأمر الشريف- لازال فضله عميماً، وبره يقدم في الرتب من كان من الأولياء كريماً- أن يفوض إليه كيت وكيت.
فليل هذه الرتبة التي أريد بها وجه الله وماكان لله فهو أهم، وقصد بها النفع المتعدي إلى العلماء والفقراء والضعفاء، ومراعاة ذلك من أخص المصالح وأعم، ولينظر في عموم مصالحها وخصوصها نظراً يسد خللها، ويزسح عللها، ويعمر أصولها، ويثمر محصولها، ويحفظ في أماكنها أموالها، ويقيم معالم العلوم في أرجائها، ويستنزل بها مواد الرحمة لساكنها بألسنة قرائها، ويستعيد صحة من بها من الضعفاء بإعداد الذخائر لملاطفة أسقامها ومعالجة أدوائها، ويحافظ على شروط الواقف- قدس الله روحه- في إقامة وظائفها، واعتبار مصارفها، وتقديم ماقدمه مع ملاءة تدبيره باستكمال ذلك على أكمل مايجب، وتمييز حواصلها لما يستدعي إليها من الأصناف التي يعز وجودها ويجتلب، وضبط تلك الحواصل التي لا خزائن لها أوثق من أيدي أمنائه وثقاته، ولامودع لها أوفق من أمانة من يتقي الله حق تقاته؛ وليفعل في لذك جميعه ماعرفناه من تدبيره الجميل خبراً وخبراً، وحمدناه في كل مايليه ورداً في المصالح وصدراً؛ فإنه- يحمد الله- الميمون نظراً وتصرفاً، المأمون نزاهة وتعففاً، الكريم سجيةً وطباعاً، الرحيب في تبقي المهمات الجليلة صدراً وباعاً؛ فلذلك وكلناه في الوصايا إلى حسن معرفته واطلاعه، ويمن نهوضه بمصالحنا وإطلاعه؛ والله تعالى يسدده في قوله وعمله، ويحقق بالوقوف مع مراضي الله تعالى ومراضينا غاية أمله، إن شاء الله تعالى.
ومنها- نظر الجامع الناصري بقلعة الجبل.
وهذه نسخة توقيع بنظره، كتب به للقاضي جلال الدين القزويني وهو يومئذ قاضي قضاة الشافعية بالديار المصرية، وهي: الحمد لله الذي زاد بنا الدين رفعةً وجلالا، وجعل لنا على منار الإسلام إقبالاً، وأحسن لنظرنا الشريف في كل اختيار مآلا، ووفق مرامي مرامنا لمن أخلصنا عليه اتكالا.
نحمده حمداً يتواتر ويتوالى، ويقرب من المنى منالا، وتنير به معاهد نعمه عندنا وتتلالا، ونديمه إدامةً لا نبغي عنها حولاً ولا انتقالا.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نصدقها نية ومقالا، ونرجو بالتغالي فيها القبول منه تعالى، ويتراسل عليها القلب واللسان فلا يعتري ذاك سهو ولايخاف هذا كلالا، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي كرم صحابه وآلا، ودلهم على الرشد فورثوه علماء الأمة رجالا، صلى الله عليه وعليهم صلاةً نسترعي عليها من الحفظة أكفاءً أكفالا، ونستمد لرقمها المذهبات بكراً وآصال، وتسمو إليه الأنفاس سمو حباب الماء حالاً فحالا، مامدت الليالي على أيامها ظلالا، ومابلغ سواد شبابها من بياض صبح اكتهالا، وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد، فإن من بنى حق عليه أن يشيد، ومن أراد أن سنته الحسنى تبقى فليتخذ معيناً على مايريد، ومن أنشأ برا فلابد مباشرٍعنه يضمن له التجدي، ويظن به مع تأثيره التخليد، ومن تاجر لله لمعروف فما يسخو بالمشاركة فيه لمن يقوم مقام نفسه أو يزيد، ومن بدأ جميلاً فشرط صلاحه أن يسنده إلى من له بالمراقبة تقييد، فيما يبديء ويعيد، وأي إشادة أقوى، من التأسيس على التقوى، أو معين أجل من حاكم استخلصناه لنا ولإخواننا المسلمين، أو مباشر أنفع، من سيد ارتدى بالمجد وتلفع، وتروى بالعلوم وتضلع، أو مشاركٍ في الخير أولى من ولي قلدناه ديننا قبل الدنيا، وأعليناه بالمنصبين: الحكم والخطابة فتصرف منهما بين الكلمة العالية والدرجة العليا، أو أحسن مراقبةً من حبر يعبد الله كأنه يراه، وإمام يدعو إليه دعاء أوابٍ أواه، ثد انفرد بمجموع المحاسن يقيناً، وأصبح قدره الجلي الجليل يعينا وعن المدائح يغنينا، فحسبنا الوصف إيضاحاً وتبيينا، ولكن نصرح باسمه تنويهاً وتعيينا، وتحسيناً لسيرة أيامنا الشريفة بعالم زمانها وتزيننا؛ لا عذر لفكر لم ينضد مناقبه وقد تمثلت معاليه جواهر، وقلمٍ لم يوش الطروس بمعانيه بعدما زان من فنونها أنواع الأزاهر، وهو المجلس العالي القضائي، الإمامي، العالمي، العاملي، العلامي، الكاملي، الفاضلي، القدوي، المفيدي، الخاشعي، الناسكي، الورعي، الحاكمي، الجلالي، حجة الإسلام والمسلمين، قدوة العلماء العاملين في العالمين، بركة الأمة، علامة الأئمة عز السنة، مؤيد الدولة، سيف الشريعة، شمس النظر، مفتي الغرر، خطيب الخطباء، إمام البلغاء، لسان المتكلمين، حكم الملوك والسلاطين، ولي أمير المؤمنين، أبو المعالي محمد ابن قاضي القضاة سعد الدين أبي القاسم عبد الرحمن بن عمربن أحمد ابن قاضي القضاة الشافعية: أدام الله عزة الشرع الشريف بأحكامه، وترفيه سيوف الجلاد وأسله بلسان جداله وأقلامه؛ قاض يفرق بين المهترجين برأي لا يطيش حلمه ولايزل حكمه، ويتقي الشبهات بورع يتبعه عمله ويهديه علمه؛ مالحظ جهةً إلا حظيت ببركة دارةً مزنها، ساريةٍ مناجحها سار يمنها، ولا أقبل على بيتٍ من بيوت الله إلا من حن إلى سبحات الجلال، ولاتكلم في وقفٍ إلا أجراه في صالح الأعمال على أقوم مثال؛ ونحن لهذه المزايا نرد إلى نظره الكريم ماأهمنا من عمارة مسجدٍ وجامع، ونقلده من أوقافنا مايخلفنا فيه خيراً فإن الأوقاف ودائع.
فلذلك رسم بالأمر الشريف العالي المولوي، السلطاني، الملكي، الناصري- لايزال يصيب الصواب، ولايعدو أولي الألباب- أن يفوض إليه نظر الجامع الناصري المعمور بذكر الله تعالى، بقلعة الجبل المحروسة، وأوقافه، والنظرعلى التربة والمدرسة الأشرفيين وأوقافهما.
ومنها- نظر مشهد الإمام الحسين رضي الله عنه بالقاهرة المحروسة.
وقد تقدم في الكلام على خطط القاهرة في المقالة الثانية أن الصالح طلائع بن رزيك حين قصد نقل رأس الإمام الحسين إلى القاهرة، بنى لذلك جامعه خارج بابي زويلة، فبلغ ذلك الخليفة فأفرد بها هذه القاعة من قاعات القصر وأمر بنقلها إليها.
وهذه نسخة توقيع بنظره، من إنشاء الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي، وهي: الحمد لله الذي جعل مواطن الشرف في أيامنا الزاهرة، محصورة في أكفائها، ومشاهد السيادة في دولتنا القاهرة، مقصورةً على من حبته أوامرنا باعتنائها، وخصته آلاؤنا باصطفائها، الذي أجرى حسن النظر في مظان الآباء الطاهرة على يد من طلع في أفق العلياء من أبنائها، وعمر معاهد القربات بتدبير من بدأ بقواعد دينه وأجاد إحكام تشييدها وإتقان بنائها.
نحمده على ماخصت به أيامنا من رفع أقدار ذوي السيادة والشرف، واتصف به إنعامنا من مزبد بر علم بحسن ظهوره على الأولياء أن الخير في الشرف.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً يعرف بها من اعترف، ويشرف قدر من له بالمحافظة عليها شغف، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي طهر الله بضعته الزهراءوبنيها، وخصهم بمزية القربى التي نزهه أن يسأل على الهداية أجراً إلا المودة فيها، صلى الله عليه وعلى آله الذين هم أجدر بالكرم، وأحق بمحاسن الشيم، ومامنهم إلا من تعرف البطحاء وطأته والبيت يعرفه والحل والحرم، وعلى آله وأصحابه الذين أنعم الله به عليهم، واتبعوه في ساعة العسرة فمنهم الذين أخرجوا من ديارهم والذين يحبون من هاجر إليهم، وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد، فإن أولى من زينت به مواطن الشرف، وعدقت به العناية بخدمة من درج من بيت النبوة وسلفت، وعمرت به مشاهد آثارهم التي هي في الحقيقة لهم غرف، ونالت الدولة من تدبيره الجميل بعض حظها، وخصت بقعته المباركة من نظره بما ينوب في خدمة محله الشريف عن مواقع لحظها، وجعلت به لابن رسول الله من خدمة أبيه معها نصيباً، وفعلت ذلك إذ خبرت خدمته أجنبياً علماً أنها تتضاعف له إذا كان نسبياً، وحكمت بماقام عندها مقام الثبوت، وأمرته أن يبدأ بخدمة أهل البيت فإن لازمها لديها مقدم على البيوت- من طلع شهاب فضله من الشرف السني في أكرم أفق، وأحاطت به أسباب السؤدد من سائر الوجوه إحاطة الطوق بالعنق، وزان الشرف بالسؤدد والعلم بالعمل، والرياسة باللطف فاختارته المناصب واختالت به الدول، وتقدم بنفسه ونفاسة أصله فكان شوط من تقدمه وراء خطوه وهو يمشي على مهل، واصطفته الدولة القاهرة لنفسها فتمسك من الموالاة بأوثق أسبابها، واعتمدت عليه في بث نعمها، وبعث كرمها، فعرف في ذلك الأمور من وجهها وأتى البيوت من أبوابنا العالية لحسن سيرته في إكرامهم السرى، واكتفت حتى مع ترك الكرامة إليهم ببشاشة وجهه التي هي خير من القرى، وصان البيوت عن الإقواء بتدبيره الذي هو من مواد الأرزاق، وزاد الحواصل بتثميره مع كثرة الكلف التي لو حاكتها الغمائم لأمسكت خشية الإنفاق.
ولما كان فلان هو الذي تليت مناقب بيته الطاهر، وجليت مفاخر أصله الزاهر، وتجملت بشرف خلاله خلال الشرف التي تركها الأول للآخر، وكان مشهد الإمام السيج الحسين ابن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهما السلام بالقاهرة المحروسة بقعةً هي منتجع الرحمة، ومظنه إجابة الأمة، وروضة من شرفت بانتقاله إليها، وتربة شهيد الزهراء صلوات الله على أبيها وعليها، وبه الآن من رواتب القربات ووظائف العلوم وجهات الخير مايحتاج إلى اختيار من يجمل النظر فيه، ويسلك نهج سلفه في الإعراض عن عرض الدنيا ويقتفيه- رأينا أن نختار لذلك لأنفسنا فكان الكفء الكريم، واختبرناه لمصالحنا فخبرنا منه الحفيظ العليم، وأن نقدم مهم ذلك البيت على مهم بيوتنا فإن حقوق آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق بالتعظيم.
فلذلك رسم بالأمر الشريف- لازالت مكارمه ذوي القربى جديرة، ومراسيمه على إقدار ذوي الرتب على مايجب قديرة، - أن يفوض إليه النظر على مشهد الإمام الحسين انب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهما السلام بالقاهرة المحروسة، على قاعدة من تقدمه في ذلك، بالمعلوم الشاهد به ديوان الوقف: لما قدمناه من أسباب رجحته لذلك، وبيناه من أمور أوضحت في اختيارنا له المسالك؛ ومن أولى منه بهذه الرتبة التي شهدت له باستحقاقها مناصبه ومناسبه، أو أقدر منه على أمثال هذه الوظيفة وقد أقرت بكماله وكرم خلاله مراتب الباب الشريف ورواتبه.
فليمعن النظر في مباشرة أوقاف هذه البقعة المباركة مظهراً ثمرة تفويضها إليه، مبيناً نتيجة تعرضها له وعرضها عليه، منبهاً على سر التوفيق فيما وضع أمرنا من مقاليد أمرها في يديه، مجتهداً في تمييز أموال الوقف من كل كاتب حديث، موضحاً من شفقة الولدعلى مانسب إلى الوالد ماشهدت به في حقها الأحاديث، سالكاً من خدمة ذلك المشهد مايشهد له به غداً عند جده، ناشراً من عنايته به لواء فضل رفعه في الحقيقة رفع لمجده؛ وليلحظ تلك المصالح بنظره الذي يزيد أموالها تثميراً، ورباعها تعميراً، وحواصلها تمييزاً وتوفيراً، وارج أيها السيد الشريف عند الله تعالى بذلك عن كل حسنة عشراً إن ذلك كان على الله يسيراً، وصن ما بيدك عن شوائب الأدناس: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً. وقد خبرنا من سيرتك وسريرتك ما لا نحتاج أن نزداد به خبرا، ولأن نبلوه بعدما سلف مرةً أخرى؛ ولكن نذكرك بتقوى الله التي أنت بهامتصف، وبوجودها فيك معروف وبوجوبها عليك تعترف؛ فقدمها بين يديك؛ واجعلها العمدة فيما اعتمدنا فيه عليك، إن شاء الله تعالى.
المرتبة الثالثة: ما يكتب في قطع العادة الصغير:
من الوظائف الدينية ما يكتب في قطع العادة الصغير، مفتتحاً برسم بالأمر الشريف وهو لمن كانت رتبته مجلس القاضي، وربما كتب فيه بالسامي بغير ياء لمن قصد تعظيمه وهو قليل، وبه يكتب لأرباب الوظائف الصغار من الخطباء، والمدرسين، ونظار الأوقاف، وغيرهم ممن لا ينحصر كثرةً.
وهذه نسخة توقيع بنظر البيمارستان العتيق الذي رتبه السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب في بعض قاعات قصر الفاطميين، وهي: رسم بالأمر الشريف- لازالت أيامه تفيد علاء، وتستخدم أكفاء، وتضفي ملابس النعماء على كل علي فتكسوه بهجة وبهاء- أن يستقر فلان في نظر البيمارستان الصلاحي بالقاهرة المحروسة، بالمعلوم الشاهد به الديوان المعمور إلى آخر وقت، لكفاءته التي اشتهر ذكرها، وأمانته التي صدق خبرها خبرها، ونزاهته التي أضحى بها علي النفس فغدا بكل ثناء ملياً، ورياسته التي أحلت قدرة أسمى رتبةٍ فلا غرو أن يكون علياً.
فليباشر نظر البيمارستان المذكور مباشرةً يظهر بها انتفاعه، وتتميز بها أوضاعه، ويضحى عامر الأرجاء والنواحي، ويقول لسان حاله عند حسن نظره وجميل تصرفه: الآن كما بدا صلاحي، وليجعل همته مصروفةً إلى ضبط مقبوضة ومصروفة، ويظهر نهضته المعروفة بتثمير ريعه حتى تتضاعف مواد معروفه، ويلاحظ أحوال من فيه ملاحظةً تذهب عنهم الباس، ويراع مصالح حاله في تنميته وتزكيته حتى لايزال منه شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس، وليتنأول المعلوم الشاهد به الديوان المعمور من استقبال تاريخه بعد الخط الشريف أعلاه.
واعلم أن من تواقيع أرباب الوظائف الدينية مايكتب في هيئة أوراق الطريق، أو على ظهر القصص، وقد تقدم: وهذه نسخة توقيع بالتحدث في وقف: رسم بالأمر الشريف العالي المولوي السلطاني الملكي الفلاني- أعلاه الله تعالى وشرفه، وأنفذه وصرفه- أن يستقر القاضي فلان الدين فلان في التحدث في الوقف الفلاني، بما لذلك من المعلوم الشاهد به كتاب الوقف. فليعمتد هذا المرسوم الشريف كل واقف عليه، ويعمل بحسبه وبمقتضاه، بعد الخط الشريف، إن شاء الله تعالى.
الضرب الثالث من الولايات بالحضرة السلطانية بالديار المصرية: الوظائف الديوانية:
وهي على طبقتين:
الطبقة الأولى: أرباب التقاليد في قطع الثلثين ممن يكتب له الجناب العالي:
وفيها وظيفتان:
الوظيفة الأولى: الوزارة:
إذا كان متوليها من أرباب الأقلام، كما هو الغالب وقد تقدم في الكلام على ترتيب وظائف الديار المصرية نقلاً عن مسالك الأبصار أن ربها ثاني السلطان لو أنصف وعرف حقه؛ إلاأنها لما حدثت عليها النيابة، تأخرت وقعد بها مكانها حتى صار المتحدث فيها كناظر المال، لا يتعدى الحديث فيه ولايتسع له في التصرف بجريان الأحوال في الولاية والعزل. وقد تقدم ذكر ألقابه مستوفاةً في الكلام على مقدمة الولايات في الطرف الأول من هذا الفصل والكلام على طرة تقليده في الكلام على التقاليد.
وهذه نسخة تقليد بالوزارة، كتب لها للصاحب بهاء الدين بن حنا، من إنشاء القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر، وهي:
الحمد لله الذي وهب لهذه الدولة القاهرة من لدنه ولياً، وجعل مكان سرها وشد أزرها عليا، ورضي لها من لم يزل عند ربه مرضيا.
نحمده على لطفه الذي أمسى بنا حفيا، ونشكره على أن جعل دولتنا جنةً أورث تدبيرها من عباده من كان تقياً، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نسبح بها بكرة وعشيا، ونصلي على سيدنا محمد الذي آتاه الله الكتاب وجعله نبيا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاةً نتبع بها صراطاً سويا.
وبعد، فإن أولى ماتنغمت ألسنة الأقلام بتلاوة سوره، وتنعمت أفواه المحابر بالاستداد لتسطير سيره، وتناجت الكرام الكاتبون بشكر مجمله ومفصله، وتناشدت الرواة بحسن لسنه وترنمت الحداة بطيب غزله، وتهادت الأقاليم تحف معجله ومؤجله، وعنت وجوه المهارق لصعود كلمه الطيب ورفع صالح عمله- ماكان فيه شكر لنعمةٍ تمنها على الدولة سعادة جدودها وحظوظها، وإفادة مصونها ومحفوظها، وإرادة مرموقها بحسن الاستيداع وملحوظها، وحمد لمنحةٍ أفاءتها بركات أحسنت للمملكة الشريفة مآلاً، وقربت لها منالاً، وأصلحت لها أحوالاً، وكاثرت مدد البحر فكلما أجرى ذاك ماءً أجرت هي مالاً؛ وإن ضنت السحب أنشأت هي سحبا، وإن قيل- بشح سيحنا-: رونق الأرض ذهب، عوضت عنه ذهبا؛ كم لها في الوجود من كرم وكرامة، وفي الوجوه من وسوم ووسامة، كم أحيت مهجاً، وكم جعلت للدولة من أمرها مخرجاً، وكم وسعت أملاً، وكم تركت صدر الحزن سهلاً، وكم تركت صدر الخزائن ضيقاً حرجاً، كم استخدمت جيش تهجد في بطن الليل، وجيش جهادٍ على ظهور الخيل، وكم أنفقت في واقفٍ في قلب بين صفوف الحروب، وفي واقفٍ في صفوف المساجد من أصحاب القلوب؛ كم سبيل يسرت، وسعود كثرت، وكم مخاوف أدبرت حين درت، وكم آثارٍ في البلاد والعباد آثرت وأثرت، وكم وافت ووفت، وكم كفت وكفت، وكم أعفت وعفت وعفت، وكم بها موازين للأولياء ثقلت وموازين للأعداء خفت، كم أجرت من وقوف، وكم عرفت بمعروف؛ كم بيوت عبادةٍ صاحب هذه البركات هو محرابها، وسماء جودٍ هو سحابها ومدينة علم هو بابها؛ تثني الليالي على تغليسه إلى المساجد في الحنادس، والأيام على تهجيره لعيادة الفقراء وحضور الجنائز وزيادة القبور الدوارس؛ يكتن تحت جناح عدله الظاعن والمقيم، وتشكر مباره يثرب وزمزم مكة والحطيم؛ كم عمت سنن تفقداته ونوافله، وكم مرت صدقاته بالوادي- فسح الله في مدته- فأثنت عليه رماله، وبالنادي فأثنت عليه أرامله؛ مازار الشام إلا أغناه ومن منة المطر، ولاصحب سلطانه في سفر إلا قال: نعم الصاحب في السفر والحضر.
ولما كان المنفرد بهذه البركات هو واحد الوجود، ومن لا يشاركه في الزوايا شريك وإن الليالي بإيجاد مثله غير ولود، وهو الذي لو لم نسمه قال سامع هذه المناقب: هذا الموصوف، عند اله وعند خلقه معروف، وهذا الممدوح، بأكثر من هذه الممادح والمحامد من ربه ممدوح وممنوح، وهذا المنعوت بذلك، قد نعتته بأكثر من هذه النعوت الملائكة؛ وإنما نذكر نعوته التذاذا، فلا يعتقد خاطب ولاكاتب أنه وفى جلالته بعض حقها فإنه أشرف من هذا؛ وإذا كان لابد للممادح أن تجول، وللقلم أن يقول، فتلك بركات المجلس العالي، الصاحبي، السيدي، الورعي، الزاهدي، العابدي، الواليد، الذخري، الكفيلي، الممهدي، المشيدي، العوني، القوامي، النظامي، الأفضلي، الأشرفي، العالمي، العادلي، البهائي، سيد الوزراء في العالمين، كهف العابدين، ملجأ الصالحين، شرف الأولياء المتقين، مدبر الدول، سداد الثغور، صلاح الممالك، قدوة الملوك والسلاطين، يمين أمير المؤمنين، علي محمد: أدام الله جلاله. من تشرف الأقاليم بحياطة قلمه المبارك، والتقاليد بتجديد تنفيذه الذي لا يساهم فيه ولايشارك؛ فما جدد منها إنما هو بمثابة آيات فتردد، أو بمنزلة سجلات في كل حين بها يحكم وفيها يشهد؛ حتى تتناقل ثبوته الأيام والليالي، ولايخلو جيد دولة من أنه يكون الحالي بما له من فاخر اللآلي.
فلذلك خرج الأمر العالي- لابرح يكسب بهاء الدين المحمدي أتم الأنوار، ولابرحت مراسمه تزهو من قلم منفذه بذي الفقر وذي الفقار- أن يضمن هذا التقليد الشريف بالوزارة التامة، العامة، الشاملة، الكاملة: من المآثر الشريفة الصاحبية، البهائية أحسن التضمين، وأن ينشر منها مايتلقى رايته كل رب سيف وقلم باليمين، وأن يعلم كافة الناس ومن تضمه طاعة هذه الدولة وملكها وسلكها من ملك وأمير، وكل مدينةٍ ذات منبر وسرير، وكل واحد جمعته الأقاليم من نواب سلطنة، وذي طاعةٍ مذعنة، وأصحاب عقد وحل، وظعنٍ وحل، وذي جنود وحشود، ورافعي أعلامٍ وبنود، وكل راعٍ ورعية، وكل من ينظر في الأمور الشرعية، وكل صاحب علم وتدريس، وتهليل وتقديس، وكل من يدخل في حكم هذه الدولة الغلبة في شموسها المضيئة، وبدورها المنيرة وشهبها الثاقبة في الممالك المصرية، والنوبية، والساحيلة، والكركية، والشوبكية، والشامية، والحلبية، ومايتداخل بين ذلك، من ثغور وحصون وممالك- أن القلم المبارك الصاحبي البهائي في جميع هذه الممالك مبسوط، وأمر تدبيرها به منوط، ورعاية شفقته لها تحوط؛ وله النظر في أحوالها، وأموالها، وإليه أمر قوانينها، ودواوينها، وكتابها، وحسابها، ومراتبها، ورواتبها، وتصريفها، ومصروفها، وإليه التولية والصرف، وإلى تقدمه البدل والنعت والتوكيد والعطف؛ فهو صاحب الرتبة التي لا يحلها سواه وسوى من هو مرتضيه، من السادة الوزراء بنيه، وماسمينا غيره وغيرهم بالصحوبية فليحذر من يخاطب غيره وغيرهم بها أو يسميه؛ فكما كان والدنا الشهيد رحمه الله يخاطبه بالوالد قد خاطبناه بذلك وخطبناه، وماعدلنا عن ذلك بل عدلنا لأنه ما ظلم من أشبه أباه؛ فمنزلته لا تسامى ولا تسام، ومكانته لا ترامى ولاترام؛ فمن قدح في سيادته من حساده زناد قدحٍ أحرق بشرر شره، ومن ركب إلى جلالته، ثبج سوء أغرق في بحره، ومن فتل لسعادته، حبل كيدٍ فإنما فتله مبرمه لنحره؛ فلتلزم الألسنة والأقلام والأقدام في خدمته أحسن الآداب، وليقل المترددون: حطة إذا دخلوا الباب؛ ولايغرنهم فرط تواضعه لدينه وتقواه، فمن تأدب معه تأدب معنا ومن تأدب معنا تأدب مع الله. وليتل هذا التقليد على رؤوس الأشهاد، وتنسخ نسخته حتى ننماقلها الأمصار والبلاد؛ فهو حجتنا على من سمناه خصوصاً ومن يدخل في ذلك بطريق العموم، فليعلموا فيه بالنص والقياس والاستنباط والمفهوم؛ والله يزيد المجلس الصاحبي الزيري البهائي سيد الوزراء من فضله، ويبقيه لغاب هذه الدولة يصونه لشبله كما صانه لأسده من قبله، ويمتع بنيته الصالحة التي يحسن بها- إن شاء الله- نماء الفرع كما حسن نماء أصله، بمنه وكرمه؟ وهذه نسخة تقليد بالوزراة، كتب به للصاحب تاج الدين محمد بن فخر الدين ابن الصاحب بهاء الدين علي بن حنا، في ربيع الأول سنة ثلاث وتسعين وستمائة، من إنشاء المولى شهاب الدين محمودٍ الحلبي، تغمده الله برحمته، وهي: الحمد لله مكمل الوزارة بطلعة تاجها، ومشرف قدرها بمن تشرق عليها أشعة سعده إشراق الكواكب على أبراجها، ورافع لواء مجدها بمن تلقته بعد الجفاء في حلل سرورها وحلي ابتهاجها، وتحلت بعد العطل من جواهر مفاخره بما تتزين عقود السعود بازدواجها، وترفل من انتسابها إلى أبهة بهائه بما يود ذهب الأصيل لو امتزج بسلوك انتساجها، لذي شيد قواعد هذه المرتبة السنية في أيامنا وجددها، وبعث لها على فترة من الأكفاء من حسم الأدواء فكان مسيحها وشرع المعدلة فكان محمدها، وردها بحكم الاستحقاق إلى من لا يختلف في أنه صاحبها، ورجعها إلى من خطبته لنفسها بعد أن أحجمم لشرف قدرها خاطبها.
نحمده على أن شد أزر ملكنا بأكرم وزير، وأيمن مشير، وأجل من ينتهي إلى بيت كريم، وحسبٍ صمصم، ومن إذا قال لسان ملكنا: ائتوني به استخلصه لنفسي قالت كفايته: {اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم}.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نقر بها سراً وعلنا، ونقر بها هذه العقيلة الجليلة عند من يكسوها مجده رفعةً وسنا، ويلبس جفن الدهر عنها وسنا، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله المخصوص بكل صاحب شهد الكتاب والسنة بفضله، وقام بعضهم بحسن مؤازرته مقام من شد الله به عضد من سأله وزيراً من أهله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاةً لا تغرب شمسها، ولايعزب أنسها، ولايتفاوت في المحافظة عليها غدها وأمسها، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد، فإن أولى من خطبت بحمده الأقلام، وافتتحت به الدولة التي ابتسمت بنسيمها ثغور الأيام، وودت مسكة الليل لو مازجت أنفاسه، وأمل بياض النهار لو أخذ من غير سمة عوض الورق قرطاسه، وتحاشدت النجوم لتنتسق في سلك معانيه وطارت بذكره في الآفاق أنباء السعود، وحكمت الجدود بأنه في اقتبال إقباله نهاية الآباء وغاية الجدود، وافترت به ثغور الممالك عن أحسن الدر النضيد، وسرت بذكره رفاق الآفاق ففي كل مادٍ منادٍ وفي كل بر بريد، واختالت به أعطاف الدولة القاهرة فأوت من الرأي السديد إلى كل ركنٍ شديد، ونطق به العدل والحق فخرس الظلم ومايبديء الباطل ومايعيد، وجرت به أقدار ذوي الرتب على أجما مناهجها فأما العدل فيقربون نجياً وأما أهل الظلم فأولئك ينادون من مكانٍ بعيد، وبدت به وجوه المصالح سافرةً بعد الحجاب، بارزةً بعد طول الانتقال إلى الانتقاب، داخلةً بوفود المحامد من كل باب، إلا الظلم فإنه بحمد الله قد سد ذلك الباب. وأقر منصب الوزارة الشريفة أنا أعدنا به الحق إلى نصابه، ورددناه إلى من هو أولى به بعد اغتصابه، وألبسناه من بهجة أيامنا تاجاً رد عليه عزاً لا تطمع يد الذهب في انتزاعه عنه ولااستلابه، وتقليده لمن يود الفرقد لو عقد به إكليله؛ ويتمنى الطرف لو أدرك غاية مجده وإن رجع وهو حسير البصر كليله، وتفويض ذلك إلى من كان له وهو في يد غيره، ومن به وببيته تمهدت قواعده فما كان فيه من خير فهو من سيرتهم وماكان من شر فمن قبل المقصر من عثارهم في سيره؛ وماأحدث فيه من ظلم فهو منه براء إذ إثم ذلك على من اجترأ عليه، وماأجري به من معروف فإلى طريقهم منسوب وإن تلبس منه بما لم يعط من نسب إليه؛ وماخلا منهم هذا الدست الكريم إلا وهم بالأولوية في صدره الجلوس، ولاتصدى غيرهم لتعاطيه إلا وأقبلت عليه في أيامه الجسوم وعلية النفوس.
ولذلك لما كانت هذه الدولة القاهرة مفتتحةً بالبركات أيامها، ماضية بكف الظلم ونشر العدل سيوفها وأقلامها، مستهلةً بالأرزاق سحب فضلها التي لا يقلع غمامها- اقتضت الآراء الشريفة اختيار خير صاحبٍ يعين على الحق بآرائه، ويجمل الدست ببهجته وروائه، ويجري الأرزاق بوجهٍ لو تأمله امرؤ ظامىء الجوانح لارتوى من مائه؛ وكان المجلس العالي، الصاحبي، الوزيري، الجوانح لارتوى من مائه؛ وكان المجلس العالي، الصاحبي، الوزيري، التاجي: أدام الله تعالى نعمته، ورحم سلفه، هو المخطوب لفضله والمطلوب لهذا الدست الذي تعين له دون الأكفاء وإن لم يكن غير أهله من أهله، ومازال يتشوف إليه تشوف البروج إلى نجوم السعود، ويتطلع إلى محياه الذي هو كنور الشمس في الدنو وكمحلها في الصعود، ومازالت الأدعية الصالحة ترتفع في أيامه لمالك عصره، والآراء تقام منها جنود لتأييده وحشود لنصره، والأموال تحمل منها إلى خزانته بأشبه بموج البحر في الحضر دون حصره.
فلذلك رسم بالأمر الشريف- ضاعف الله مواهبه العميمة، وكمل جلال دولته بتفويض أمورها إلى ذوي الأصول العريقة والبيوت القديمة- أن تحلى منه هذه الرتبة العليه بما حلى به الدين، وتعقد له راية فضلها المتين، ليتلقاها شرقاً وغرباً، وبعداً وقرباً؛ وبراً وبحراً؛ وشاماً ومصراً، ويحلى حلاه علم وعلو، وسيف وقلم، ومنبر وسرير، ومأمور وأمير.
فليتلق أمره بالطاعة كل مؤتمر بأمرنا الشريف، جارٍ في طاعتنا المفروضة بين بيان التقليد وعنان التصريف، وليبادر إلى تدبير أمور الأقاليم بأقلامه المباركة، ويمض القواعد على ماتراه آراؤه المنزهة عن المنازعة في الأمر والمشاركة، ولينشر كلمة العدل التي أمر الله بإضافة الإحسان إليها، ويمت بدع الظلم فإن الله يشكره على تلك الأمانة ويحمده عليها، ويسهل رزق الصدقات، ووظائف القربات، فإن ذلك من أجل ماقدمته الطائفة الصالحة بين يديها، وليكثر بذلك جنود الليل فإنها لا تطيش سهامها، ويتوق من محارتها بظلم فإنه لا يداوى بالرقى سمامها، وليعوذ بتمائم التيسير مواهبنا فإن تمام النعمة تمائمها، وليطلق قلمه في البسط والقبض وليعد بتدبيره على هذا المنصب الشريف بهجته، ويتدارك بآرائه ذماءه وبدوائه مهجته، ويصن عن شوائب الظلم حرمته، ويخلص ذمتنا من المآثم وذمته، وليعلم أن أمور المملكة الشريفة منوطة بآرائه وأحكامه، مضبوطة بأقواله وأقلامه؛ فليجعل فكره مرآة تجلو عليه صورها، ويقم آراءه صحفاً تتلو لديه سورها، ويأمر النواب بما يراه من مصالحنا ليلبوه ساميعن، ويسهر جفنه في مصالح البلاد والعباد لترقد الرعايا في مهاد الأمن وادعين؛ ويعضد الشريعة المطهرة بتنفيذ أحكامها، وإعلاء أعلامها، وإظهار أنوارها، وإقامة مارفعه الله من منارها؛ ولايعدل في أمور مباشرتها بالممالك الشريفة عن آرائه، ولايمضي فيها عزلاً ولأولايةً إلا بعد تتبعه الواجب في ذلك واستقرائه، وهو أعلم بما يجب لهذه الرتبة من قواعد إليه يرجع في أوضاعها، وعليه يعول في اصطلاحها لانفرادها فيه واجتماعها؛ فليفعل في ذلك ماهو عليه بحسن الثناء جدير، وليعتصم بالله في أموره فإنه نعم المولى ونعم النصير، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة تقليد بالوزراة، كتب به للصاحب ضياء الدين بالاستمرار على الوزارة، من إنشاء الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي: الحمد لله الذي شد أزر ملكنا الشريف، بمن أضاء في أفق الدين علمه، وشيد قواعد عدلنا المنيف، بمن أعلت منار الحق آياته في أحكام الممالك وحلمه، ووطد أركان دولتنا القاهرة بمن يفعل في نكاية أعداء الله فعل الحرب العوان سلمه، وأجرى الأرزاق في أيامنا الزاهرة على يد من كفت أقلامه كف الحوادث فلا عدوان تغشى ظلمه ولاعادٍ يخشى ظلمه، وصان ممالكنا المحروسة بآراء من إن صرف إلى نكاية أعداء الله حد يراعه لم ينب موقعه ولم يعف كلمه، وإن صرفه في حماية ثغر لم يشم برقه ولم يدق بالوهم ظلمه، وإن حمى جانب إقليم عز على الأيام ثل عروش ماحماه وشمه، وإن أرهفه لذب عن دين الله راعت عدو الدين منه يقظته وسله عليه حلمه.
نحمده على نعمه التي زانت أسنى مناصب الدنيا في أيامنا الزاهرة بضياء الدين، وأعلت أقدار الرتب العليا بتصرفها بآراء من أصبح علمه علماً للمتقين وعمله سنناً للمقتدين، وفجرت ينابيع الأرزاق في دولتنا القاهرة بيد من أغنى بيدنا المعتفين وقمع بمهابتنا المعتدين.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً أعاد يمنها على سمع المنابر من نعوتنا مافقد، وأطفأ إعلانها عن حملتها لهب العناد وقد وقد، وفوض اعتناؤنا بمصالح أهلها أمورهم إللى أكمل من انتقى لنا التأييد من ذخائر العلماء وأفضل من انتقد، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي أقامنا الله للذب عن أمته، وجلا بنور جهادنا لأعدائه عن قلب كل مؤمن ماأظله من غمه وران عليه من غمته، وعضدنا من أئمة ملته بمن أردنا مصالح العباد والبلاد في إلقاء كل أمر إليه بأزمته، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين منهم من فاز بسبقه، وحاز بتصديقه قدم صدقه، واختصه الله بمؤازرة نبيه دون من اجتباه من خلقه؛ ومنهم من كان الشيطان ينكب عن طرقه، ونطق من الصواب بما نزل الذكر الحكيم على وفقه، وسمي الفاروق لتمييزه بين الحق والباطل وفرقه، ومنهم من قابل المعتدين برفقة وقتل شهيداً على حقه، وكانت ملائكة الرحمن تستحيي من خلقه الكريم وكرم خلقه، ومنهم من طلع لا مع نور الإيمان من أفقه، وكان سيفه من كل ملحد في دين الله بمثابة قلادة عنقه، وطلق الدنيا تورعاً عنها وبيده مفاتيح مابسط الله للأمة من رزقه، صلاةً يقيم الإيمان، فرضها، ويملآ بها الإيقان، طول البسيطة وعرضها، وتزين كواكب ومواكب نصرها سماء الدنيا وأرضها، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد، فإن أولى من رقمت لأعطاف فضله حلل الكلام، ونظمت لأجياد ذكره فوائد المعاني المستخرجة من بحار الفكر على ألسنة الأقلام، ووشحت التقاليد من مناقبه بما هو أحسن من اتساق الدراري على هالات البدور، وجلي على المسامع مفاخره بما هو أبهى من النور في العيون، وأحلى من الأمن في القلوب، وأوقع من الشفاء في الصدور، وأطلع في أفق الطروس من أوصافه شمس أسفر بأنواع العلوم ضياؤها، وأنشئت في أثناء السطور من نعت مآثره سحب إذا أسفر بأنواع العلوم ضياؤها، وأنشئت في أثناء السطور من نعت مآثره سحب إذا قابلتها وجوه الحيا سترها بحمرة البرق حياؤها، وأودعت المهارق من ذكر خلاله لطفاً يود ذهب الأصيل لو ناب عن أنفاسها، ومنحت صدور المعاني من معاليه طرفاً تتمنى الرياض العواطر لو تلقت عن أنفاسها- من سمت الوزارة باستقرارها منه في معدن الفضائل، واتسمت منه بالصاحب الذي أعادت أيامه مافقد من محاسن الأوائل، وابتسمت من علومه بالعلامة الذي تتفرع من أحكامه أحكام الفروع وتتفجر من تواقيعه عيون المسائل، واتصفت من معدلته بالمنصف الذي هجر في أيامه هجير الحيف والظلم فالأوقات في أيامه المباركة كلها أسحار وأصائل، وابتهجت من إنصافه بالعادل الذل سهل على ذوي المطالب حجاب بابه فلا يحتاج أن يطرق بالشفاعات ولا أن يستفتح بالوسائل، وأشرقت من مفاخره بالكامل الذي حسنت به حلل الثناء فكأنها ابتسام ثغور النور في أثناء الخمائل؛ فالعدل في أيامه كالإحسان شامل، والمعروف بأقلامه كالسحب المتكفلة بري الأرض الهامل، والظلم والإنصاف مفترقان منه بين العدم والوجود فلا يرى بهذا آمراً ولايرد عن هذا آمل؛ قد أعطى دست الوزراة الشريفة حقه: فالأقدار بآياته مرفوعة، والمضار بمعدلته مدفوعة، وكلمة المظلوم بإنصاف إنصاته مسموعة، وأسباب الخيرات بحسن نيته لنيته الحسنة مجموعة، والأقاليم بكلاءة أقلامه محوطة، وأحوال المملكة بآرائه المشتملة على مصالحها منوطة، والثغور بحسن تفقده مفترة المباسم، مصونة بإزاحة الأعذار عن مر الرياح النواسم، آهلة النواحي بموالاة الحمول التي لاتزال عيسها بإدامة السرى دأمية المناسم، والبلاد بما نشرت أقلامه من العدل معمورة، والرعايا بما بسطت يد إحسانه من الإحسان مغمورة، وأرباب التصرف بما تقتضيه أقلامه عن الحيف منهية وبالرفق مأمورة، والأيدي بالأدعية الصالحة لأيامنا الزاهرة مرتفعة، والرعية لتقلبها في مهاد الأمن والدعة بالعيش منتفعة، وبيوت الأموال آهلة، على كثرة الإنفاق، والغلال متواصلة، مع التوفر على عمارة البلاد، والحمول متوالية مع أمن من صدرت عنهم على مافي أيديهم من الطوارف والتلاد، والأمور بالتيقظ لها على سعة الممالك مضبوطة، والنفوس بالأمن على ماهي عليه من التملي بالنعم مغبوطة، والمناصب مصونة بأكفائها، والمراتب آهلة بالأعيان الذين تنبهت لهم في أيامه عيون الحظ بعد إغفائها، ومجالس آهلة بالأعيان الذين تنبهت لهم في أيامه عيون الحظ بعد إغفائها، ومجالس المعدلة حالية، بأحكام سيرته المنصفة، ومواطن العلم عالية، بما يملي فيها من فوائده التي أتعب ألسنة الأقلام مافيها من صفة.
ولما كان الجناب العالي، الصاحبي، الوزيري، الضيائي، وزير الممالك الشريفة، هو الذي كرمت به مناسبها، وعظمت بالانتماء إليه مناصبها، وتحلت بعلمه معاطفها، ونزلت على حكم حلمه عوارف برها العميمة وعواطفها، وزهت بجواهر فضائله أجيادها، واستوت في ملابس حلل المسرة أيامها الزاهية وأعيادها، وأنارت بمعدلته ليليها، وأشرقت بالانتظام في سخاب إيالته للآليها؛ فكم من أقاليم صان قلمه أموالها، وممالك حلى عدله أحوالها، وبلاد أعان تدبيره السحب على ريها، وأعمال أبان عن استغنائها بتأثيره عن منة الحيا حسن مسموعها ومرئيها، وأرزاقٍ أدرها، ورزق أجراها على قواعد الإحسان وأقرها، وجهات بر أعان واقفيها عليها، وأسباب خيرٍ جعل أيامنا بإدامة فتحها السابقة إليها؛ وقدم سعاية أزالها وأزلها، وكلمة حادثةٍ أذالها وأذلها، ووجوه مضرة ردها بيد المعدلة وصدها، وأبواب ظلم لا طاقة للرعية بسلوكها أغلقها بيمنى يمنه وسدها؛ فدأبه أن يسدد إلى مقاتل العدا باتخاذ اليد عند الفقراء سهام الليل التي لا تصدها الدروع، وأن يجدد لأوليائنا من عوارف آلائنا أخلاف بر تروي الآمال وهي حافلة الضروع- اقتضت آراؤنا الشريفة أن نزين بمجده غرر التقاليد، ونجدد إليه في أمور وزارتنا الشريفة إلقاء المقاليد، وأن نوشي الطروس من أوصافه بما يجدد على أعطافها الحبر، ونردد على ألسنة الأقاليم من نعوته لا تمل المسامع إيارد الخبر منه بعد الخبر.
فلذلك رسم بالأمر الشريف العالي، المولوي، السلطاني، الملكي، الفلاني- لازال الدين في أيامه الشريفة مشرقاً ضياؤه، آهلةً باعتلائه مرابع الوجود وأحياؤه، ممدودةً على الأمة ظلاله الوارفة وأفياؤه- أن يجدد هذا التقليد باستقرار تجديداً لا يبلي الدهر حلله، ولاتقوض الأيام حلله، بل يشرق في أفق الممالك إشراق النجوم الثوابت، ويتفرع في مصالح الملك تفرع الأفنان الناشئة في الأصول النوابت، وتختال به مناصب الدولة القاهرة في أسنى ملابسها، وتضيء به مواطن العلوم إضاءة صباحه المصباح في يد قابسها، وتسترفع لنا به الأدعية الصالحة من كل لسان، وتجتلي به لأيامنا الزاهرة من كل أفق وجوه الشكر الحسان.
فلتجر أقلامه في صالح النوابت، وتختال به مناصب الدولة القاهرة في أسنى ملابسها، وتضيء به مواطن العلوم إضاءة صباحة المصباح في يد قابسها، وتسترفع لنا به الأدعية الصالحة من كل لسان، وتجتلى به لأيامنا الزاهرة من كل أفق وجوه الشكر الحسان.
فلتجر أقلامه في مصالح دولتنا على أفضل عادتها، ويرسلها في نشر العدل على سجيتها وفي إجراء الجود على جادتها، ويكف بها أكف الحوداث فإنما تزال أسباب الظلم بحسم مادتها، ولينطقها في مصالح الأموال بما تظل له مسامع الحمول مصغية، ويطلقها في عمارة البلاد بما تغدو له ألسنة الخصب حافظةً ولما عداه ملغية؛ وكذلك الخزائن التي هي معاقل الإسلام وحصونه، وحماه الذي لا يبتذل بغير أمرنا الشريف في مصالح الملك والملة مصونة؛ فليجعلها بتدبيره كالبحار التي لا تنقص بكثرة الوارد جماحها، ولا تنزحها السحب لكثرة ماتحمل إلى الآفاق غمامها، ولتكن كلمة العدل من أهم ما تفتتح به مجالسه، وآكد مايؤمر به محاضرة من الأولياء ومجالسه، وأزكى ما يستجيد به لاستثمار الدعاء الصالح مغارسه، وأوثق مايحوط به حمى الملك الذي إذا عفا جفن عينه كان حارسه، وأول ماينبغي أن ينافس عليه حاضر ديته وغائبه، وأولى مايعد على إهماله نكاله ويعد على إقامته رغائبه.
وليلاحظ من مصالح كل إقليم ماكأنه ينظر إليه بعين قلبه، ويمثل صورته في مرآة ليه، فيقر كل أمر على مايراه من سداده، ويقرر حال كمل ثغر على يحصل به المراد في سداده، فيغدو لأعذاره بموالاة الحمول إليه مزيجاً، ويمسي بسد خلله لخواطر أهل الكفر متعباً ولخواطرنا الشريفة مريحاً، وينظر في أحوال من به من الجند والرجال بما يؤكد الطاعة عليهم، ويجدد الاستطاعة لديهم، ويزيل أعذارهم واعتذارهمبوثوب حقوقهم إليهم، ويوفرهم على إعداد الأهبة للأعداء أذا أتوهم من فورهم، ويكفهم بإدار الأرزاق عليهم عن اعتدائهم على الرعايا وجورهم، ويتفقد من أحوال مباشريها وولاة الحكم والتحكم فيها مايعملون به أن مناقشهم على الأمور اليسيرة ن والهفوات التي يرونها قلقلة وهي بالنسبة إلى كثرة الرعايا كثيرة، ويتعاهد أمور الرتب الدينية فلا تؤخذ مناصبها بالمناسب، ولاتغدو أوقافها المعدة لاكتساب العلوم في المكاسب، بل يتعين أن يرتاد لها العلماء الأعيان حيث حلوا، ويقرر في رتبها الأئمة الأكفاء وإلا اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فضلوا وأضلوا. ولتكن أقلامه على كل ماجرت به العوائد في ذلك محتوية، وأيامه على أكمل القواعد في ذلك وغيره منطوية، فما ثم شيء من قواعد الوزارة الشريفة خارج عن حكمه فليكتب يمتثل، وليقل في مصالح دولتنا القاهرة يكن قوله أمضى من الظبا وأسرى من الصبا وأسير من المثل؛ فلا تمضى في ذلك ولاية ولاعزل، ولا منع ولابذل، ولاعقد ولاحل، إلا وهو معدوق بآرائه، متوقف على تنفيذه وإمضائه، متلقى مايقرر فيه من تلقائه، وفي الاكتفاء بسيرته مايغني عن إطرائه، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة تقليد بالوزارة: الحمد لله الذي شد لدولتنا القاهرة باصطفاء أشرف الوزراء أزراً، وخص أيامنا الزاهرة باجتباء من حماها عدله أن تضع أو تحمل وزراً، وأفاض إنعامنا على من طلع في أفق خدمتنا هلالاً واستقل بحسن السير والسيرة بدراً، وضاعف إحساننا لمن لا نرفعه إلى رتبة شرف إلا وكان أجل الأكفاء على ذلك قدرةً وقدراً، وجمل ملكنا بمن إذا افتخرت الدول ببعض مناقبه كفاها ذلك جلالاً وفخراً، وإذا ادخرت تدبيره وبذلت ماعداه فحسبها ماأبقته وقايةٍ للملك وذخراً، وبسط عدلنا في الأقاليم بيد من حين أمرنا القلم بتقليده ذلك سجد في الطرس شكراً؛ وافتتح بحمد الله يذكر النعمة به على آلائه إن في ذلك لذكرى، وأخذ في وصف دجرر مفاخره التي تمثلت له فنضدها دون أن يستدعي روية أو يعمل فكراً.
نحمده حمد من والى إلى أوليائه، مواد النعم، وأضفى على أصفيائه، ملابس الكرم، وحفظ لمن أخلص في طاعته معارف معروفه التي هي في أهل النهى ذمم، ونبه لمصالح رعاياه من عم عدله وإن لم يغف عن ملاحظة أمورهم ولم ينم.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نعلنها ونعليها، ونرخص أرواح جاحديها ونغليها، ونوالي النعم على المتمسك بها ونوليها، ونقرب بيمنها رتب الأولياء من إحساننا وندنيها، ونجدد لهم بتأييدها ملابس المنن نظهر عليهم آثار النعم السنية فيها، ونرفعهم بحسن عنايتنا إلى أشرف غايةٍ كانوا يسرون أهليتهم لها والله يبديها، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي أقامنا لنصر دينه فقمنا به كما أمر، وأبقى على أيامنا حكم أيامه فاستمر الحال على ما سبقت به دعوته من تأييد الدين بعمر، وخصنا ممن ينتمي إلى أصحابه بأجل صاحبٍ ينوب عن شمس عدلنا في محو ظلمة الظلم مناب القمر، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الزهر الغرر، وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد، فإن أولى من اختيرت جواهر الكلام لرصف مفاخره، وانتخبت غرر المعاني لوصف آثاره في مصالح الإسلام ومآثره، وقامت خطباء الأقلام على منابر الأنامل بشيرةً بيمن أيامه، وتطلعت مقل الكواكب مشيرةً إلى ماأقبل على الأقاليم من إقباله وسحت سحب أقلامه، وتبرجت زهر النجوم لينتظم في عقود مناقبه سعودها، وتأرجت أرجاء المهارق إذ تبلج من ليلٍ عن فجرٍ عمودها، وسارت به أنباء السعود والقلم الناطق بذكره وهو المحلق الميمون طائره، والطرس الموشع بشكره وهو المخلق الذي تملأ الدنيا بشائره- من استخلصته الدولة القاهرة لنفسها فتملاها عيناً وسر بها قلباً، واختصته بخواصها الشريفة فرحب بها صدراً ولياها لباً، وكلف بمؤازرتها بذاتها حتى قيل: هذه تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حباً، وأحلته من وزارتها الشريفة بالمكان الأسنى والحرم الحرير، وأثنت على فضله الأسمى بلسان والحرم الحرير، وأثنت على فضله الأسمى بلسان الكرم البسيط الوجيز، واعتمدت في أمور رعاياهاعلى مافيه من عدل وورع لا ينكر وجودهما من مثله وهو في الحقيقة عمر بن عبد العزيز، وأدنته عنايتنا منا لما فيه من فضل عميم، وحسب صميم، ونسبٍ حديث مجده قديم، وأصالة إذا افتخرت يوماً تميم وحسب صميم، ونسب حديث مجده قديم، وأصالة إذا افتخرت يوماً تميم بقومها قالت أين تميمك من جده صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغرسته لنفسها وطال ذلك الغرس وطاب الثمر، واعتضدت بتدبيره فكان له عند أطراف العوالي في مكانه الأعز أظرف سمر، ووثقت بما فيه من عدل ومعرفة لا ينكر من نحا الصواب اجتماعهما في عمر، واشتقت بمزيد قربنا فأمسى في خدمتنا جليلاً وأصبح خليلاً، ورعت له ماقد تم من تدبير أتى عليه بنفسه، وسدادٍ ظهرت مزية كل يومٍ منه على أمسى، وسعي جميل مابرح في مصالح الإسلام رائحاً وغادياً، واجتهادٍ في أمور أهل الجهاد مابرح يدأب فيه علماً بما أعد الله لمن جهز غازياً، ودان له من حسن ملاحظته الأمور ماليس للوصف به من قبل، وتأملت ما يكشف له على البعد من المصالح التي يأمر بالصواب فيها وكيف لا وعمر الذي شاهد السرية على البعد من سارية الجبل، وأيقنت ببسط العدل في الرعايا إذ هو مؤتمر والعادل آمر، وتحققت عمارة البلاد على يديه لأن عمر بحكم العدل عند الحقيقة عامر.
ولذلك لما كان المجلس العالي الفخري- ضاعف الله نعمته- هو الذي قربته طاعتنا نجياً، ورفعته ولايتنا مكاناً علياً، وحقق له اجتهاده في مصالح الإسلام الأمل من رضانا وكان عند ربه مرضياً، وأخلص في خدمة دولتنا الشريفة فاتخذته لخاص الأمور وعادتها صفياً، وأظهر مابطن من جميل اجتهاده فجعلته لمصالح الملك وزيراً وصاحباً وولياً، وأنجزت منه لتدبير أمور الممالك ماكان الزمن به ماطلاً، وأجرت على يده التي هي ملية بتصريف الأرزاق مالا يبرح غمامه هاطلاً، وقلدته رعاية الأمور وأمور الرعايا علماً أنه لا يترك لله حقاً ولايأخذ باطلاً، وقلدت جيده بأسنى حلى هذه الرتبة الجليلة، وإن لم يكن منها بحكم قربه منا عاطلاً، ورفعت له لواء عدل مازال له بالمنى في أيمنا الشريفة حاملاً، وكملت له ببلوغ الغاية من أفق العلو رفعة قدره ومازال المؤهل للكمال باعتبار مايؤول إليه كاملاً، ونوهت بذكره وماكان لظهور مخايل هذا المنصب الجليل عليه في وقتٍ خاملاً، ونظلرت الرعايا فما عدلت بهم عن بر رفيق، وصاحبٍ شفيق، ووزير عمري السيرة ماسلك طريقاً إلا وعدل شيطان الظلم عن ذلك الطريق؛ وكان هذا المنصب الجليل غايةً مدار الممالك عليها، وقبلةً توجه وجوه أهل الطاعة فيما يفاض عليهم من نعمنا إليها؛ وهو الذي يتدرع صاحبه من أنواع الطاعات لبوساً، ويعالج من أدواء المهام مابغير عزائمه لا يوسى، ويتردد في المخالصة والمناصحة من مالك أمره بمنزلة هارون من موسى- اقتضت آراؤنا الشريفة أن نفوض ذلك إلى من نهض في طاعتنا الشريفة بما يجب، وعلمنا تحرزه لدينه ولنافيما يأتي ويجتنب، ومن تزاد به مع فخره أيامنا الشريفة فخراً، ويصبح له مع ماله من الجلالة في نفسه رتب جلالة أخرى.
ولهذا رسم بالأمر الشريف العالي، المولوي، السلطاني، الملكي، الفلاني: - لازال يصرف الأقدار بيمين أيامه، وبشرف الأقدار ببره وإنعامه، ويدر على الأولياء وابل جوده الذي تخجل الديم من دوامه- أن تفوض إليه الوزارة الشريفة الكاملة على جميع الممالك الإسلامية: شرقاً وغرباً، وبعداً وقرباً، وبراً وبحراً، وشاماً ومصراً، على أجمل القواعد في ذلك وأكملها، وأسنى الفوائد وأفضلها، وأتم الأحوال التي يستغنى بمجملها عن مفصلها.
فليعط هذه الرتبة من جلالته حظاً كانت من إبطائه على وجل، ويجار الغمائم بوابل إنعامنا الذي يعلم به أن حمرة البرق في أثنائه خجل، ويطلق قلمه في مصالح الدولة القاهرة بسطاً وقبضاً، وإبراماً ونقضاً، وتدبيراً يعين النيل والغمام على تتبع المحل ماوجد كل منهما أرضاً، ويعمل آراءه المباركة تدبيراً للمناجح وتدريباً، وتقريراً للقواعد وتقريباً، ونظراً يجعل لكل عملٍ من ملاحظته نصيباً، وفكراً يحاسب به على حقوق الله وحقوق خلقه فإن الله هو المناقش على ذلك {وكفى بالله حسيباً}.
ويبدأ بالعدل الذي رسم الله به وبالإحسان في ملكنا الشريف، ويخفف- مع الجمع بين المثالح- عن خلق الله الوطأة فإن الإنسان ضعيف، وينجزلأولياء دولتنا مواد الأرزاق فإن سيف المنع الذي نحاشي أيامنا عن تجريده أقل نكايةً من التسويف، ويمنع الولاة من ظلم الرعايا باعتبار أحوالهم دون أقوالهم فإن منهم من يدعي العدل ويجور ويظهر الرفق ويحيف؛ وليتتبع أدواء المحل تتبع طبيبٍ خبير، ويصرف الأمور بجميل تدبيره فإن البركة معدوقة بحسن التدبير، ويستقبل ري البلاد- إن شاء الله تعالى- بسداد حزم يغتفر به هذا القليل لذلك الكثير، ويستخلف بالرفق والعدل أضعاف مافات في أمسه فإن ذلك على الله يسير، وليهتم ببيوت الأموال فيوالي إتيان الحمول إليها من أبوابها، ويضاعف بها الحواصل التي لا يطلع بغير حسن التدبير على أسبابها؛ فإنها معادن الذخائر وموارد الرجال، وإذا أعد منها جبالاً شوامخ تلا إنفاقنا في سبيل الله: {ويسألونك عن الجبال}.
وكذلك الخزائن التي هي معاقل الإسلام وحصونه، وحماه الذي لا يبتذل بغير أمرنا الشريف في مصالح الملك والملة مصونة، فيجعلها بتدبيره الجميل كالبحار التي لا تنقص بكثرة الوراد جمامها، ولاتنزحها السحب على كثرة ما تحمل إلى الآفاق غمامها، وليلاحظ من مصالح كل إقليم بما تمثله له على البعد أفكاره، ويأمر في أحوال من به من الجند بما يؤكد الطاعة عليهم، ويجدد الاستطاعة لديهم، ويزيح أعذارهم واعتذارهم بوصول حقوقهم إليهم، ويوفرهم على إعداد الأهبة للأعداء إذا أتوهم من فورهم، ويكفهم بإدرار الأرزاق عليهم عن اعتدائهم على الرعايا وجورهم، ويجعل ثغور كل جانب- بتيسير محصولها، وتثمير ذخائرها التي هي من موارد رجالها- مصفحة بالصفاح، مشرقةً بأسنى الرماح، مسدودةً من جهة العدو عنها مسالك الرياح، ويتفقد من أحوال مباشريه، وولاة الحكم والتحكم فيه، مايعلمون به أنه مناقشهم على الأمور اليسير، والهفوات التي يرونها قليلةً وهي بالنسبة إلى كثرة الرعايا كثيرة، والأحوال التي إذا عددها الكتاب عليهم قالوا: {يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً}، ويتعاهد أمور الرتب الدينية فلا تؤخذ مناصبها بالمناسب، ولاتعد رزقها المعدة لاكتساب العلم في المكاسب، بل يتعين أن يرتاد لذلك العلماء الأعلام حيث حلوا، ويقرر في مراتبها الأكفاء وإلا اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فضلوا وأضلوا؛ وقد جعلنا أمره في ذلك جميعه من أمرنا، فليقل يمتثل، وينشر كلمة عدلنا التي يسير بطريقتها المثلى المثل؛ ولاتمضى ولاية ولاعزل، ولامنع ولابذل، ولاعقد ولاحل، إلا وهو معدوق بآرائه، متلقى من تلقائه، متوقف على تنفيذه وإمضائه؛ وقد اختصرنا الوصايا، اكتفاء بما فيه من حسن الشيم، واقتصرنا على ذكر بعض المزايا، إذ مثله لا يدل على صواب ولايزاد مافيه من كرم؛ لكن تقوى الله أولى ماذكر به من لم يزل لربه ذاكراً، وأحق ماشكر على التوفيق من لم يبرح له به شاكراً؛ والله يزيد قدره اعتلاء، ويضاعف للدولة الشريفة احتفالاً بشكره واعتناءً.
وهذه نسخة تقليد بالوزارة:
الحمد لله الذي شد أزر الملك من الوزراء بالمكين الأمين، وأشرك في أمر ملكه من هو على صلاح الجمهور خير معين، وألقى مقاليد حسن تدبيره لمن دلت عليه بركة الاستخارة، وصوب أمر دقيقه وجليله لمن هو لجميل الثناء المعنى وإليه ببنان الاجتباء الإشارة، ونأول كتابها لمن هو أحق بتحمل أعبائه، ورقى منصبها لمن لا شبهة بأنه الحقيق باستعلائه، ونأول قلم إعطائها ومنعها لواضع الإشارة في محليها، وعدق تثمير أموالها بمن لا يأخذها بمقتضى يبديه إلا من حلها.
نحمده على حسن إلهامه، وشريف إفهامه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة عبدٍ مخلصٍ في أدائها، محق في إعادتها وإبدائها، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله خير من هو بالحق مبعوث وبالصدق منعوت، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاةً لاتزال مستمرةً في كل وقت موقوت، وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد، فإن يد الوزارة هي اليد الباسطة فيما قل وجل، والمتحكمة فيما عدق بالملك من كل عقد وحل، والموقوف عند إشارة بنانها وإليها التحكم في كل إعطاء ومنع، وتفريقٍ وجمع، وعزلٍ وولاية، ونهاية كل نهي وأمر ومالها من غاية، وربها من الملك كالروح الباصرة من العين، واللسان المعبر عن كل زين وشين؛ وحسبه أنه في المحل من ذات اليمين، ومن مكانة التمكن في الحرز الحصين؛ ولهذا لا يؤهل لها إلا من انعقد على سؤدده الإجماع، وانقطعت دون لحاق شرفه الأطماع، وتأصل في فخارها وتفرع، وقام بفروض كفاية كفالتها وتطوع، وسار حديث مناقبه في الآفاق، وجاء بالاختبار بالوفاق، وحسن صورةً وعنى، وتعددت مناقبه فدلت على أه الفرد إذا اتسقت عقوده مثنى مثنى، وكان المجلس العالي الفلاني رب حوزتها وسريرها، وروح بصر مرتمق هذه المحامد وإليه أمر مصيرها، والذي حكمت له السيادة بمنالها وحكمته، وأوضحت بأصالتها وجه الصواب في اختياره لها وأحكمته، وقد حاز من متفرق لوازمها ماتفرق فيمن سواه، وحوى من أدواتها مادل على أن الله خلقه فسواه؛ إن قال فالصواب موكل بمنطقه، أو صمت فعظم مهابته قائم مقامه بجميل الخلق لا تخلقه؛ قد جمع إلى التواضع فرط المهابة، وإلى الابتداء بالمعروف حسن الإجابة؛ إن ذكرت الصدارة فهو مالك زمامها، أو الرياسة فهو غرة لثامها، أو الكفالة فهو مصرف عنانها، أو الوزارة فهو عين أعيانها؛ لم تزل رتبتها متشوقةً لحلوله، ممهدة لشريف تأهيله.
ولما تحلى منها بهذه الحلى، وسار حديث ملاءته بتخويلها في الملا، وتلا لسان القلم سور هذه المحاسن وتلا الثاني بالأول منها إذا تلا، رسم بالأمر العالي- أمتعه الله بما وهبه من حسن مؤازرته، وشد عضد مملكته بالإمتاع بربح حسن معاملته لله وله ولمتاجرته- أن تفوض الوزارة المفخمة، المكرمة المبجلة المعظمة، للمشار إليه: تفويضاً عاماً للقريب من مصالحها والبعيد، والطارف والتليد، والمقيم والنازح، والغادي والرائح، والسانح والبارح، والباغم والصادح.
فليباشر مافوض إليه منها مباشرة مثله لمثلها، وليعطها من نيله مناسب نيلها، وليأخذ أمرها بكلتا يديه، وليعرها جانباً من احتفاله ليظهر عليها آثار سؤدده كما ظهر شريف تخويلها عليه، وليطلق فيها لسان نهيه وأمره، وليعمل في مصالحها صالح فكره؛ فقد عدقت به مهامها: جليلها وحقيرها، وقليلها وكثيرها، وأميرها ومأمورها، وخليلها وضريرها، وناعقها وناعبها، وكاسيها وكاسبها، ودانيها وقاصيها، وطائعها وعاصيها، ومستقبلها وحالها وماضيها، وواليها وقاضيها، ثقة بتمام تدبيره، وحميد تأثيره، وأنه إن حكم فصل، وإن قطع أو وصل كان الحزم فيما قطع ووصل؛ إذ هو الوزير الذي قد صرف عن عمل الأوزار وسار، إلا أنه في كل منهج سار، تقطر السيادة من معاطفه، وتجني ثمر المنى من أغصان قلمه يد قاطفه؛ لا شيء يخرج عن حكمه، ولامصلحة تعزب عن علمه؛ فولاية الحكام معدوقة بإشارته، موقوفة على مايثبته ببليغ عبارته. ومع جلالة قدره لا يحتاج إلى التأكيد في الأموال واستدرار أخلافها، والرعايا جانبها إذ هي الأم الحنونة بتجنب عقوقها، والخزائن فهو أدرى بما يجب من تضييق صدرها بالمناقيص عن الانشراح، والاهتمام بحواصل تشريفها المستجلبة إفاضة ملابسها قلب من غدا وراح؛ وثم دقائق، هو أدرى بمالها من طرائق، وحقائق، هو أعرف إذ كان فيها الفاتق الراتق؛ فهو- أجله الله- غني عن تفصيلها، وذهنه أشرف عن الوصايا المندوبة لتوصيلها؛ والله تعالى يقدر له وبه الخير، ويتمتع بحسن تدبيره المقرون بجميل السريرة والسير؛ والخط الشرف أعلاه، حجة بمقتضاه، إن شاء الله تعالى.
وهذه وصية وزير أوردها في التعريف وهي: يوصى بتقوى الله فإنه عليه رقيب، وإليه أقرب من كل قريب؛ فليجعله أمامه، وليطلب منه لكل ماشرع فيه تمامه، وليجل رأيه في كل ماتشد به الدولة أزرها، وتسند إليه ظهرها، وليجعل العدل أصلاً يبني على أسه، والعمل في أموره كلها لسلطانه لا لنفسه، وليدع منه الغرض جانباً، وحظ النفس الذي لا يبدو إلا من العدو ليصدق من دعاه صاحباً، وليبصر كيف يثمر الأموال من جهاتها، وكيف يخلص بيوت الأموال بالاقتصار على الدراهم الحلال من شبهاتها، وليتنزه مطاعم العساكر المنصورة عن أكل الحرام فإنه لا يسمن ولا يغني من جوع، ولايرى به من العين إلا مايحرم الهجوع، وليحذر من هذا فإن المفاجىء به كالمخاتل، وليتجنب إطعام الجند منه فإن آكل الدراهم الحرام مايقاتل، وليحسن كيف يولي ويعزل، ويسمن ويهزل؛ وعليه بالكفاة الأمناء تجنب الخونة وإن كانوا ذوي غناء؛ وإياه والعاجز، ومن لو رأى المصلحة بين عينيه ألفى بينه وبينها ألف حاجز؛ وليطهر بابه، ويسهل حجابه، ويفكر فيما بعد أكثر مما قرب: مقدماً للأهم فالأهم من المصالح، وينظر إلى ماغاب عنه وحضر نظر المماسي والمصابح، ولايستبدل إلا بمن ظزهر لديه عجزه أو ثبتت عنده خيانته، ولايدع من جميل نظره من صحت لديه كفايته، أو تحققت عنده أمانته، وليسلك أقصد الطرق في أمر الرواتب التي هي من صدقاتنا الشريفة وصدقات من تقدم من الملوك، وهي إما لمن وجب له حق وإن كان غنياً أو عرف صلاحه وهو صعلوك؛ وكذلك ماهو لأيتام الجند الذين ماتوا على الطاعة، وأمثالهم ممن خدم دولتنا القاهرة بما استطاعه؛ فإن غالب من مات منهم لم يخلف لهم إلا مانسمح لهم له من معروف، ونجريه لمه من جارٍ هو أنفع من كثير مما يخلفه الآباء للأبناء من المال المتملك والوقف الموقوف؛ وليصرف اهتمامه إلى استخلاص مال الله الذي نحن أمناؤه، وبه يشغل أوقاته وتمتليء كالإناء آناؤه؛ فلا يدع شيئاً يجب لبيت المال المعمور من مستحقه، ولايسمح في تخلية شيءٍ منه كما أننا نوصيه أنه لا يأخذ شيئاً إلا بحقه؛ وليبق لأيامنا الزاهرة بتواقيعه ذكراً لا يفنى، وبراً لا يزال ثمره الطيب من قلمه يجنى، ليكون من رياح دولتنا التي تغتنم مايثيره من سحابها الممطر، وحسنات أيامنا التي ماذكرنا وذكر معنا إلا وقيل: نعم الملك ونعم الوزير.
الوظيفة الثانية: كتابة السر:
ويقال لصاحبها صاحب دواوين الإنشاء وقد تقدم في الكلام على ترتيب الوظائف أن موضوعها قراءة الكتب الواردة على السلطان، وكتابة أجوبتها، وأخذ خط السلطان عليها وتسفيرها، وتصريف المراسيم وروداً وصدوراً، والجلوس لقراءة القصص بدار العدل، وأنه صار يوق فيما كان يوقع فيه بقلم الوزراة.
قلت: وقد كان فيما تقدم يكتب له توقيع في قطع النصف بلقب المجلس العالي ثم استقر أن يكتب له تقليد في قطع الثلثين بلقب الجناب العالي. وقد تقدم الكلام على تقليده في الكلام على التقاليد.
وهذه نسخة تقليدٍ بكتابة السر، كتب بها للمقرالحيوي محيي الدين بن فضل الله عن عوده إلى كتابة السر بالديار المصرية، في جمادى الأولى سنة ثلاث... من إنشاء الشريف شهاب الدين، أحد كتاب الدرج الشريف، وهي: الحمد لله المان بفضله، المستعان به في الأمر كله، الذي رفع أول الأولياء منن العلياء إلى محله، ووضع النعم عند من ينص الاستحقاق على تقديمه بمنصبه ويجل مافوض إليه من أجله، وأبدع نظام السؤدد بأجمل حالٍ مادام يحيى جامع شمله، وأودع سر ملكنا الشريف عند الحفيظين منه ومن نجله، وأرجع الرياسة إلى من سما ثباتاً، ونما نباتاً، وعلا عزماً، ووفى حزماً؛ فبيمن آثاره تضرب الأمثال ولاتجد في يمن سجاياه كمثله.
نحمده على أن أعاد بنا الحق إلى أهله، ونشكره على أن جاد روض الآمال بواكف سحاب كرمنا ووبله، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من وفق للصواب في قوله وفعله، وتحقق منه جميل الإخلاص في جميع مذاهبه وسبله، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله المؤوي يوم الجزاء إلى سابغ ظله، والمروي يوم العطش الأكبر بسائغ نهله، والنبي الذي بعثه خاتم ارسله، وآتاه من الكرامة مالم يؤت أحداً من الأنبياء من قبله، والمجتبي من علماء صحابته من أهله لإيداع سره وصونه وإبلاغ أمره وحمله، صلى الله عليه وعلى آله الذين سبقوا إلى غايات الفخار وخصوا بخصله، ورضي الله عن أصحابه المجاهدين في حبه المعتصمين بحبله، خصوصاً الصديق الذي أحسن الخلافة من بعده وقاتل من ارتد بقتله، ومن فرق بين الحق والباطل بحسن سيرته ومحض عدله؛ ومن تلقى عنه آيات الكتاب فأحسن في تربيته وجمعه وأدائه ونقله، ومن كان فارس حربه، وحارس سربه، وكاتب وحيه وخاطب كفله، وعن بقية المهاجرين والأنصار الذين انفردوا بأكمل الفضل وأجله، صلاةً ورضواناً وضح بهاما نور الهدى لمستدله، ماشفى كرمنا الصدور بصدور إقباله إلى من قام بفرض ولائه ونفله، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد، فنعمنا لاتزال للعهود حافظة، وبالجود متحفة وبالسعود ملاحظة، وعلى المعهود من كرم شيمها محافظة، وللخدم مكافية، وللقسم موفية وبالنعم موافية، وبمألوف الكرم ملافية، اتباعاً لسبيل الصواب، وإيداعاً للمنحة عند من لحقه في استحقاقها إيجاب، فلملحله اقتران بالاقتراب، ولفعله إنجاز لوعود الصعود وإنجاب، ولفيض الله تعالى عليه من القبول أبهاى جلباب، وله سبق ولاء لملكنا بعد جفاء فيه السنين والأحقاب، وصدق ود ماضاع لدينا ولاخاب، وقدم هجرة كم لها في تأييد الدين انتصار وانتصاب، وتعدد مناقب هي في الإشراق والرفعة كالنجوم وفي الكثرة عدد الرمل والحصى والتراب، فما دعاه سلطاننا إلا استجاب، ولااستوعاه سره إلا غدا به يصان ولايصاب، ولا استنطقنا قلمه إلا كفى الخطب بأملح خطاب، ولاستثرنا رأيه إلا حضر الرشد وماغاب؛ فكم فرق للأعداء من كتيبة بكتاب، وقرب من ظفرٍ واللسيف في القراب؛ فبدعواته يستنزل من النعماء أهمر سحاب، وببركاته جاء نصر الله والفتح وكان كيد الكافرين في تباب، وبأقلامه إنعامنا يهب وانتقامنا يهاب؛ فهي على الممالك أمنع سياج، ولها في مسالك الخير أبدع منهاج، وللدولة به وبولده استغناء وإليهما احتياج، فكم ضمنا درر كلامهما الأدراج، وأطلعا زهر أقلامهما من المهارق في أبراج، وكم واصلت في ليل النقس السرى والإدلاج، حتى أبدت صباح النجاح عند باعهما الرحب فسحة وانفراج.
ولما كان المجلس العالي المحيوي هو أسرى من تلقى إليه الأسرار، وتبقى منه عند أحرى الأحرار، فكم لها صان أين صار، وكم لخواطرنا الشريفة من أفعاله سار حيث سار، وكم له من كرمنا دار في كل دار، فمنا لقربه إيثار، ولأثنيتنا عليه إكبار، ولنا بفضائله إقرار، يوجب للنعم عنده الإقرار- اقتضى حسن الرأي الشريف أن نعيد إليه منصبه، ونزيد لديه الموهبة، ونجعل تفضيله لدولتنا أعظم مزية ٍ ومنقبة، ونراه أجل كفء لاستجلاء عقائل الأسرار المحجبة، وإن كان لنزاهته لا يخطبها فهي لوجاهته ترغب أن تخطبه.
فلذلك رسم بالأمر الشريف العالي، المولوي، السلطاني، الملكي، الفلاني- لابرح بفضل الله يحيي الدين، وبتأييده يبين أنه الحق المبين، وبتسديده يصيب عين الصواب في التعيين- أن نفوض للمشار إليه صحابة ديوان الإنشاء الشريف بالأبواب الشريفة شرفها الله وعظمها: على أجمل عوائده، وأكمل قواعده، وأحسن حالاته في حسن مقاصده، ونفوذ مايبلغه من رسائل عدلنا في مصادر كل أمر وموارده؛ وليستقر باسمه من المعلوم كذا وكذا.
فليتلق منصبه المبارك بأمل في كرمنا مبسوط، ورتبته التي يحمي حماها ويحوط، ممضياً للمهمات والمراسم، مبقياً من يمن آثاره ماتضحى به ثغور الثغور واسم، معيداً لمن عنده من كتابنا أوقات الأنس فأيامهم به كلها مواسم، وبها لهم من الخيرات أجزل المقاسم؛ وقد وفروا دواعيهم إلى الخدمة إذ وفر على نفقتهم دواعيه، وهو لسان الدولة وهم أذن صونٍ لما يلقيه إليهم واعية، فحق لهم إلى وداده أن يجنحوا، وبإسعاده أن ينجحوا، وعن ولائه لن يبرحوا: {قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا}، فلسرير الملك به سرور، وللدولة منه أشعة أيامه وطلعة شهابه نور على نور، وبهما عماد الشرف الأعلى مرفوع وبيت الفضل الأوفى معمور، وهو وبل هذا الغيث الغمر وشبل هذا الليث الهصور؛ طالما هزم الصفوف من كتبنا بالسطور، وجهز برداً سرها بالصون مكتوم وعلمها بالنصر منشور، وهو كنز الفضائل وكتباه الذهب شذور، ومن هذه الأسرة العمرية بأفق العلياء نجوم وأهلة وبدور، وللنير الأكبر إشراق وأتلاق وسفور، وغيره بالوصايا المأمور، وسواه نبين له قصد السبيل حتى لا يضل ولايجور، ولا نحتاج أن نذكره بما هو من علمه مذكور، وفي صحائفه مسطور، ولانعلمه سداداً إذ هو عليه مجبول ومفطور، بل الهدى منه ملتمس ومقتفى ومقتبس، ومأثور؛ وبحمد الله مافي حزمة قصور، ولافي عزمه فتور، وهو بحر العلم المحيط وثبير الحلم الموفور، وليس التقديم له بمستغرب بل فضله المعروف المشهور؛ والله تعالى يرعة له في خدمتنا عهداً قديماً، ويبقيه للدعاء مواصلاً ومديماً، ويوزعه شكر فضل الله على ذلك {وكان فضل الله عليك عظيماً} إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة تقليد بكتابة السر، كتب بها للقاضي شهاب الدين بن فضل الله؛ وهي: الحمد لله على عناية حفظت ملكنا الشريف بمعقباتها، وصانته بصاحب تصريف تقوم كتبه وآراؤه مقام الكتائب وراياتها، وسنت لنا الخيرة لمن نجتني بقلمه النصر من ثمراتها، وبينت الحسنى في طريقة المثلى حتى انقسم الصبح من قسماتها، اقتسم النجح من عاداتها، واتسم فكره بالنصح وقد ضلت الأفكار عن إصاباتها فظلت في غفلاتها.
نحمده حمداً يهب مع الأنفاس في هباتها، ويهب من اللطائف الحسان أفضل هباتها، وينبه القلوب لتقييد شوارد النعم بصدق نياتها، وينافس الكرام الكاتبين على نفائس الثناء في تسبيح لغاتها بصفيح سماواتها، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تملأ الصحف بحسناتها، وتملي الوجوه بالأنوار في توجهاتها، وتلوح من سماتها سيمياء لا تشق على الأبصار في توسماتها، وتفخر برقمها الأقلام بأنه لا طعن في اعتدال حركاتها، على الرماح في اعتدال قاماتها، ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله الذي أدى الرسالة بما تحمله من أماناتها، ورعى العهود لمن أخلص في مراعاتها، ودعا الأمة بإذن الله إلى سبيل نجاتها، واستأمن على الوحي كتاباً سبقوا في الساعدة إلى غاياتها، وبلغوا عنه السنة بإباناتها والسور وآياتها، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه فرسان البلاغة ورواتها، وحفظة الأسرار وثقاتها، وصاغة المعاني في الألفاظ الغر بنفثاتها، وأولي الأحلام التي لا تطيشها وقائع الدهر بروعاتها، ولاتذهلها عن الأوراد في أوقاتها، وتليق الوفود بأقواتها، والأخلاق التي استع نطاقها في تصرفاتها، وامتنع حجابها أن تتخطاه الخدع بهفواتها، صلاةً تزيد الأعمار بزكاتها، وتزين الأعمال ببركاتها، وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد، فإن الملك عمود بناؤه بسره وارتفاعه بالتأسيس لمستقره، وامتناعه بعد العساكر المنصورة بكاتب يخاتل العدو في مكره قبل مكره، ويقاتل في الحرب والسلم بنفاذ رأيه ونفاث سحره، ويقابل كل حال بما يحسن موقعه من صدمه بصدره أو صده بصبره، وينظر في العواقب نظر البصير بأمره، الواعي لاحتيال عذره قبل اختيال الباغي في غدره؛ إذا جادل فبالحجة البالغة، وإذا جاوب أبطل الأهوال الزائغة، وإذا أمرنا بالعدل والإحسان سيرهما عنا كالشمس وانتخبنا منهم كثيراً ارتضيناهم أصحاباً، ومارسنا جماعة ازددنا بهم إعجاباً، ورأينا طوائف فيهم من إن أجاد اجتناءً لزهرات القول حاد عن الجادة اجتناباً، وإن كلف نفسه مذاهب الكتاب أخل بمقاصد الملوك إن كتب عنهم كتاباً.
ولم نظفر بمن تمت فيه الشروط المشروطة، ومت بالدائرة المحيطة إلى الفضائل المبسوطة، وامتاز بفهم لا يقبل على الفساد ولايقبل الأغلوطة؛ إن أمليناه إملاءً ذكره، وإن حمنا حول معنى لا تؤدي إليه العبارة فسره، وإن سردنا عليه فصلاً مطولاً خبره، وربما رأى المصلحة في اختصاره فاختصره وإن أودعناه سراً ستره، وصانه بمحو غيب أثره، وكتمه إما بخطه عن قلبه فلم يدركه أو بقلبه عن لحظة فلم يره، وإن خلينا بينه وبين غرض من أغراضنا الشريفة استخرجه كما في خواطرنا وأظهره- كالمجلس العالي، القضائي، الأجلي، الكبيري، العالمي، العادلي، العوني، العلامي، القوامي، النظامي، المدبري، المشيري، الفاضلي، الكاملي، الأوحدي، المفوهي، الخاشعي، السفيري، الشهابي، صلاح الإسلام والمسلمين، سيد الرؤساء في العالمين، قدوة العلماء العاملين، إمام الفضلاء والمتكلمين، رئيس الأصحاب، ملاذ الكتاب، سفير الأمة، عماد الملة، لسان السلطنة، مدبر الدول، مشيد الممالك، مشير الملوك والسلاطين، ولي أمير المؤمنين أحمد بن فضل الله ضاعف الله نعمته؛ فإنا خطبناه لهذه الوظيفة، واستخلصناه على كثرة المتعينين لأنفسنا الشريفة، وامتحناه في الأمور الجليلة واللطيفة، وحملناه الأعباء الثقيلة والخفيفة، وأوقفناه مرة أخرى أطلقنا تصريفه، وأنعمنا النظر في حاله حتى تحققنا تثقيفه، وكتب واستكتب عنا سراً وجهراً فملأ قلباً وسمعاً، وباشر مراسمنا العالية مصراً وشاماً وصلاً وقطعاً فعز رفعة وعم نفعاً، وأنشأ التقاليد قلدها، ونفذ المهمات وسددها، ووقع التواقيع وأطلق بها وقيد قيدها، ومشى المصالح باحتراز مابددها واحترس ماعقدها، وجهز البرد بهمة ماقيدها طلب الراحة ولا أقعدها، وهو كاتب الملوك، وصانع سلوك، وشارع سلوك، وصائغ ذهب مسبوك، وناسج وشي محوك، وجامع صفاتٍ ماسواها هو المتروك؛ لا يعدو بالكلمة محلها، ولايؤاخي بالقرينة إلا شكلها، ولايسمح بمخاطبةٍ إلا لمن تعين لها، ولايعامل بالغلظة إلا من استوجبها ولايخص بالحسنى إلا أهلها؛ نأمره بالتهويل فيزلزل قواعد العدو، ونشير إليه بالتهوين فيفيد مع بقاء المهابة الهدو؛ وقد رضيناه حق الرضا، وأضربنا به عمن بقي من أكابر الكتاب ونسينا من مضى، وتعين علينا أن نحكم له بهذا الاعتبار ونحمله على هذا المقتضى، وأن نطلعه في سماء دستنا الشريف شهاباً أضا، وأن نقلده مهما مازال هو القائم بتنفيذ أشغاله، والساعي بين أيدينا الشريفة في تدبير مقاصده وجملة أحواله، إلى ماله من بيتٍ أثلوا مجده، وأثروا سعده، وأرثوا عندنا وده، وبنى كما بنوا، واجتنى من السؤدد مااجتنوا، ورمى في خدمة الدول إلى مارموا؛ إلا أن مذهبه في البيان أحلى، وأسلوبه بحمد الله قد لحظته سعادة أيامنا الزاهرة فما فيه لو ولا ولولا؛ سوى أنه اتفق معارض اعترض بين السهم والهدف، وسفه نفسه فوقف في مواقف التلق، ودق عنه شأن كاتب السر فسقط من حيث طمع في السقوط وماعرف، ورام الدخول بين الملك وبين يده؛ وبين اللسان ومايحدثه به الضمير من حقيقة معتققده، والاطلاع على مالو لم يكن للإنسان لما أداره في خلده؛ والتعدي بما ليس له من لفظه متوقع، وسرى في مسرى لو طمح إليه طرف السها لتقطع؛ وماعلم أن كاتب السر هو مستودع الخبايا، ومستطلع الخفايا، وقلمه ابن جلا وطلاع الثنايا، وفي استداده يعرف بالمنى ويرعف بالمنايا، وله الكتابة والتوقيع، والتصرف فيما للتنفيذ من التحسين والتنويع، وغير ذلك من التفريق والتجميع، والتأصيل والتفريع، والترغيب والترهيب والتأمين والترويع.
ولما دل ذلك المعترض بإكباره، وأطال المطار في غير مطاره، وقال الناس إن أبوابنا العالية جنة حفت من سوء أخلاقه بالمكاره، رمينا به من شاهق، وأبعدناه لآخرته أزهد ماهدر من تلك الشقاشق؛ وتقدمنا بإنشاء هذا التوقيع الشريف تقويةً لكاتب سرنا الشريف في تصريفه، وبينا أنه لا يقاس به أحد فإنه لسان السلطان ويده وكفى بذلك دلالةً على تشريفه.
فرسم بالأمر الشريف العالي، المولوي، السلطاني، الملكي، الناصري- لازال إذا عزم صمم، وإذا بدأ المعروف تمم، وإذا استخار الله في شيء رضي بخيرته وسلم- أن يستقل المجلس العالي، القضائي، الشهابي، احمد بن فضل الله المشار إليه بصحابة دواوين الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية المحروسة: رفيقاً لأبيه المجلس العالي، القضائي، المحيوي: ضاعف الله تعالى نعمته وبركته في المباشرة، وشريكاً بل منفرداً ليقوم معه ودونه بما قام من كتابةٍ باطنةٍ وظاهرةٍ، استقل كل منهما بها فيما بعد وقرب مما يضمه نطاق الدولة القاهرة مع ماهو مستقر فيه من كتابة السر الشريف، والتصرف في المهمات الشريفة والتصريف؛ وهو المنفرد بتقديم البريد وعرضه، ومباشرة ختمه وفضه، وقراءته بين أيدينا، واستخراج مراسمنا الشريفة في كل مناب، ومشافهة وخطاب، وابتداء وجواب، وملطف ومكبر، ومقدم ومؤخر، ومكمل ومشطر، وإليه أمر البريد والقصاد والنجابة، ومن اشتمل من الدجى جلبابه، أو ألقته إلى ملاءة الصباح المنشورة يد ليلةٍ منجابة، وتعيين من يرى تعيينه منهم في المهمات الشريفة السلطانية، والمصالح المقدسة الإسلامية، وإليه الحمام الرسائلي وتزجيته، وزجالته ومدرجته، ومن يصل من رسل الملوك إلى أبوابنا العالية، وجميع من يكاتب الدولة الشريفة من كل منتسب وغريب، وبعيد وقريب، وقراءة القصص لدينا، والكتابة على مايسوغ كتابة مثله، وأخذ العلامة الشريفة من يده.
وأما من نستكتبهم عنا في ممالكنا الشريفة فهو المقلد لأعبائهم، والمخلى بينه وبين مايراه في اجتبائهم، يستكتب كل أحد فيما يراه، ويرفع بعضهم فوق بعض درجاتٍ منهم مستيقظ ومنهم نائم في غمرات كراه؛ كل هذ من غير معارضةٍ له فيه، ولا اعتراض عليه في شيءٍ منه، يبلغنا مهماتنا الشريفة ويتلقى عنا، ومنه إلينا وإليه منا.
وأما مايرد عليه من الرسائل عنا بما يكتب به فيمشي مالا يمكن وقوفه، ويراجعنا فيما لا يكون إلا بعد مراجعتنا تصريفه؛ فليمس على هذه القاعدة، وليستقل بهذه الوظيفة استلالاً هو كالخبر محل الفائدة، ولينشر من إقبالنا الشريف عليه بالصلات العائدة؛ ونحن نختصر له الوصايا لأنه الذي يمليها، ونقتصر منها على التقوى فإنها الذخيرة النافعة لمن يعانيها، والباقية الصالحة خير لمن يقتفيها، والله تعالى يقوي أسبابه، وينير شهابه، ويزيد من المعالي اكتسابه، ويغنينا بقلمه عن سنانٍ يتقدم عامله، وبلسانه عن سيفٍ يفارق قرابه، والاعتماد على الخط الشريف أعلاه.
وهذه نسخة تقليد بعود القاضي شهاب الدين بن فضل الله إلى كتابة السر. من إنشاء الشريف شهاب الدين كاتب الإنشاء الشريف، وهي: الحمد لله الذي أحمد العقبى بفضله، وأكد النعمى بوصله، وأودع سر ملكنا الشريف عند أهله، وأطلع شهاب الدين من أفق العلياء في محل شرفه وشرف محله، ورفع قدره في سيره إلى بروج السعود وحلوله بدرجات الصعود ونقله، وأرجع الموهبة منه إلى من يشكرها بقوله وفعله، وأينع الفرع الزاكي الذي يحيا أصله بواكف سحاب كرمنا ووبله، وأتم النعمة عليه كما أتمها على أبويه من قبله، وضم له أطراف الرياسة وجمع شملها بشملة، وعم بفضله وفضلنا أهل هذا البيت الذين فطروا على السؤدد وبصروا من رضانا باتباع سبله.
نحمده على إضفاء ظله، ونشكره على إصفاء نهله، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً أشرق نور هداها، بمستبدله، وأغدق نوء نداها، بمستهله، ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله أرسله خاتم رسله، وجعل له الفضل على الخلق كله، وألهم به سبل هدية وسنن عدله، وأرشده إلى فرض دينه ونفله، وأودعه السر الذي لم يودعه سواه وحمله من أعباء الرسالة مالم ينهض غيره يحمله، صلى الله عليه وعلى آله أغصان الشجرة الزهراء التي هي بضعة منه ونبعة من أصلة، ورضي الله عن أصحابه الذين أجلهم من أجله، خصوصاً من بادرإلى الإيمان فخض من السبق بخصله، ومن أيد به الدين وفر الشيطان من ظله، ومن جهز جيش العسرة حتى غزا العدا بخيله ورجله، ومن كان باب مدينة العلم ومانح جزله وفاتح قفله، وعن بقية المهاجرين والأنصار الذي مامنهم إلامن جاهد حتى قام الدين بنصره ونصله، صلاة دائمةً يجعلها اللسان أهم شغله، ويتلقى قادمها من مواطن القبول بأكرم نزله، مارمى قوس العزم بصائب نبله، وحمى حمى الملك بليثه وشبله، وفوض أجل المناصب إلىفاضل العصر وأجله.
أما بعد، فإن آراءنا لاتزال للمصالح مراعية، ولاتبرح بالإسعاد إلى الأولياء ساعية، فتدعو إلى مقامها من وفر على الإخلاص دواعيه، وتدني من ملكها من له بالخفايا أعظم بصيرةٍ وفي جميل القضايا أجمل طواعية، وتلقي أسرارها إلى من له لسان حق ناطق وأذن خيرٍ واعية، وتقدم من له قدم صدق ثابتة ويد بيضاء طولى في المهمات عالية، لتغدو سهام أقلامه إلى الأغراض رأمية، وصوائب أفكاره عن حمى الملك محاميه، وتكون عبارته للمقاصد موفيةً وإشارته لموعد اليمن موافية، وتضحي ديم نعمنا الواكفة لسوابق خدمه مكافية، لما يتصل بذلك من المصالح، وتناجي خواطرنا الشريفة به المناجح، ويقبل عليه وجه الإقبال، في كل حال، ويغدو إليه طرف الأجلال، وهو طامح، فنجمل به ممالكنا مصراً وشاماً، ونسدد به مرمى ونصيب مراماً، ونحفظ له ولأبيه في خدمتنا حقاً وذماماً، ونكون له في الحالتين براً وإكراماً، ونعلي محله إعلاناً بعلو مكانه وإعلاماً، فيؤلف للرياسة نظاماً، ويضاعف للرتبة إعظاماً، ويعمل يراعاً بل حساماً، ويجلو وجه المنى طلقاً ويبدو بعد البشر بساماً، ويحسن بأعباء المهمات قياماً؛ وحيث نقلته أوطانه هضاب المجد وقلته، وأين وجهته أعلت قدره ونوهته، وكلما أوفدته أفاضت عليه ملبس العز وجددته، واختصته بالتصرف وأفردته، وانتضت ماضي اجتهاده وجردته، وأجرته من إجراء فضلها على ماعودته، واستقلت له منائحها من كثير المواهب ماخولته، ومن كبير المناصب وماقلدته.
ولما كان فلان هو الذي أودع الأسرار فحفظها، واطلع على الدقائق فرعاها ببصيرته ولحظها، وباشر مهماتنا فأمضاها، وسر خواطرنا وأرضاها، وظهرت منه بين أيدينا كفاية لا تضاهى، وقلد أجياد أوليائنا من تقاليده عقوداً، وأدنى من المقاصد بلطف عبارته بعيداً، وأغنى الدولة أن تجهز جيشاً وجهز بريداً، وأبان بمقاله عما في أنفسنا فلم يبق مزيداً، وصان الأسرار فجعل لها في خلده خلوداً، وجمع أشتات المحاسن فأضحى فريداً؛ كم لعمة في خدمتنا من هجرة قديمة، ولأبيه من موالاةٍ هي للمخالصة مواصة ومديمة، ولكم لهما أسباب في الريساة قوية وطرائق في الهداية قويمة، وكم كاتب يسر الله بهداهما تعليمه وتفهيمه، وقدر على يديهما وصوله إلى رتب العلياء، وتقديمه، فمنفعتهما عميمة، ونبعتها صميمة، ولهما في الشام ومصر أجمل شيمة، وكم له هو أيضاً من تقدمات اقتضت تكريمه، وكفايةٍ عند علومنا الشريفة معلومة، وكتابةٍ حلل المهارق بوشيها مرقومة؛ فلو قابله الفاضل عبد الرحيم لبادر إلى فضله إقراره وتسليمه أو عبد الحميد لكانت مناهجه الحميدة بالنسبة إلى مذاهبه ذميمة، أو سمع عبد الرحمن مقاله لضمن ألفاظه معانيه العيقيمة، أو أدركه قدامة لعرف تقديمه، واقتدى بسبله المستقيمة، أو حوى الجوهري فراشد ألفاظه لعرف أن صحاحه إذا قرنت بها سقيمة، أو رأى 0 ابن العديم خطه لاستغنت منه بسلاسل الذهب نفسه العديمة، أو الولي لاستجدى من صوب إجادته أغزر ديمة، أو نظره ابن مقلة لوجدت مقلته نضرة خطه ونعيمه، أو ابن البواب لكان خدين بابه وخديمه؛ فهم صدور صدورهم سليمة، وأماثل معدودة وأمثالهم معدومه.
اقتضى حسن رأينا الشريف أن نلقي إليه منصباً هو أولى به؛ ونقر عينه بدنوه منا واقترابه، ونمتع البصر بخطه وخطابه.
فلذلك رسم بالأمر الشريف، العالي، المولوي، السلطاني، الملكي، الفلاني- لابرح يعيد نعمه كما بدأها أول مرة، ويسر القلوب بكافٍ أودعه سره، ويحمد لأحمد الأولياء عوده ومستقره- فليتلق هذه النعمة بشكرها وليترق منصباً رفيعاً يناسب رقعه قدره، وليبسط قلمه في تنفيذ مهم الممالك من نهيه وأمره، وليحفظ ماأودعه من خفي سره، وليلاحظ المهمات بفكره، وليحافظ على مايعرفه من رضانا طول دهره؛ ونحن نعلم من صواب أفعاله وتسديدها، مالانحتاج معه إلى تكثير الوصايا وتعديدها، ولاإلى تكريرها وترديدها؛ ولاسيما وقد سلفت له بها خبرة لا نفتقر إلى استيعاب ذكراها ولا إلى تجديدها، وتقدمت له مباشرة استبشرنا بميمونها وأثنينا على حميدها، واستدنينا سناها واستغنينا عن سواها بوجودها؛ وله بحمد الله توفر التوفيق، وهو الحقيق بما فوضنا إليه على التحقيق، وفضله من الشوائن عري وفي المجانبين عريق، وقدره بتجديد النعم جدير وبخلال الكرم خليق، والله تعالى يوضح به من الخير أبين طريق، ويسر بمقدمه الولي والصديق، ويفرق به بين الحق والباطل فجده الفاروق وهو من أكرم فريق، بمحمده وآله! وهذه نسخة تقليد بكتابة السر: الحمد لله الذي أظهر لتدبير دولتنا شهاباً يعلو على فرقد الفراقد، وكمل به عقود الممالك فسمت جواهر فرائدها على الدراري إذ كان واسطة تلك الفرائد، ومعيد إحساننا إلى خير ولي أغنى تدبيره عمن سواه فكان بالألف ذلك الواحد، ومخول مواد كرمنا لمن هو صدر أسرارنا ويمين مملكتنا في كل صادر عنها ووارد، ومنقل الأكفاء إلى مراتب سعودهم فتصبح ألوية محامدهم في معاقل العز أفخر معاقد، ومحلي ملكنا الشريف بأكل كافٍ ماأم مصراً إلا تلقته بالهناء ولافارق شاماً إلا أسفت عليه تلك الربوع والمعاهد.
نحمده على نعم أقرت عيون الأولياء لما أقرتهم من مواد جودنا على أكمل القواعد، ونشكره على مابلغنا من جميل المآرب وبلوغ المقاصد، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تنجي قائلها من جميع الشدائد، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تنجي قائلها من جميع الشدائد، ونشهد أن سيدنا محمداً سيد البشر عبده ورسوله الذي جاد بهدايته فكان أكرم جائد، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته خصوصاً على أول الخلفاء أبي بكر الصديق الذي لا فخر كفخاره، وعلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب حامل أسراره وفاتح أمصاره، وعلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان مبدل عسره بيساره، وعلى ابن عمه علي بن أبي طالب أعز أنسبائه وأخص أصهاره، وعلى بقية مهاجريه وأنصاره، صلاةً سهلة المشارع عذبة الموارد.
وبعد فإن من سجيتنا إذا تيمنا بولي لا نوال نلحظه، ونرعى حقوق خدمه في القرب والبعد ونحفظه، ونقابل ماأسلفه بنفائس النعم، ونفيض عليه ملابس الجود والكرم، لاسيما من لم زيل بظهر لنا كل يوم تعبداً جديداً، ومن أصبح في الفصاحة والبلاغة وحيداً، ومن جمع أطراف السؤدد والرياسة فلم يبرح بهما فريداً، ومن تحسن النعم بإفاضتها عليه، وتكمل المنن بإضافة محاسنها إليه، وتزهو فرائد البلاغة بانتظامها في سلك مجده، وتشرق كواكب اليراعة في اتساقها في فلك سعده؛ وكان للبابته في الاختصاص بنا اليد الطولى، وتلا لسان اعتنائنا في الحالين: {وللآخرة خير لك من الأولى}.
ولما كنت أيها الصدر شهاب الدين احق الناس بهذا المنصب لما لوالدك- أبقاه الله تعالى- من الحقوق، ولما أسلفاه من الخدم التي لا يحسن التناسي لها ولا العقوق، ولأنك جمعت في المجد بين طارفٍ وتالد، وفقت بأزكى نفر وعم وإخوة ووالد، وجلالة، ماورثتها عن كلالة، وخلال، مالها في السيادة من إخلال، ومفاخر، تكاثر البحر الزاخر، ومآثر، يعجز عن وصفها الناظم والناثر، ولما نعلمه من فضائلك التي لا تجحد، رعيناك في عودك لوظيفتك وعود احمد أحمد.
ولما كان فلان هو الذي تقطر الصاحة من أعطاف قلمه، وتخطر البلاغة في أثواب حكمه، وتنزل المعاني الممتنعة من معاقل القرائح على حكمه، وتقف جياد البداهة المتسرعة حيرى قبل التوسط في علمه؛ إن وشى الطرس فرياض، أو أجرى النقس فحياض، أو نظم فقلائد، أو نثر ففرائد، لا يتجاسر المعنى المطروق أن يلم بفكره، ولايقدم المعنى المتخيل المسبوق للمرور بذكره، ولايجوز زيف الكلام على ذهنه المتقد، ولايثبت غثاء الكلام لدى خاطره المنتقد، فعبد الحميد كعبد الرحيم في العجز عن لحاق علومه التي يجد الراغب على نورها هدى، والأصمعي لو أدركه لتلا عليه: هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشداً والطغرائي لو عاصره لزاد نظمه وازداد على نوره هدى، والحريري لو رافقه لأمن في مقاماته من التجريح والردى؛ قد قصرت عن غاية كماله جياد القرائح، وعجزت عن وصف صفاته حجميع المدائح، وشرف نصبه بانتسابه إليه، ورفع قدره بمثوله لديه؛ مع ماتميز به من نزاهةٍ صرف بها عن الدنيا طرفه، وزهادةٍ زانت بالسعد صدره وملاءةٍ ملأت بالعفة كفه؛ فهو واحد زمانه، وأوحد أوانه، والبحر الذي يحدث عن فضله ولاحرج، والروض الذي ينقل عن فضله إلى الأسماع أطيب الأرج؛ وكان قد مال عن منصبه وهو يذكره، وفارقه وهو يشكره، ونادى غيره وبقوله يلبي، وشغل بغيره وهو يقول حسبي 0 شهاب الدين حسبي: {فلما رءاه مستقراً عنده قال هذا من فضل ربي}. فلما حصل له الاستئناس، وزال عنه القلق والالتباس، قال: ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس - اقتضى حسن الرأي الشريف أن نخصه باستقرار رتبته لديه، وأن نستمر به على وظيفته السنية استمرار السعود المقبل عليه.
فرسم بالأمر الشريف- لازال شهاب سعده لامعاً، وسحاب كرمه هامعاً، ومطاع أمره لمصالح الدين والدنيا جامعاً، - لمناقبه التي وفرت ميامنها، واسفرت بوصف آثاره الحسنة كوامنهات، وأن يعاد إليها كما يعاد السوار إلى الزند، أو كما يعود نسيم الصبا إلى الرند، فليؤنس منصباً كان إليه مشتاقاً، ومجلساً كان منتظراً أن يزر من ملابس جلاله على عنقه أطواقاً، وليجمل هالةً كانت متشوقةً إلى عقود درره، فاحمد الله على ماخصصناك له من مزيد الاعتناء، وأن السعادة في أيامنا الشريفة متصلة فتشمل الآباء والأبناء؛ ويكفيك بهذا التوقيع الشريف إذ بلغت به جميع الأماني، وتوجناه بيميننا الشريفة لقرب عهدها بمصافحة الركن اليماني، واصطفيناك بقلمٍ عظم شأناً بتلك الستور، وغذا معموراً بالهداية ببركة البيت المعمور، وازداد بمشافهة الحرم الشريف نوراً على نور، فليحسن نظره المبارك في ذلك كله، وليبد مايحسن في هذه الوظيفة من مثله؛ وفي تقدم مباشرته في هذه الوظيفة وعلمه مايغني عن كثرة الوصايا، وملاكها تقوى الله تعالى وهي أكمل المزايا؛ وليحمد أفعاله ويصل أسباب اعتماده بسببها؛ والله تعالى يجمل له مواهب تخويله، ويجعل له الخير في تنقله وتحويله؛ والخط الشريف أعلاه، حجة بمقتضاه، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة تقليد بكتابة السر: الحمد لله الذي جعل خواطر أوليائنا بإقرار نعمنا مستقرة، ومواطر آلائنا على ذوي الإخلاص في ولائنا دائمة الديم مستمرة، وبشائر رضانا تجدد لكل من ذوي الاختصاص ابتهاجه وبشره، وسوافر أوجه إقبالنا لأولي الاصطفاء والوفاء مشرقة الأوضاح متهلله الأسره، مودع أسرار ملكنا الشريف من آل فضل الله عند أكرم أسرة، وممتع دولتنا بخير كافٍ دقق في مصالحنا فكره، وأنفق مناجحنا عمره، ومجمع أنجمهم بأفق تقريبنا مرةً بعد مرة، فنحيي نيرهم الأكبر وقد شيدنا بارتقائهم بيته وشددنا بعلائهم أزره.
نحمده على أن جبل سجايانا، على الإحسان والمبرة، ونشكره على أن أجزل عكايانا، لمن لم يزل يعرف حقه ويألف خيره،، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تشرح لمؤمنها صدره، وتصلح لموقنها أمره، ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله الذي أسمى على الخلائق قدره، وتولى في المضايق نصره، وأعلى في المشارق والمغارب ذكره، صلى الله عليه وعلى آله أعز عترة، ورضي الله عن أصحابه الذين أسدوا المنة وسدوا الثغرة، صلاةً ورضواناً متواصلين في كل أصيل ومكررين في كل بكرة، ماوهب فضل الله مستحقاً فسر بالعواطف والعوارف سره، وعقب في سماء الإسعاد كوكب كوكباً فحل محله وقر مقره، وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد فشيمنا ترعى لأوليائها حقوقاً، ونعمنا الغامرة تسني صدقاتها لمن لم يزل في ولائها صدوقاً، وتزيد هباتها توفيراً لمن عهدت منه لمراضيها توفيقاً، وتجدد بتعاهدها معهد الفضل فلا يمسي خلياً بل يضحي بإكرامها خليقاً، وتشيد بإحسانها بيتاً أسس على تقوى الله وطاعة سلطانها فغدا بالحفظ حقيقاً، وتحمي باعتنائها جوانبه من الغير فلا يرهب حماه لها طروقاً، ولاتجد بفضل الله لها عليه طريقاً، وتطلع في بروج سعودها زهراً تروق شروقاً، وتجمع على مهماتها من عظموا فضلاً وكرمول فريقاً، وتودع أسرارها عند سراتهم ركوناً إليهم وسكوناً ورضاً بهم ووثوقاً، وتشفع منائحها بمنائح تزيد آمالهم نجاحاً وتفيد أمانيهم تحقيقاً، وترفع مكاناً علياً إلى حيث اتسع الرار من ملكها من كان بالميامن ملياً وفي المحاسن عريقاً، ويخلف في خدمها شقيق منهم شقيقاً، ويصرف أوامرها ونواهيها من أعيانهم من تأمن المصالح مع اجتهاده تفويتاً وتخاف الأعداء لسداده تعويقاً، طالما ائتمناهم على إيداع أسرارنا فحلت من سرائرهم مستودعاً وثيقاً، وعينوا للمعالي فصادفت طويتنا من يقظتهم ونهضتهم تصديقاً؛ فهم أولى أن نجعل لأجيادهم بعقود جودنا تطويقاً، وأحق أن نرفع بنعمنا محلهم، ونجمع في خدمتنا شملهم، فلا يخشون نقضاً ولاتفريقاً.
ولما كان المجلس العالي الفلاني هو الذي لحظه عنايتنا، فعلا فعلاً، وأيقظته إشارتنا، فغدا في الحكم كهلاً، وحفظه رعايتنا، فعمرت بيته العمري الذي مازال بالعوارف ملموحاً وللقبول أهلاً، وأحظته سعادتنا، اقتضى حسن الرأي الشريف أن نجري بمراسمنا أقلامه، ونوفر من إنعامنا أقسامه.
فلذلك رسم بالأمر الشريف- لابرحت سحائبه عامة، ومواهبه لها مزيد وإدامة، ورعايته إذا ابتدأت فضلاً رأت إتمامه، وكواكبه تسيرفي منازل عزها ولنيرها الأكبر الإرشاد والإمامة- أن يفوض إليه كذا وكذا، على أجمل العوائد، وأكمل القواعد، نظير ماكان مستقراً لأخيه.
فليباشر هذه الوظيفة التي لها وبه وبأهله أعظم فخار، وليحل هذه الرتبة التي مامنهم إلا من يجتبي ويستخار، وليجمل هذا المنصب الذي إليهم مصيره في جميع الأمصار، وليحل المهارق بإنشاءاته التي شان مطأولها عن شأوها الإقصار، وليتوقل هذه الهضبة التي لها على عليائهم اقتصار، وفي آبائهم وأبنائهم لها تعيين وانحصار، وليدبج الطروس من خطه بالوشي الرقيم، وليبهج النفوس من خطابه بالدر النظيم، وليسرج الشموس من أوضاع كتابته التي تبرز من إبريز كنوزها ابن العديم وليجهز البرد التي تقدمها مهابتنا فلم يكتبها من كتائب الأعداء هزيم، وليوين نقاصدها التي قرن بها الفتح القريب والنصر العزيز والفضل العظيم؛ وهو بحمد الله غني عن الإرشاد بالوصايا والتفهيم، علي القدر لا يحتاج مع ألمعيته إلى تنبيه ولاإلى تعليم، وهو أئمة هذه الصناعة ولهم الفضل القديم، وسبيلهم السوي وصراطهم القويم؛ والله تعالى يوفر لهم فضلنا العميم، ويظفر أقدارهم من لدنا بتكرير التكريم، ويسني أمرهم في آفاق العلياء يسعد ويقعد ويقيم، ويديم لكل منهم في ظل نعمنا المزسد والتأكيد والتقديم؛ والعلامة الشريفة أعلاه، حجة بمقتضاه، إن شاء الله تعالى.
وهذه وصية لكاتب السر أوردها في التعريف وهي:
وليأمر عنا بما يقابل بالامتثال، ويقال به: السيوف لأقلامه مثال، ويبلغ من ملوك العدا مالاتبلغه الأسنة، ولاتصل إليه المراكب المشرعة القلوع والخيول المطلقة الأعنة، وليوقع عنا بما تذهب الأيام ويبقى، ويخلد من الحسنات مايلفى آخرةً ويلقى، وليمل من لدنه من غرر الإنشاء مايطرز كل تقليد، وتلقى إليه المقاليد، ولينفذ من المهمات ماتحجب دونه الرماح، وتحجم عن مجاراة خيل البريد به الرياح، وليتلق مايرد إلينا من أخبار الممالك على اتساع أطرافها، وماتضمه ملاءة النهار ملء أطرافها، وليحسن لدينا عرضها، وليؤد بأدائها واجب الخدمة وليتم فرضها، وليجب عنا بما استخرج فيه مراسمنا المطاعة، ولما وكل إلى رأيه فسمع له الصواب وأطاعه، وليمض ما يصدر عنا مما يجوب الأفاق، ويزكو على الإنفاق، ويجول مابين مصر والعراق، ويطير به الحمام الرسائلي وتجري الخيل العتاق، ولير النواب ماأبهم عليهم بما يريهم من ضوء آرائنا، وليؤكد عندهم أسباب الولاء بما يوالي إليهم من عميم آلائنا، وليأمر الولاة بما يقف به كل منهم عند حده ولايتجاوزه في عمله، ولايقف بعده على سواه بأنامله، وليتول تجهيز البريد، واستطلاع كل خبر قريب وبعيد، والنجابة وماتسير فيه من المصالح، وتأخذ منه بأطراف الأحاديث إذا سألت منه بأعناق المطي الأباطح، وأمور النصحاء والقصاد، ومن ظل سرهم عنده إلى صخرة أعيا الرجال انصداعها وهم شتى في البلاد، وليعرف حقوق ذوي الخدمة منهم، وأهل النصيحة الذين رضي الله عنهم، ولاينس عوائدهم من رسم إحساننا الموظف، وكرمنا الذي يستميل به القلوب ويتألف، وليصن السر بجهده وهيهات أن يختفي، وليحجبه حتى عن مسمعيه فسر الثلاثة غير الخفي، والكشافة الذين هم ربيئة النظر، وجلابة كل خبر، ومن هم أسرع طروقاً من الطيف، وأدخل في نحور الأعداء من ذباب السيف، وهم أهل الرباط بالخيل، ومامنهم إلا من هو مقبل ومدرك كالليل؛ والديادب والنظارة، ومن يعلم به العلم اليقين إذا رفع دخانه أو ناره؛ وهم في جنبات حيث لا يخفى لأحد منهم منار، ولايزال كلنبأ بتنويرهمك كأنه جبل في رئاسه نار؛ والحمام الرسائلي ومايحمل من بطائق، ويتحمل من الأنباء ماليس سواه له بطائق، ويخوض من قطع الأنهار، ويقطع إلينا مابعد مسافة شهر وأكثر منه في ساعة من نهار، ويعزم السرى لايلوي على الرباع، ويعلم أنها من ملائكة النصر لأنها رسل ولها أجنحة مثنى وثلاث ورباع، وغير هذا مما هو به معدوق، وإليه تحدى به النوق، ومن رسل الملوك الواردة، وطوائف المستأمنين الوافدة؛ وكل هؤلاءهولا مالهم المترجم، والمصرح عن حالهم المحمحم؛ فليعاملهم بالكرامة، وليوسع لهم من راتب المضيف مايحبب إليهم في أبوابنا العالية الإقامة، وليعلم أنه هو ليجنا المستشار المؤتمن، والسفير الذي كل أحدٍ بسفارته مرتهن، وهو إذا كتب بناننا، وإذا نطق لسننا، وإذا خاطب ملكاً بعيد المدى عنواننا، وإذا سدد رأيه في نحور الأعداء سهمنا المرسل وسناننا؛ فلينزل نفسه مكانها، ولينظر لدينا رتبته العلية إذا رأى مثل النجول عيانها.
فليراقب الله في هذه الربتة، وليتوق لدينه فإن الله لايضيع عنده مثقال حبة، وليخف سوء الحساب وليتق الله ربه؛ وجماعة الكتاب بديوان الإنشاء بالممالك الإسلامية هم على الحقيقة رعيته، وهداهم بما تدهم به من الآلاء ألمعيته؛ فلا تستكتب إلا من لاتجد عليه عاتباً، ولايجد إلا إذا قعد بين يديه كاتبا، والوصايا منه تستملى.
الطبقة الثانية من أرباب الوظائف الديوانية بالحضرة السلطانية: أصحاب التواقيع:
أصحاب التواقيع وهم على ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: ما يكتب في قطع النصف بالمجلس العالي:
وكلها مفتتحة بالحمد لله وتشتمل على أربع وظائف سوى ما تقدم أنه نقل إلى رتبة التقاليد، وهو كتابة السر.
الوظيفة الأولى: نظر الخاص:
وقد تقدم في الكلام على ترتيب وظائف الديار المصرية أنها وظيفة محدثة، أحدثها السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون حين أبطل الوزراة، وأن أصل موضوعها التحدث فيما هو خاص بمال السلطان، وأن صاحبها صار كالوزير لقربه من السلطان وتصرفه في تدبير جملة الأمور، وتعيين المباشرين، إلا أنه لايقدر على الاستقلال بأمر، بلا لابد له من مراجعة السلطان. وقد تقدم ذكر ألقابه في الكلام على مقدمه الولايات من هذا الفصل، وعلى طرة توقيعه في الكلام على التواقيع.
وهذه نسخة توقيع بنظر الخاص، كتب به للقاضي شمس الدين موسى بن عبد الوهاب في الأيام الناصرية محمد بن قلاوون وهي: الحمد لله الذي جعل كل جرح بنا يوسى، وعجل كل نعمة تبدل بوساً، وتغير بالسرور من المساء لبوساً.
نحمده حمداً يشرح صدوراً ويسر نفوساً، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً ترفع لقائلها رؤوساً، وتطلع في آفاق ممالكنا الشريفة شموساً، وتنشيء في أيامنا الزاهرة غروساً، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي بشر به موسى، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاةً تملأ طروساً، وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد، فإن العمل بالسنة أولى مايتمسك به المتمسك، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «ابدأ بنفسك»؛ وكانت الخواص الشريفة هي المصلحة الخاصة بنا، المتعلقة دون كل شيء بأنفسنا، لأن من خزائنها العالية تتفرق مواهبنا الشريفة في الوجود، وتتحلى معاطف الأمراء والجنود، وكان فيها من لم يزل هو وبنوه قائمين بها أحسن قيام، وفيها من ممالكنا الشريفة مايضاهي بمدده الغمام، من حضر منهم لايتفقد معه من غاب، ومن كتب منهم في شيءٍ من مصالحها قال الذي عنده علم من الكتاب؛ كم أجرت صدقاتنا الشريفة بأقلامهم من إنعام، وتقسموا في مصالحنا الشريفة هذا في الخاص وهذا في العام؛ طالما انقطع والدهم رحمه الله تعالى بعذر فمشوا الأمور على أكمل سداد، وأجمل اعتماد، وأتم مالو حضر أبوهم ومكان هو المتولي لما زاد؛ فما خلت في وقتٍ منه، أو من أحد منهم لما غاب من بقي يسد عنه؛ فلم يزل منهم ربعها مأنوساً، ولاسئل فيها عن قصة إلا وأنبأت بها صحف إبراهيم وموسى.
وكان المجلس العالي فلان هو الذي تفرد آخراً بهذه الوظيفة، واستقل فيها بين أيدينا الشريفة، وسافر فيها إلى ثغر الإسكندرية- حرسها الله تعالى- فافتر بيمن تصرفه، وحسن تعففه، وعدم فيها المضاهي لأنه لاشيء يضاهي الشمس إذا حل سرها في منازل شرفه؛ كم كفت له كفاية، وبدت بداية، وكم بلغ من غاية، كم له من همم، وكم تقدمت له قدم، وكم اعترف السيف ببز القلم؛ كم له من همم، وكم تقدمت له قدم، وكم اعترف السيف ببز القلم؛ كم له في خدمة المقامات العالية أولادنا أثر جميل، وفعل جلي جليل، وسلوك فلا يحتاج في الشمس إلى دليل؛ كم أحسن في مرة، كم رددناه إلى الكرك كرة؛ كم غلب على السحاب فرقى إليها، وبلغ النجوم وله قدوم عليها؛ فلما انتقل والده القاضي تاج الدين عبد الوهاب إلى رحمه الله تعالى، احتاج إلى توقيع شريفٍ بالاستقلال في وظيفة نظر الخاص الشريف التي خلت عن أبيه، ليعلم كل متطأول إليها أنه لايصل إليها مع وجود بنيه؛ فما عاد إلا وعاد بعين العناية محروساً، ولاأقبل على كرمنا إلا قال وقد أوتيت سؤلك يا موسى.
فلذلك رسم بالأمر الشريف- زاد الله شرفه، ومكن في الأرض تصرفه- أن يفوض إليه نظر الخاص الشريف بالممالك الإسلامية المحروسة، على عادة والده رحمه الله في هذه الوظيفة، وقاعدته في رتبتها المنيفة، ليقضي ماكان في خاطر أبيه من الزطر، ولأنه في أمثاله عين الأعيان والعين أولى بالنظر.
فليباشر ماأنعمت به صدقاتنا العميمة عليه على ماعهد منه بالأمس، وعرف به من حسن السلوك كمن يمشي في ضوء الشمس، وليقدم تقوى الله والأمانة فهما أفضل مايقدم، وأجمل مايعمل به من تقدم، والنهضة فإنها هي التي تقوم بها المصالح، والتصدي لما هو بصدده فإن به يتم كل عمل صالح، وليحتفظ على الخزائن العالية، وليكن فيها كواحد من رفقته عملاً بالعادة فيها، وإلا فنحن نعلم من كفايته أنه يكفيها، وليثمر الجهات التي إليه مرجعها، والأموال التي يدوم إليه من العين تطلعها، وليستجلب خواطر التجار بإيصال حقوقهم إليهم، والقائمين في خدمة أبوابنا الشريفة بتعجيل ما تنعم به صدقاتنا الشريفة عليهم، وليكن إلى ماتبرز به مراسمنا الشريفة مسارعاً، ولها في كل ماأشكل عيه من الأمور مراجعاً؛ وبقية هذا من كل مايحتاج أن نوصيه بتعلمه فقد علم مما جرت به عادتنا الشريفة بأن نقوله في مثله، ولهذا نختصر في الوصايا التي تشرح اكتفاءً بما لآتاه الله بنا من فضله؛ والله تعالى يأخذ به إلى النجاح، ويفتتح له بنا أحسن الافتتاح؛ والاعتماد على الخط الشريف أعلاه، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة توقيع بنظر الخاص: الحمد لله الذي جعل خواص النعم لملكنا الشريف لأجلها، ونفائس الذخائر من دولتنا القاهرة بمحلها، وأخاير المفاخر مبسوطاً في أيامنا ظلها.
نحمده بمحامده التي لانملها، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً أشرق مستهلها، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي ختمت به أنبياؤها ورسلها، وبعثه الله للأرحاميبلها، وللأولياء يجلها، وللأعداء يذلها، ولسيوف النصر من الغمود يسلها، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ماشد على مطيةٍ رحلها، وولي المراتب أهلها، وسلم تسليماً مثيراً.
وبعد، فإن خزائن ملكنا الشريف مستودع كل ثمين، وممالكنا المعظمة لا تعدق إلا بالثقة الأمين، ومتاج خواصنا الشريفة لايثنمرها إلا من رأيه يعضد قلمه في اليمين، والمتجر المحروس لايقوم بنماء محصوله إلا من له حزم سديد وعزم متين، ونظر الخواص هو الذروة العالية فمرتقيها على كل مايعترضه معين.
ولما كان فلان هو المختار على يقين، والمخطوب لهذا المنصب ليزيده في التحسين والتحصين، والذي إن نظر في القليل عاد كثيراً بالألوف والمئين؛ فإن دبر تدبيراً حفظ وحرس وصين، وضبط في حسن الاعتماد بلغ إلى الصين، وإن توجه إلى الثغر المحروس تفجر له عن أمواله الجمة، وأخرج له من فاخر الحلل ماحسن راقمه رقمه، وصدر عنه إلى أبوابنا الشريفة بالتحف المثمنة، والحمول التي أوقرت السفن في النيل، والإبل في السيبل، فأزال الغمة، وأنار الأمور المدلهمة، ونشر ماطواه لدينا فشكرناه له ماتقدم مما أتمه.
فلذلك رسم بالأمر الشريف..... فليباشر هذا المنصب الكريم بتدبير يصلح الفاسد، وينفق الكاسد، ويكبت الحاسد، ويكثر الأموال، ويسعد الأحوال، ويثمر الذخائر، ويسر السرائر، ويوفرحاصل الجواهر، ويكثر التحف من كل صنف فاخر، ويوفي المهمات الشريفة حقها في الأول والآخر، وينشر التشاريف كالأزاهر. وليختر الأمناء الثقات، وليحرر كل منهم الميقات، وليبع لخاصنا الشريف ويشتر بالأرباح في سائر الأوقات، وليتلق تجار الكارم الزاردين من عدن، باستجلاب الخواطر وبسط المنن، ونشر المعدلة عليهم ليجدوا من ايمن مالم يجدوه في اليمن؛ وكذلك تجار الجهة الغربية الواردين إلى الثغر المحروس من أصناف المسلمين والفرنج: فليحسن لهم الوفادة، وليعاملهم بالمعدلة المستفادة، فإن مكاسب الثغر منهم ومن الله الحسنى وزيادة، والوصايا كثيرة وهو غني عن الإعادة، وملاكها تقوى الله فلقتف رشاده، وليصلح ملآبه ومعاده، ولايتدنس بأقذار هذه الدنيا فإنها جمرة وقادة؛ والله تعالى يحرس إرفاقه وإرفاده، بمنه وكرمه!: بعد الخط الشريف أعلاه الله تعالى أعلاه، إن شاء الله تعالى.
الوظيفة الثانية: نظر الجيش:
وقد تقدم في الكلام على ترتيب وظائف الديار المصرية أن موضوعها التحدث في الإقطاعات بمصر والشام، والكتابة بالكشف عنها، ومشاورة السلطان عليها، وأخذ خطه، وقد تقدم ذكر ألقابه في جملة الألقاب في الكلام على مقدمات الولايات في هذا الفصل، وتقدم ذكر مايكتب في طرة تقليده في الكلام عن التواقيع.
وهذه نسخة توقيع بنظر الجيش:
الحمد لله الذي عدق بالأكفاء مصالح الجنود، وصرف أقلامهم فيما تقطعه من الجود، واجتبى لمراتب السيادة من تحمده الأقلام في العطايا البيض، والسيوف في الخطوب السود.
نحمده وهو المحمود، ونشكره شكراً مشرق الميامن والسعود، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة عذبة الورود، يجد المخلص بركتها يوم العرض {ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود} ونشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي أضحت به جيوش الإسلام منشورة الألوية والبنود، منصورة السرايا في التهائم والنجود، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ماأورق عود، وأولج نهار السيوف في ليل الغمود، وسلم تسليماً.
وبعد، فإن أجل رتب هذه الدولة الشريفة مرتقى، وأجملها منتقى، وأكرمها هادياً حلى بعقد السيادة مفرقاً، رتبة محكمنا مرتقيها في أرزاق الجيوش الذين هم حماة الدين وأنصاره، ولهم رواح الظفر وابتكاره؛ ولهذا لايحظى بتسنمها إلا من علا مقداراً، وشكرت الدولة الشريفة له آثاراً، وجيبت عليه السعادة أثوابها، وأوكفت عليه سحابها، وأنزلته ساحاتها ورحابها، وغدت لأحاديث عليائه تروي، وحمده الميسور والمنشور والمطوي.
ولما كان فلان هو الذي نمت مآثره، وكرمت مفاخره، واستوت على العلياء مظاهره، وشكر استبصاره وحياطته، وكمل سلوكه منهج الفخار وجادته، وأحصى الجنود عدداً، وإن كاثروا النجوم مدداً، وأحاط بالأرض المقطعة، فلم تكن نواحيها عنه ممتنعة، ولم يغادر منها شيئاً إلا أحصاه، واتبع سبب مراضينا حتى بلغ أقصاه؛ فالعلم يثني عليه والعلم، والحرب والسلم يشكرانه لمناسبة نظره القرطاس والقلم- اقتضى حسن الرأي الشريف أن نرقيه هضبةً سأمية العلى، فاخرة الجلى، ومنبع أرزاق أئمة الفضل وأبطالها، ورتبة شهد منالها بعد مثالها.
... فلذلك رسم بالأمر الشريف أن يفوض إليه نظر الجيش... إلخ.
فليباشر هذه الوظيفة المباركة، وليحل ذراها الأسمى، وليجمل اطلاعه على الجيوش المنصورة حتى لايغادر منها اسماً، لتغدو مصالحها وريقة الغراس باسقة، وعقودها نفيسة الفرائد متناسقة، وليجر نظره المبارك فيما صرفناه فيه، آخذاً بيمن السداد من فعله وحسن التنففيذ من فيه، ملزماً من تحت نظره بإتقان ماهم بصدده من العروض والأمثلة، حتى تغدو لديه ممثلة، محرراً للإقطاعات وعلم خفاياها فيما نهبه ونقطعه، ونصله ونقطعه، والمقايضات وإن اختلفت، والإفراجات وإن اكتنفت، والمغلات الآتية والأخرى التي سلفت، ومايخص المتصل، ومن فعل المنفصل، والمتحصل والعبرة، والخاص والعدة لذوي الإمرة؛ ومنها مصري لاغنى عن تحريره، وشامي يفتقر إلى الإتقان في قليله وكثيره؛ ولينظر فيمن له جامكيه أو إقطاع مجزل، وكلاهما في دولتنا سماك: هذا رامح وهذا أعزل.
هذه وصايا جمه، وأنت غني عن أن يستقصي القلم ذكرها أو يتمه؛ والله تعالى يجمل به رتبه، ويبلغه أربه، ويرفع عليه لواء المجد وعذبه؛ بعد العلامة الشريفة أعلاها الله تعالى أعلاه، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة توقيع بنظر الجيش: الحمد لله الذي أعز الجيوش المنصورة، وجز أعناق العدا بالسيوف المشهورة، وهز ألوية التأييد المنشورة، وجعل الجحافل مشرفةً وأجنحتها خافقةً وساقتها محدقةً وقلوبها مسرورة.
نحمده بمحامده المذكورة، ونشهد أن لا إله غلا الله وحده لا شريك له شهادة مأثورة، موصولةً غير مهجورة، ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله الذي أبطل من الشيطان غروره، وصان للإسلام حوزته وثغوره، وسن لأمته الاستخارة والمشورة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاةً نورت من الليل ديجوره، وكثرت لقائلها أجوره، وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد، فإن أحوال جيوشنا يتعين حسن النظر في أمرها، والقيام بمواد نصرها، وإسعافها بناظر يحرر جهات أرزاقها، ويضبطها مخافة افتراقها، ويأمر بنظم جرائد أسمائهم واتفاقها، ويتقن الحلى، ويبين يوم العرض محله في ارتقاء العلى، ويصون المحاسبات لكل منفصل ومتصل من الحلل، ويسرع في الدخول والخروج مايصل به لك حقه عن استحقاق الأجل.
ولما كان فلان هو الممدوح بألسنة الأقلام، والرئيس بين الأنام، والمشكور بين أرباب السيوف وذوي الأقلام، والمأمون فيما يعدق به من مهام، والعزيز المثال، والسائر بمجده الأمثال، والمنشور فضله في كل منشور، والظاهر أثره وتحرير في الديوان المعمور، والذي شكرته المملكة الشريفة فهو من صدورها في الصدور.
فلذلك رسم بالأمر الشريف... إلخ فليباشر نظر هذا المنصب السعيد بأمانة تحفظ أرزاق العساكر، وتجلو الظلام العاكر، وليحرر جرائد التجريد، وليصن العدة الكاملة من التبديد، ولتكن أوراق البياكر نصب عينيه حتى إذا طلبت منه أحضرها محررة، وإذا وقع فيهم حركة كانت أقلامه غير مقصرة، وليرغب في اقتناء الثناء حتى يصبح عنده منه جملة من الألوف، وليكن للأمانة والنصح نعم الألوف، وليتق الله مع أصحاب السيوف، وليستجلب خواطر أرباب الصفوف، وليجعل به براً في كل أرض يطوف، وتقوى الله فهي السبيل المعروف، فلينعم بجنتها الدانية القطوف، وليلبس بردتها الضافية السجوف، والله تعالى من المخوف، بمنه وكرمه!.
وهذه وصية ناظر جيش أوردها في التعريف قال: وليأخذ أمر هذا الديوان بكليته، ويستحضر كل مسمى فيه إذا دعي باسمه وقوبل عليه بحليته؛ وليقم فيه قياماً بغيره لم يرض، وليقدم من يجب تقديمه في العرض، وليقف على معالم هذه المباشرة، وجرائد جنودنا ماتضحي له من الأعلام ناشرة، وليقتصد أمر كل ميت تأتي إليه م ديوان المواريث الحشرية ورقة وفاته، أو يخبره به مقدمه أو نقيبه إذا مات معه في البيكار عند موافاته، وليحرر ماتضمنته الكشوف، ويحقق مايقابل به من إخراج كل حال على ماهو معروف، حتى إذا سئل عن أمر كان عنه لم يخف، وإذا كشف على كشف أظهر ماهو عليه ولاينكر هذا لأهل الكشف، وليحترز في أمر كل مربعة، ومافيها من الجهات المقطعة، وكل منشور يكتب، ومثال عليه جميع الأمر يترتب، ومايثبت عنده وينزل في تعليقه، ويرجع فيه إلى تحقيقه؛ وليعلم أن وراءه من ديوان الاستيفاء من يساوقه في تحرير كل إقطاع، وفي كل زيادة وأقطاع، وفي كل ماينسب إليه وإن كان إنما فعله بأمرنا المطاع، فليتبصر بمن وراءه، وليتوق اختلاق كل مبطل وافتراءه، وليتحقق أنه هو المشار إليه دون رفقته والموكل به النظر، والمحقق به جملة جندنا المنصور من البدو والحضر. وإليه مدارج الأمراء فيما تنزل، وأمر كل جندي له ممن فارق أو نزل؛ وكذلك مساوقات الحساب ومن يأخذ بتاريخ المنشور أو على السياقة، ومن هو في العساكر المنصورة في الطليعة أو في الساقة. وطوائف العرب والتركمان والأكراد، ومن عليهم تقدمة أو يلزمهم روك بلاد، أو غير ذلك مما لايفوت إحصاؤه القلم، وأقصاه أو أدناه تحت كل لواءٍ ينشر أو علم؛ فلا يزال لهذا كله مستحضراً، وعلى خاطره محضراً، لتكون لفتات نظرنا إليه دون رفقته في السؤال راجعة، وحافظته الحاضرة غنيةً عن التذكار والمراجعة.
الوظيفة الثالثة: نظر الدواوين المعبر عنها بنظر الدولة:
وقد تقدم في الكلام على ترتيب وظائف الديار المصرية أن موضوعها التحدث في كل مايتحدث فيه الوزير، وأن كل ماكتب فيه الوزير يكشف مثلاً، كتب فيه يكشف عما رسم به ونحو ذلك. وتقدم ذكر ألقابه في الكلام على مقدمات الولايات من هذا الفصل، وتقدم ذكر مايكتب في طرة توقيعه في الكلام على التواقيع.
وهذه نسخة توقيع بنظر الدواوين، كتب له لتاج الدين بن سعيد الدولة، وهي: الحمد لله الذي خص من أخلص في الطاعة من آلائنا بحسن النظر، وأجنى من غرس في قلبه أصل الإيمان من عوارف أيامنا الزاهرة يانه الثمر، ورفع من استضاء في دولتنا القاهرة بأنوار الهدى من حجول الرتب إلى مكان الغرر، وأظهر لوامع السعادة من نعمنا على من أضاءله الرشد فرآه بعين البصيرة قبل البصر.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة خهي أرفع مايقتنى وأنفع مايدخر، وأفضل مانجت له الفرقة الموحده وهلكت به الفرق الأخر، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله أشرف البشر، وأرأف البدو والحضر، والمبعوث إلى الأمم كافةً لما قضاه الله تعالى من سعادة منآمن وشقاوة من كفر، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الميامين الغرر، صلاةً دائمة الورد والصدر، باقية العين والأثر، وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد، فإن أولى من خصه برنا بالنظر الحسن، وشمله كرمنا من الرتب بما يهجر في بلغوغ مثله الوسن، واشتمل عليه معروفنا بما يجعل يراعه في مصالح الدولة القاهرة جميل العبارة حسن اللسن، من سمت به نفسه إلى سعادة الآخرة فأتته سعادة الدنيا تابعة، وسلك في مراضي الدولة القاهرة طريق الإخلاص فغدت لكل خير حاويةً ولكل يمن جامعة؛ كمع كفاءةٍ جاءت المناصب على قدر، ومعرفةٍ مالحظت المصالح بأقرب نظر، إلا نمت الأموال وبدرت البدر، وخبرةٍ مااعتبرت فيها محاسن سيرته في كل مايباشره إلا صغر خبرها الخبر، ونزاهةٍ سلكت في كل مايليه أحسن المسالك، وعفة ٍ رفعته من الرتب الديوانية إلى مفارقها ولارتبة للتاج إلا ذلك.
ولما كان فلان هو الذي اجتنى من إحسان الدولة القاهرة بالطاعة أفضل الجنى، وفازمن عوارفها العميمة بجميل المخالصة مازاد على المنى، وانتمى من أدوات نفسه إلى كمال المعرفة والعفة وهما أفخر مايدخر للرتب الجليلة وأنفس مايقتنى، وعني من أسباب استحقاقه المناصب بما اقتضى إحسان الدولة القاهرة أن يحتفل بتقديمه وأن يعتنى.
فلذلك رسم أن يفوض إليه نظر الدواوين المعمورة: فليباشر ذلك محلياً هذه الربتة بعقود تصرفه الجميل، ومجلياً في هذه الحلبة بسبق معرفته الذي لا يحتاج إلى دليل، ومبيناً من نتائج قلمه ممايبرهن على أنه موضع الاختيار، ومن كوامن اطلاعه مالايحتاج إلى برهان إلا إذا احتاج إليه النهار، فلا يزال فرع يراعه في روض المصالح مثمراً، وليل نقسه في ليل الأعمال مقمراً، وحسن نظره إلى ماقرب ونأى من المصالح محدقاً، ولسان قلمه لما دق من أمور الأقاليم محققاً، ورسم خطه لما يستقر في الدواوين المعمورة مثبتاً، ووسم تحريره لما يجتبى من غروس المصالح منبتاً، ولدر أخلاف الأعمال، بحسن الاطلاع محتلباً، ولوجوه الأموال، بإنفاق التوجه إلى تثميرها إن أقبلت مجتلياً وإن أعرضت مختلباً؛ فإن الأمور معادن يستثيرها التصرف الجميل، ومنابت ينميها النظر الجلي والإتقان الجليل. وملاك كل أمر تقوى الله تعالى فيجعلها إمامه، ويتخيلها في كل حالٍ أمامه؛ والله تعالى يوفقه يمنه وكرمه! قلت: وربما أضيف إلى نظر الدواوين المعمورة نظر الصحبة الشريفة الآتي ذكرها، وكتب بها جميعاً لشخص واحد.
وهذه نسخة توقيع بها جميعاً، كتب لها لتاج الدين بن سعيد الدولة على إثر إسلامه، من إنشاء الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي، وهي: الحمد لله الذي خص من أخلص في الطاعة من آلائنا بحسن النظر، وأجنى من غرس في قلبه أصل الإيمان من عوارف أيامنا الزاهرة يانع الثمر، ورفع من استضاء في دولتنا القاهرة بأنوار الهدى من حجول الرتب إلى مكان الغرر، وأظهر لوامع السعادة من نعمنا على من أضاء له الرشد فرآه بعين البصيرة قبل البصر.
نحمده على إحسانه الذي عمر، وامتنانه الذي بهر، وفضله الذي عم كل من زظهر له الهدى فلم يعاض الحق إذا ظهر.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً هي أرفع مايقتنى وأنفع مايدخر، وأوضح مانجت له الفرقة الموحدة وهلكت به الفرق الأخر، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله أشرف البشر، وأرأف البدو والحضر، والمبعوث إلى الأمم كافة لما قضاه من سعادة من آمن وشقاوة من كفر، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الميامين الغرر، صلاةً دائمة الورد والصدر، باقية العين والأثر، وسلم تسليماً كثيرا.
وبعد، فإن أولى من خصه برنا بالنظر الحسن، وشمله كرمنا من الربت بما يهجر في بلوغ مثله الوسن، واشتمل عليه معروفنا بما يجعل يراعه في مصالح الدولة القاهرة جميل العبارة حسن اللسن، من سمت به نفسه إلى سعادة الآخرة فأتته سعادة الدنيا تابعة، وسلك في مراضي الدولة القاهرة طريق الإخلاص فغدت لكل خيرٍ حاوية ولكل يكممن جامعة؛ مع كفاءةٍ جاءت المناصب على قدر، ومعرفةٍ مالحظت المصالح بأقرب نظرٍ إلا نمت الأموال وبدرت البدر، وخبرةٍ مااعتبرت فيها محاسن سيرته في مباشرةٍ إلا صغر خبرها الخبر، ونزاهةٍ سلكت به في كل مايليه أحسن المسالك، وعفةٍ رفعته من الرتب الديوانية إلى غررها ولارتبة للتاج إلا ذلك.
ولما كان فلان هو الذي اجتنى من إحسان الدولة القاهرة بالطاعة أفضل الجنى، وفاز من عوارفها العميمة بجميل المخالصة مازاد على المنى، وانتمى من أدوات نفسه إلى كمال المعرفة والعفة وهما أفخر مايدخر للرتب الجليلة وأنفس مايقتنى، وعني من أسباب استحقاقه المناصب والرتب بما اقتضى إحسان الدولة القاهرة أن يحتفل بتقديمه وأن يعتنى- فلذلك رسم بالأمر الشريف أن يفوض إليه نظر الدواوين المعمورة ونظر الصحبة الشريفة.
فليباشر ذلك محلياً هذه الرتبة بعقود تصرفه الجميل، ومجلساً في هذه الحلبة بسبق معرفته التي لاتحتاج إلى دليل، ومبيناً من نتائج قلمه مايبرهن على أنه موضه الاختيار، ومن كوامن اطلاعه مالايحتاج إلى برهان إلا إذا احتاج إليه النهار؛ فلا يزال فرع يراعه في روض المصالح مثمراً، وليل نقسه في ليل الأعمال مقمراً، وحسن نظره إلى ماقرب ونأى من الصمالح محدقاً، ولسان قلمه لما دق وجل من أمور الأقاليم محققاً، ورسم خطه يستقر في الدواوين المعمورة مثبتاً، ووسم تحريره لما يجتنى من غروس المصالح منبتاً، ولدر أخلاف الأعمال بحسن الاطلاع محتلباً، ولوجوه الأموال، بإنفاق التوجه إلى تثميرها إن أقبلت مجتلياً وإن أعرضت مختلباً، فإن الأمور معادن يستثيرها التصرف الجميل، ومنابت ينميها النظر الجلي والإتقان الجليل؛ وملاك كل أم رتقوى الله تعالى فليجعلها إمامه، ويتخيلها في كل وقت أمامه، والله تعالى يوفقه بمنه وكرمه والخط الشريف أعلاه الله تعالى أعلاه.
الوظيفة الرابعة: نظر الصحبة:
وموضوعها أن صاحبها يتحدث مع الوزير في كل مايتحدث ويشاركه في الكتابة في كل مايكتب فيه ويوقع في كل مايكتب فيه للوزير.
وهذه نسخة توقيع بنظر الصحبة كتب به للشريف شهاب الدين نتاظر الصحبة، من غنشاء الشهاب محمود الحلبي، وهو: الحمد لله الذي جعل الشرف حيث حل ركابنا مصاحباً، وأطلع ببفضل في أفق خدمتنا من أولياء دولتنا شهاباً ثاقباً، وعدق النظر في صحبتنا بمن لم يزل لمصالحنا ملاحظاً ولأوامرنا مراقباً، وفوض أمور مباشرة حال من اجتهد أو قصر في خدمتنا إلى من لم يزل بنفسه في واجب الطاعة منافساً وعلى فرض الموالاة محاسباً.
نحمده حمد من أجمل في أوليائنا نظراً، وخص بالنظر في صحبتنا من اختبرت خدمته فتساوت في الطاعة والمناصحة سفراً وحضراً، واعتمد في ملاحظة مباشري مايمر عليه من ممالكه على من لايهمل له حقاً ولايحدث له ضرراً.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً لاتزال جيوشنا لإعلاء منارها مجهزة، وسرايانا إلى مقاتل جاحديها البارزة مبرزة، ووعود النصر على من ألحد فيها لنا معجلة وعلى أيدينا منجزة، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي أنهضنا الله منن جهاد أعداء دينه بما فرض، وأيقظنا لرفع أدقار أهل بيته فلم يقصر بأحد منهم في أيمنا أمل ولابعد عليه غرض، وخصنا منهم بمن تمسك بجوهره الأعلى فلم يتعرض من من هذا الأدنى إلى عرض، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين مامنهم إلا من يكاد يمسكه عرفان راحته، وإلا المؤثر طاعة الله ورسوله وأولي الأمر على راحته، صلاةً دائمة الاتصال، آمنة شمس خلودها من الغروب والزوال، وسلم تسليماً كثيرا.
وبعد، فإن أولى من اخترناه لصحبتنا الشريفة على علم، وأعددناه لمهماتنا الكريمة لما فيه من تسرع إدراك وتثبتٍ في حكم، وبسطنا له فيما عدقناه به من ذلك لساناً ويداً، وحفظنا به ال؛ وال من وصول مسترق السمع إليها {فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً} وادخرناه أقلامه لمصالح كل إقليم يمر ركابنا الشريف عليه، وفوضنا مناقشة مباشريه على ماأهملوه من حقوق الله تعالى وحقوق الرعايا إليه، وقمناه لتصفح ذلك بنفسه، وتلمح زيادة كل يوم ٍ على أمسه، وانتزاع الحق ممن مد يده إلى ظلم بكف كفه عنه ورفع يده، وارتجاع الواجب ممن أقدم عليه بالباطل في يومه واطرح المؤاخذة به في غده، وغير ذلك مما أحصاه الله ونسوه، واعتمدوا فيه على المصلحة فاجتنبوا ثمرة ما غرسوه- من كان له في المناصحة قدم صدقٍ عند ربه، وفي خدمة الدولة القاهرة قدم هجرة تقتضي مزيد قربه؛ فكان أبدأ بمرأى من عنايتنا ومسمع، ومن إحساننا بالمكان الذي ليس لأحدٍ من الأكفاء في بلوغ غايته أمل ولامطمع، وتفرد باجتماع الدين والمنصب والأصالة والعلم والكرم وهذه خلال الشرف أجمع.
ولما كان فلان هو الذي اجتنى من إحسان الدولة القاهرة بالطاعة أفضل الجنى، وفاز من عوارفها العميمة بجميل المخالصة مازاد على المنى، وانتمى من أدوات نفسه ونسبه إلى كمال المعرفة والعفة وهما أفخر مايدخر للرتب الجليلة وأنفس مايقتنى، وعني من أسباب استحقاقه المناصب والرتب بما اقتضى إحسان الدولة القاهرة أن يحتفل بتقديمه وأن يعتنى. فلذلك رسم بالأمر الشريف أن يفوض إليه نظر الصحبة الشريفة.
فليباشر ذلك محلياً هذه الرتبة بعقود تصرفه الجميل، ومجلياً في هذه الحلبة بسبق معرفته التي لاتحتاج إلى دليل، ومبيناً من نتائج قلمه مايبرهن على أنه موضع الاختيار، ومن كوامن اطلاعه مالايحتاج إلى برهان إلا إذا احتاج إليه النهار؛ فلا يزال فرع يراعه في روض المصالح مثمراً، وليل نقسه في ليل الأعمال مقمراً، وحسن نظره إلى ماقرب ونأى من المصالح محدقاً، ولسان قلمه لما دق وجل من أمور الأقاليم محققاً، ورسم خطه لما يستقرفي الدواوين المعمورة مثبتاً، ووسم تحريره لما يجتنى من غروس المصالح منبتاً، ولدر أخلاف الأعمال بحسن الاطلاع محتلباً، ولوجوه الأموال بإنفاق التوجه إلى تثميرها إن أقبلت مجتلياً وإن أعرضت مختلباً، فإن الأمور معادن يستثيرها التصرف الجميل، ومنابت ينميها النظر الجلي والاتقان الجليل؛ وملاك كل أمر تقوى الله تعالى فيجعلها إمامه، ويتخيلها في كل حال أمامه؛ والله تعالى يسدده ويوفقه يمنه وكرمه!؛ إن شاء الله تعالى.
قلت: وربما أضيف إلى نظر الصحبة نظر الدواوين الشريفة، وحينئذ فيحتاج الكاتب أن يأتي في براعة الاستهلال بما يقتضي الجمع بينهما، ويورد من الوصايا مايختص بكل منهما. والكاتب البليغ يتصرف في ذلك على وفق مايحدث له من المعاني ويسنح له من الألفاظ.
الدرجة الثانية: ما يكتب في قطع الثلث:
من تواقيع أرباب الوظائف الديوانية بالحضرة بالديار المصرية مايكتب في قطع الثلث: بالمجلس السامي بالياء، مفتتحاً بالحمد لله إن قصد تعظيم المكتوب له على ماهو الأكثر، أو بأما بعد حمد الله جريا على الأصل لما يكتب في قطع الثلث، على ما تقف عليه في النسخ وتشتمل على وظائف:
الوظيفة الأولى: كتابة الدست:
والمراد دست السلطنة. وقد تقدم الكلام عليها في مقدمة الكتاب في الكلام على ديوان الإنشاء، وتقدم في الكلام على ترتيب وظائف الديار المصرية أن موضوعها أن يجلس أصحابها بدار العدل أيام الكواكب خلف كاتب السر، ويقرأون القصص على السلطان بعد قراءة كاتب السر، ويكتبون عليها بما تقتضيه الحال، بعد إشارة السلطان بالكتابة؛ ثم يحمل ما يكتبون عليه من القصص إلى كاتب السر فيعينها. وأن هذه الوظيفة كانت من أجل الوظائف وارفعها قدراً، منحصرةً في عددٍ قليل نحو الثلاثة فما حولها، ثم وقع التساهل في أمرها، ودخل فيها العدد الكثير حتى جاوز العشرين، وبقيت الرياسة فيهم لعدد مخصوص منهم، وقنع الباقون بالاسم. وقد تقدم ذكر طرة توقيعه في الكلام على التواقيع.
وهذه نسخة توقيع بكتابة الدست، وهي: الحمد لله الذي فضل الكرام الكاتبين، وأحيا بفضائل اللآخرين الأولين الذاهبين، وأنزل في القصص {لا تخف نجوت من القوم الظالمين}.
نحمده وهو المحمود المعين، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة قومٍ مخلصين، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله خاتم النبيين، ورسول رب العالمين، والشافع من المذنبين من المؤمنين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاةً باقيةً إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد، فإن العدل الشريف دار جدرانها الأمر المطاع، وأبوابها الخير الذي لايضاع، وسقفها الرحمة والاتضاع، وصدرها الإحسان المديد الباع، وصحنها الأمن والسرور فلا يخاف أحد فيه ولايراع، وجلساؤها الكابتون عارضو الرقاع؛ وهم معدن الصدارة، وموطن الكتابة والكناية والإشارة، وأقلامهم تأتي بحسن التشبيه والاستعارة، وتطرز حواشي الرقاع بوشيٍ بادي الإنارة؛ مااختير أحدهم للجلوس في دسته إلاوقد أرضى من اختاره، وتميز بحسن السمت والوفاء والوقار والشارة.
ولما كان فلان هو الذي له في السؤدد أصل عريق، وفي الفضائل له قلم مطيق، وفي البلاغة له لسان منطيق، وإذا دبج قرطايه فهو للروض شقيق، ونباته الجوهر لا الآس والشقيق، وأصبح للجلوس في الدست الشريف أهلاً على التحقيق.
فلذلك رسم أن يستقر في كتابة الدست.. إلخ فليحل هذا الدست الشريف مبهجاً ببيانه، مثلجاً بنور يده ولسانه، قارئاً من قصص الناس وظلاماتهم في إيوانه كل شيءٍ في أوانه، لايكتم ظلامةً مكتوبة في وقعه، بل يعرف ملكه بها ويبلغها سمعه، فإنه في هذا المحل أمين والأمين محل النصح والخير والرفعة؛ وإذا وقع فهو مأمور، فليأت بما يبهج الصدور، ويشفي غليل الشاكي، بلفظه الزاكي، والوصايا كثيرة لكن سنلمك ببعضها الحاكي وهو تقوى الله فهي تاجها المجوهر، وبدرها المنور، وكوكبها الأزهر، والله تعالى يمتعه بالفضل الذي لايحول ولايتغير؛ بمنه وكرمه! إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة توقيع من ذلك أيضاً، وهي: الحمد لله الذي أفاض على الأولياء من فضله، وأهمى عليهم من مواهبه مايقصر عنه الغمام في وبله وطله، ومنح دست الملك الشريف من الألفاظ المجيدة، والفضائل المفيدة.
نحمده على نعمه التي أجزلت إحسانها، وأجملت امتنانها، وبزغت مزهرةً فقدمت من الدولة أعيانها، ونشكره على عوارفه التي ألقي لأهل الثناء عننها، ورحب لذوي البيوت صدرها وفض عنوانها.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تشهد القلوب إيمانها ويدخر القائل لها ليوم المخاف أمانها، ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله الذي أظهر الله به الشريعة المطهرة وأبانها، وشرف به هذه الأمة ورفع على جميع الأمم شانه، وبعثه رحمةً إلى كافة الخلق فأقام بمعجزاته دليل الهداية وبرهانها، وأطفأ بنور إرشاده شرر الضلالة ونيرانها، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين مامنهم إلا من نزه نفسه النفيسة وصانها، وسلك في خدكته وصحبته الطريقة المثلى فأحسن إسراره أموره وإعلانها، صلاةً دائمةً باقيةً تجمل بالأجور اقترانها، وسلم تسليماً كثيرا.
وبعد، فإنه لما كانت وظيفة توقيع الدست الشريف من أجل الوظائف وأسناها، وأنفسها وأعلاها، وأجملها وأبهاها؛ القائم بها سفير الرعية إلى الملك في حاجتهم، وترجمان معرب عن شكايتهم، وكاشف أحسن ناشر عن ظلامتهم، جالس على بساط الأنس بقرب الحضرة، منفذ نهي مليكه وأمره، مبلغ ذا الحاجة من إنعامه جوده وبره- تعين أن يندب رئيس وابن رئيس، وجوهر بحرٍ نفيس، ذو أصل في السؤدد عريق، ولسانٍ في الفضائل طليق، وقلم حلي الفاضل على التحقيق؛ وكان المقر العالي الفلاني هو المشار إليه بهذه الأولوية، والمراد من سطور هذه المحامد اللؤلؤية؛ فلذلك رسم بالأمر العالي أن يستقر المشار إليه في وظسفة توقيع الدست الشريف عوضاً عن فلان بحكم وفاته.
فليباشر ذلك مباشرة تشكر مدى الزمان، وتحمد في كل وقتٍ وأوان، وليدبج المهارق بوشي يفوق قلائد العقياىن، وليملأ بالأجور لنا صحفاً بما يوحيه عنا من خيراتٍ حسان، ونحن فلا نطيل له الوصايا، ولانحليه بها فهي له سجايا؛ مع ماأدبه به علمه الجم، وعمله الذي ماانصرف إلى شيء إلا تم، ويجمعها تقوى الله تعالى وهي عقد ضميره، وملاك أموره؛ ومابرح هو وبيته الكريم مصابيح أفقها ومفاتيح مغلقها، ولهم حدد ملابسها وللناس فواضل مخلقها؛ والله تعالى يزيده من إحسانه الجزيل، ونعمه التي يرتدي منها كل رداءٍ جميل، ويمتعه بإمارته التي ماشكر بها إلا قال أدباً: حسبنا الله ونعم الوكيل؛ والاعتماد في مسعاه، على الخط الكريم.
الوظيفة الثانية: نظر الخزانة الكبرى:
وقد تقدم في الكلام على ترتيب وظائف الديار المصرية أن هذه الوظيفة كانت كبيرة الموضع من حيث إنها مستودع أموال المملك، إلى أن حدثت عليها خزانة الخاص فانحطت رتبتها حينئذ، وسميت الخزانة الكبرى باسمٍ هو أعلى منها، وأنه لم يبق فيها سوى خلع تخلع وتصرف أولاً فأولاً. وقد تقدم مايكتب في طرة توفيع ناظرها.
وهذه نسخة توقيع بنظر الخزانة: الحمد لله الذي جعل الخزائن لذخائرنا كهوفاً، وملابس إقبالنا سنوفاً ومواهبنا تجزل عطاءً ومعروفاً، وإقبالنا على محسن التدبير ومجمل التأثير عطوفاً، وأيدينا في إسكان جنتها قطوفاً.
نحمده حمداً مألوفاً، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً أوضحت معروفاً، ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله الذي أزال مخوفاً، وأقام الصلاة والجهاد صفوفاً، وشهر على العدا عند تأييد الهدى سيوفاً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ماسدل الليل سجوفاً، وسلم تسليماً.
وبعد، فإن الملك الشريف له تحف مصونة، وذخائر مكنونة، وأصناف حسان في خزائننا مخزونة، وجواهر عالية القيمة ثمينة لايقوم عليها إلامن لايمد عين عفافه إلى المال وإن كثرت آلافه، وولج لجة هذه الذخائر ولم تلم بالبلل أطرافه؛ وهو فلان: العريق في انتسابه، الوثيق انتماؤه إلى فضل الله وجنابه؛ النقي ثوب عرضه، التقي بتمسكه بسنته وفرضه، الوفي نظره بغضه، المستمسك بجمبع الخير دون بعضه، من بيت السيادة ومن هو من بيت السيادة فالسؤدد نجم سمائه وطود أرضه. فللك رسم بالأمر الشريف أن يستقر.......
فليباشر هذه الوظيفة بعمل ونية، متسلماً ذخائر هذا الخزانة العلية، وأمورها وأحوالها، وتفصيلها وإجمالها، وحمولها وأحمالها وحللها المرقومة، وذخائرها المعلومة، وجواهرها المنظومة، وأكياسها المختومة، وصناديقها المركومة، ماعن علمه فيها شيء خاف، وصونه لها كاف، وأمر الله بين النون والكاف.
وليعلم أن خزائننا تصب فيها سحائب التحف والأموال والأصناف، من سائر الممالك والمدن والثغور والأطراف، ومنها يخرج بجهاز مواهبنا وإنعامنا للأولياء الأشراف، وإنما هي لمصالح المسمين في الجمع والائتلاف، وتقوية أهل الطاعة على أهل الاختلاف؛ فليضبط ماتطلقه وإن كانت الأقلام لا تستطيع ذلك لكثرة الإسعاف، ولتكن التشاريف المثمنة الكاملة، حاصلة بمناطقها المجوهرة الهائلة، وطرزها الطائلة، وتعابيها الفاضلة، حتى إذا أنعمنا منها على أحدٍ بشيءٍ يأيت بحموله وقد حمد فاعله. والوصاياكثيرة وتقوى الله نظام عقدها، وغمام رفدها، وزمام مجدها، وتمام سعدها؛ فليكن متلفعاً ببردها، متضوعاً بندها، وهو غني عن الوصايا ومدها، والله تعالى يؤيد حركاته في قصدها؛ والخط الشريف أعلاه، حجة بمقتضاه، إن شاء الله تعالى.
وهذه وصية لناظر الخزانة، أوردها في التعريف وليملأ بنظره صدور الخزائن، وليجمع فيها أشتات المحاسن، وليعد فيها كل مايدخر للإنفاق، ويحتفظ به للإطلاق، ويحصل مايضاهي البحر بالتفريع والتأصيل، والجمل والتفاصيل، ومالايوزن إلا بالقناطير، ولايحصي منه ملء الأساطير، ومايهيأ من التشارف الشريفة التي تباهي أشعة الشموس بلمعها، وتحاسن وشائع الروض بخلعها، ومافيها من مخلقات ألوانٍ لاتماثل بتصوير، ولايظنها الأولياء إلا الجنة ولباسهم فيها حرير، وماتحتوي عليه من عتابي وأطلس، ومشربش ومقندس؛ وكل طراز مذهب وباهي، وماهومن ذهب أو له يضاهي، وكل مايتشرف به صاحب سيف وقلم، ويعطى إنعاماً أو عند أول استخدام في خدم، وماهو مع هذا من أنواع المستعملات، والنواقص والمكملات، ومايحمل من دار الطراز، ويحمد مما يأتي من المبتاع من بز وبزاز، وماهو مرصد للخزانة العالية من الجهات، التي يحمل إليها متحصلها لينفق في أثمان المبيعات، ومايستعمل، ومايعلم منه بالطرز ويعمل، وبقية ما يدخر في حواصلها من مال بيت المال الذي يحمل؛ وذلك كله فهو الناظر عليه، والمناظر عنه مما خرج من عنده ووصل إليه، والمحاجج عنه بالمراسيم التي تشك للحفظ وتنزل لديه؛ فليراع ذلك جميعه حق المراعاة، وليحرر قدر ماينفق من الأثمان وقيمة المبيعات، ولحترز فيما يزكي بعضه بعضاً من شهادة الرسائل المكتتبة إليه بالحمول ومايكتب بهامن الرجعات، وليعر المعاملين من نظره مالايجدون معه سبيلاً، ولايقدرون معه على أن يأخذوا فوق قدر استحقاقهم كثيراً ولاقليلاً، وليقدم تحصيل كل شيءٍ قبل الاحتياج إليه وويدعه لوقته، ولايمثل لديه إلا سرعة الطلب الذي متى تأخر أخر لوقته؛ والأمانة الأمانة والعفاف العفاف فما كان منهما واحد رداء امريءٍ إلا زانه، ولولاهما لما قال له الملك إنك اليوم لدينا مكين أمين وسلم إليه الخزانة.
الوظيفة الثالثة: نظر خزانة الخاص:
وهي الخزانة التي استحدثت في الدولة الناصرية 0 محمد بن قلاوون9 عند استحداث وظيفة نظر الخاص وقد انتقل ماكان يحمل إلى الخزانة الكبرى ويصرف منها إلى هذه الخزانة، سوى الخلع، كما تقدمت الإشارة إليه في الكلام على توقيع ناظر الخزانة الكبرى.
وهذه نسخة توقيع بنظر خزانة الخاص، كتب به للقاضي شرف الدين محمد بن علاء الدين الجوجري، في مستهل شهر رجب الفرد، سنة تسع وثلاثين وسبعمائة، وهي: الحمد لله الذي زاد بنظرنا الشريف شرف من لمحه من أوليائنا ولحظه، وأفاد المستأنف من برنا من عهدنا له الفطره السليمة وتيقنا منه الفكرة واليقظة، وأعاد للخلف الكريم، وجعلهم على خزائن جودنا العميم: لأنهم العلماء الحفظة، وجاد بالطرف من خاص إنعامنا لمن لقلمه عند الإدناء من سرير الملك إنجاز عدة وللسانه عند ارتقاء منبر النسك إبراز عظة.
نحمده على أن أجزل لمن عول على شامل كرمنا جزاءه وعوضه، ونشكره على أن تطول بنوافل نعمنا لمن قام بعد أبيه بلوزام خدمتنا المفترضة، وعكف أعمالنا على بيتٍ مبارك ٍ مامنهم إلا من شمل من إحساننا بالمنح لما بذل لسلطاننا من النصح ومحضه.
ونشهد أن لا إله إلا وحده لا شريك له شهادة يودع مصونها في الآرائك المتعلية ويقصطع الشكوك المعترضة، ونشهد أن سيدنا محمداً عبده وروسوله الذي عظمت عطايا بذله، فالبحار المرتفعة عنها منخفضة، وكرمت سجايا فضله، فليست بمنتقلة وأبرمت قضايا عدله، فليست بمنتضة، وعمت البرايا يده البيضاء التي هي بالأرزاق في الآفاق منبسطة وليست عن الإنفاق خشية الإملاق منقبضة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبة الذين مامنهم إلا من اقرض الله قرضاً حسناً فضاعف له ماأقرضه، صلاة تدني لقائلها في الأولى من النعمة والأمان أمله وتؤتيه في الأخرى من الرحمة والرضوان غرضه، وسلمه تسليماً كثيرا.
وبعد، فإن أولى من رفع بإكرامنا إلى رتبة علائه، واتفع من مقامنا الشريف باختصاص خدمته وإخلاص ولائه- من شفع مزاياه بجمع أشتات العلوم في أبكاره وآنائه، واستودع ذخائر ملكنا المصونة فكان حفيظاً عليماً عند اقترابه منا وإدنائه، وصدع القلوب بإيداع وعظه وإبدائه، واتبع سبيل والده القويم في الشدة في الحق والتصميم، وسلك طريقته التي هداه الله إليها بتوفيقه فأدرك غايته في ابتدائه، وقنع بما آتاه الله تعالى فآثرت مكارمنا رفعة محله وتوسعة حبائه، وبرع في إتقان الفضائل التي آذنت بإصطفائه واجتبائه، ووقع عليه اختيارنا الذي نستخير الله تعالى له في إبرام كل أمرٍ وإمضئه، وأجمع عليه رأينا الذي كم أصاب الصواب في تعيين العلماء الأنجاب فنص عليه الاستحقاق بإيجاب الترجيح واقتضائه.
وكان المجلس السامي الشرفي هو الذي قدمناه بعد أبيه لشهادة خزائننا الشريفة فشاهدنا من حسن سيره ماأبهج، ونظمناه في سلك أولياء الملك فسلك من الخير أقوم منهج، ثم أردنا الآن أن هلاله ينتقل إلى رتبة الكمال لما تدرب وتدرج، وأعدنا له تام الإقبال حيث شرف دولتنا الأعلى- زاد الله تعالى تأييده- بذكره لدينا وبشكره عندنا يلهج- فاقتضى حسن الرأي الشريف أن هذا النظر الجميل عنه لايخرج، وهذا الوقر الجليل لايعدل به عن فرعٍ منجب لأصل طيب أثمر الولاء والدعاء لأيامنا الشريفة وأنتج.
فلذلك رسم بالأمر الشريف..... إلخ لازالت الصدور بصدور أحكامه تثلج، والأمور بمرور إنعامه تفضل على الحق الأبلج- أن يستقر في نظر حزانة خاصنا.. إلخ فلينطلق لسان كلمه بالإخلاص في حمد الخاص والعام من هذا الإكرام الذي بمطارفه تسربل وبعوارفه تتوج، وليطلق سنان قلممه في تبييض المصاحف بذكر إنعام المقام الذي هو كالبحر ويفصح عن حمده فهو بحم الله لايتلجلج، وليحقق ببيان حمكمه ضبط الأصل والخصم والواصل والحاصل والمحضر والمخرج، ولينفق في أوليائنا من عوائد صلات نعمائنا التي تقبضها أيدي ملوك المدائن ببسطٍ ومن بعضها صدور الخزائن تحرج، وليسلك سنن أبيه التي بها يستظهر ويفتخر ويستدل ويحتج، ويستمسك بسببه الأقوى من الديانة التي بابها من النجاة في الدارين غير مرتج؛ ونترك له تفصيل الوصايا لأنه قرين كفيل ملكنا القوي الأمين ذي الإرشاد والسداد فمع مرافقته في الإصدار والإيراد والتكرار والتعداد لم يحتج، والله تعالى يجعل الطروس بذكر تقديمه تحبر وتديج، الدروس تنشر وعلومه تعطر وتتأرج، بمنه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
الوظيفة الرابعة: نظر البيوت والحاشية:
وقد تقدم أن موضوعها التحدث في كل مايتحدث فيه أستاد الدار، وتقدم الكلام على مايكتب في طرة تقليد ناظرها.
وهذه نسخة توقيع بنظر البيوت والحاشية: الحمد لله الذي عمر البيوت بنواله، وكثر فيها أصناف النعم بإفضاله، وجعل فيها الخير يتضاعف مع كل يوم بتجدده ومع كل شهرٍ بإقباله.
نحمده على مديد ظلاله، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة عبدٍ صادق في مقاله، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي رحم الله العالمين بإرساله، وسقى الجيش من كفه بنبع زلاله، وأوى إلى المدينة دار هجرته وانتقاله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الناصرين لهذا الدين في كل حاله، وسلم تسليماً.
وبعد، فإن طراز الملك الشريف البيوت الكريمة: فمنها يتفجر ينبوع الرزق الجاري، ومنها يضيء سقط الزند الواري؛ ومنها تبسط الخوانات، وتمد الأسمطة في المهمات؛ ومنها يقوم للسعد نصبات وأي نصبات، ومنها تقسم ألوان الطيبات على مقترح الشهوات، وعماد أمرها على ناظر يقوم بتأصيلها وتفريعها، وتجنيسها وتنويعها، وتكثير حاصلها، واستدعاء واصلها، وجمع كل مافيه مرغوب، وادخار كل ماهو محبوب، وتأليف القلوب على شكره وجل مافيها عمل القلوب.
ولما كان فلان هو الرشيد في فعله، المأمون في فضله، الأمين في عقده وحله، المسدد في الحالكله، المعطي المباشرة حقها على ماينبغي في الشهر من مستهله، فلذلك رسم بالأمر الشريف أن يستقرفي نظر البيوت.. إلخ. فليباشر هذه الوظيفة الكريمة مستجلياً المنافع، مشنفاً بحسن سيرته المسامع، طالعاً من العفاف في أبهى المطالع، مستدعياً ماجرت العادة باستدعائه من أصناف المتجر السعيد من أصنافٍ متعددة، ونواع منضدة، وليزح أعذار المصالح السعيدة من كل صنف على حدة، وليستجلب خواطر المعاملين بوفائهم وإنجازهم كل عدة؛ واللرواتب اليومية ليصرفها لمستحقها، والبيوتات فليسد خللها حتى لايظهر نقص فيها، ومرتبات الآدر الشريفة فلتكن نصب عينيه على مايرضيها؛ ومااخترناه لهذه الوظيفة إلا لأنه أنسب من يليها. والوصايا كثيرة وتقوى الله فلتكن أطيب ثمراتٍ يجتنيها، وأحسن منحاتٍ يجتليها، وأزين زينةٍ يحتليها، وهو غني عما تشافهه به الأقلام من فيها؛ والله تعالى يصون هممه ويعليها، بمنه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة توقيع بنظر البيوت: الحمد لله الذي جدد لأوليائنا ملابس السعود، وشيد لهم مباني العز وزضاعف لقدرهم الترقي والصعود، ووالى إليهم سحائب الفضل المستهلة بالكرم والجود.
نحمده على نعمه الضافية البرود، ومننه الصافية الورود، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله صاحب الحوض المورود واللواء المعقود، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين جاد كل منهم بماله ونفسه في رضاه والجود بالنفيسين أقصى غاية الجود، صلاةً دائمة الإقامة في التهائم والنجود، مستمرة الإدامة ماتعاقب السحاب ورضاً بجود، وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد، فإن أولى من غدت البيوت آهلة بوفود نظره، عامرةً بسداده وجميل فكره، مشيدةً بما يبديه من أوضاح التقرير وغرره- من سما همةً وحسن سمتاً، وسلك في الأمانة طريقاً لاعوج فيها ولاأمتاً، وحل في الرتب فخلاها، وتنقل فيها فما قالت له إيه وقال الذي فارقها آها؛ وكان فلان هو الذي استحق بكفايته حسن التنقل، واستوجب الصلة والعائد لما فيه من جميل التأتي والتوصل- اقتضى حسن الرأي الشريف أن ننقله إلى رتب السعادة، وأن نخصه كل حينٍ من نعمنا بالحسنى وزيادة، فلذلك رسم بالأمر الشريف أن يستقر...
فليضبط أصولها وفروعها، ومفردها ومجموعها، وليونس بحياطة اجتهاده ربوعها، وليكفلها بأمانةٍ تضم أطرافها، ونزاهةٍ تحلي أعطافها، وكتابةٍ تحصر حليلها ودقيقها، ونباهةٍ توفي شروطها وحقوقها، وليحرر وارها ومصروفها، ليغدو مشكور الهمم موصوفها، وليلاحظ جرائد حسابها، ويحفظ من الزيغ قلم كتابها، حتى ينمي تصرفه على الأوائل، ويشكر تعرفه وتعطفه على كل عامل ومعامل؛ والله تعالى يبلغه من الخير ماهو آمل، بمنه وكرمه، إنشاء الله تعالى.
الوظيفة الخامسة: نظر خزائن السلاح:
وقد تقدم أن موضوعها التحدث فيما يستعمل ويبتاع من أنواع السلاح الذي يحمل للزردخاناه السلطانية. وقد جرت العادة أن يحمل مايتحصل من ذلك في كل سنةٍ إلى الزردخاناه مرةً واحدة. وقد تقدم مايكتب في طرة توقيع ناظرها.
وهذه نسخة توقيع بنظر السلاح من إنشاء المولىشمس الدين بن القيسراني كتب به لفخر الدين أخي جمال الدين ناظر الخاص، وهي: أما بعد حمد الله تعالى الذي ضاعف فخر المناصب، بمتوليها، ورفع قدر المراتب، بمن يكبرها بقدره العلي ويعليها، وأمد المقانب، بنظر ذي المناقب الذي يزين بمرهف حزمه أسلحتهم ويحليها، ويمضي بماضي عزمه كل فرند فريدٍ ليسعر نار صليله بنظره السعيد ويجلبها، جاعل أيامنا الشريفة تقدم لخدحها كل سري تسري به هممه إلى العلياء، وتنتخب لحسن نظرها من يعلو بكرم الذات وجمال الإخاء، وتولي من الأولياء من يعد للإعداء خزائن سلاح تبيدهم بها جسوشنا المؤيدة في فيافي البيداء، إذا دارت رحى الحرب الزبون وثارت وغى الغارة الشعواء، والشهادة له بالوحدانية التي اتسق بدرها، في سماء الإخلاص، وأشرق فجرها، بضياء القرب والاختصاص، وسما فخرها، بجلال الحمال فأصبح بحمد الله آخذاً في المزيد آمناً من الانتقاص، وعلا ذكرها، بما درعنا به مندروع التوحيد وأسبغ علينا منه كل سابغةٍ دلاس، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ٍ الذي خصه الله بالتكريم والتعظيم، وختم به الرسل الكرام بما منحه من الاصطفاء والتقديم، وأوحى إليه في الكتاب الحكيم: {أن اتبع ملة إبراهيم} وعلى آله وصحبه الذين هم {أشداء على الكفار رحماء بينهم}، وقرب قربهم لديه صلى الله عليه وأذهب بينهم- فإن من شيم أيامنا الشريفة أن تبلغ أولياءها مراماً، وترعى لأصفيائها ذماماً، وتصطفي لولاية الرتب من أضحى ثغر ولائه بساماً، وتجرد لحسن النظر من يجرد بهممه حساماً حساماً، لاسيما من اقتفى سنن أخيه- أجله الله- فيما يأتي ويذر، واهتدى بهديه في كل ورد وصدر، وحذا حذوه السديد الأثر، السعيد النظر، واتبع رشده الساطع البلج اللامع الغرر، وسار سيره الذي تتأرج به أرجاء الممالك فحيث سار سر؛ إذ هو جمال الجود، جلال الوجود، مقيل عثار الملهوف والمجهود، موئل التهائم والنجود، مستجلب الدعاء لنا من الطائفين والعاكفين والركع والسجود، ذو المآثر التي ذكرها أعطر من الروض المجود الموجود، والمناقب التي يساوي فيها الكواكب ويسامتها في السعود والصعود.
ولما كان المجلس العالي الفخري قد أصبح فخره بأخوته نامياً، وقدره بأبوته سامياً، وأصبحت مفاخره به خالدة، وجمع مزايا وسجايا جمعت له طارف السعد وتالده- اقتضى رأينا الشريف أن أن نشدد به أزراً، ونجدد له في إصلاح السلاح نظراً، ليكون لأخيه- أعزه الله تعالى- النظر على الخاص والعام، وبيده مقاليد خزانتنا التي يشمل منها البرايا بصنوف الإنعام، وتدبير خواصنا الشريفة وجيوشنا المؤيدة، وله النظر على أعمال لبوس، تقي من الجيوش البوس: البيضذات القوانس، واليلب المدار والسمر المداعس، والبيض المهندة.
فلذلك رسم................ لازال يجمع لأوليائه على آلائه شملاً، ويرفع أقدار أهل الكرم باستقرار النعم إذ كانوا لها أهلاً وبها أولى- أن يستقر فلان في نظر خزائن السلاح المنصورة على عادة من تقدمه وقاعدته، وبمعلومه الشاهد به الديوان المعمور لهذه المآثر التي بثها القلم، والمفاخر التي اشتهرت كالنار على العلم؛ فليكشف مابهذه الخزائن من عدة الحرب، والآلات المعدة في الهيجاء للطعن والضرب، ويشمرفي تكثيرها عن ساعد اجتهاده، ويعزز مواد الإمداد بها بحسن نظره ويمن اعتماده، ويستعمل برسمك جهاد الأعداء كل نصلٍ صقيل، وصمصامٍ له في الهام صليل، وصفيحةٍ بيضاء تبيض بها بين أيدينا الصحيفة، وليوسٍ ترهب عدو الله وتضاعف تخويفه، وزاعبي يرعب، وسمهري يزهق بلسان سنانه النفوس ويذهب؛ وخرصانٍ تكلم الأبطال بأسل ألسنتها في الحروب، وقواصل لها في سماء العجاج شروق وفيتحليء الكفار غروب، وبدنٍ يقد الأبدان، ولأمةٍ لم تبار في تحصينها وتخييرها ولم تدان، وفضفاضةٍ على جنود الإسلام تفاض، وسابغةٍ تسبغ على كل واجل من أهل الإيمان ليقضي من أهل الشرك ماهو قاض.
وليحفظ ماينفق على هذا العدد من الضياع، ويأت بما تأتي به الضياع على أحسن الوجوه وأجمل الأوضاع، وليضبط مايصرف عليها من الأموال، ويعتمد في نظرها ماتحمد عاقبة أمره في سائر الأحوال، ويتيمن في سائر أفعاله بميامن كماله، ويسترشد بمراشده في أموره باليمن والرشد من خلال جماله، وبسلك بحسن نظره لهذه الخزائن ماينتظر به أن يفوق أنظار الأنظار ويرتقب، ويعلم أن هذا أول إقبالنا عليه وأول الغيث قطر ثم ينسكب؛ والله تعالى يجعل خزائن الإسلام بجمال فخره آهلة، ويوردها موارد العز الدائم ويصفي من أكدار الأقذار لها مناهله؛ والعلامة الشريفة أعلاه، حجة بمقتضاه.
الوظيفة السادسة: استيفاء الصحبة:
وصاحبها يتحدث في كل مايتحدث فيه ناظر الصحبة المقدم ذكره. وهذه نسخة توقيع من ذلك، من إنشاء القاضي ناصر الدين بن النشائي وهي: الحمد لله الذي زاد فخار أوليائنا رفعة المقدار، أفاد الصحبة الشريفة خير كافٍ استوجب منا بجميل خدمته جزيل الإيثار، وجاد بالجود وابتدأ السعود لمن حسن فيه الاختيار وحمد الاختبار، وارتاد للمناصب العلية كل مستوفٍ للمحاسن له حقوق وفاءٍ لاتضاع وقدم ولاء أجمل فيه الإيراد والإصدار.
نحمده على نعمٍ أجزلت الآثار، ونشكره على منن أجملت المسار، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة مخلص يترشف ساح ثوابها الدار في تلك الدار، ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله الذي أيد الله به المؤمنين وأخمد نار الكفار، وبعثه رحمةً للعالمين فأقام بناء الإسلام بعد ماكاد ينهار، وأسرى به إلى السبع الطباق فطبق نبأ معجزاته الأرض وملأ الأقطار، صلاةً باقيةً لاتزال أغصان أجورها دانية القطوف زاكية الثمار، وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد، فإن أجل النعم ماعلت ملابسها، وأجمل المنن ماغلت نفائسها، وأكمل المنح ما زكت في رياض الإقبال غرائسها، وأجزل العطايا ماجليت في حلل الفخار عرائسها، وأولى الأولياء بتحويل ذلك لديه، وتخويل هذه المولهب إليه، وإسباغ أثواب الامتنان عليه، واجتبائه لرتب عليت محلاً، واختياره لمنصب يصبح به جيده من عقود العناية محلى- من شكرت أوصافه، واشتهر عفافه، وحسن منا إسعاده وإسعافه، وحمدت خلالله ومآثره، وجاز فخر نعته وفخر ذاته فلا غرو أن تعددت مفاخره، وأسلفنا من خدمته مااستوجب أن يجني به ثمار الإحسان، وقدم بين أيدينا الشريفة من يمن تصرفه ماأنتج له مضاعفة الآلاء الحسان.
ولما كان فلان هو الذي تحلى من هذه الأوصاف بعقودها، وتجلى في مطارف برودها، وأثنت على خصاله ألسنة الأقلام، وأثبتت جميل خلاله في صحف أوراقها وصحائف الأيام، وحاز من الأمانة والنزاهة كل مايشكر به على الدوام، وامتاز لحسن الكتابة التي تقر النواظر وتسر الخواطر وتزري بالروض البسام، ماباشر رتبةً إلا وفى بها، وحفظ أموالها وغلالها وضبط أمورها وكفى بها- اقتضى رأينا الشريف أن ننقله إلى درجات السعادة، ونمنحه من إقبالنا الشريف زيادة الحسنى وحسن الزيادة، ونخصه بوظيفةٍ تدنيه نما قرباً لنكون قد أجملنا له الابتداء والإعادة.
ولذلك رسم بالأمر الشريف- لازال فخر أوليائه آلائه سامياً، وقدر أصفيائه بمديد عطائه نامياً- أن يستقر في كذا.
فليتلق هذا الإحسان، بيد الاستحقاق، وليتقلد عقود الامتنان، الذي كطالمتا قلد جود الأعناق، وليباشر ذلك مباشرة يسر خبرها، ويسير خبرها، ويشنف الأسماع تأثيرها وأثرها، وليسلك فيها من السداد، مايؤكد حمده، ومن حسن الاعتماد، مايؤيد سعده، وليعتمد فيها من الأمانة ماهو المشهور من اعتماده، ومن العفاف ماصح عنه نقل إسناده، وليدبج المراسيم الشريفة بقلمه السعيد، وليوشها بكتابته التي بها السحن مبديء ومعيد، وليضبط جميع أموال الديوان المعمور وغلاله، وسائر أمواله وأحواله، وليستوف بقلمه على مباشريه وعماله، وليحط علماً بخراج بلاده وأعماله، وليسترفع الحساب شاماً ومصراً، وليتصفح الرقاع بالممالك الشريفة المحروسة ليحوي بجميعها خبراً، وليتعين جملها وتفصيلها ليكون بمخرجها أدرب وبمردودها أدرى، وليحصر متحصلها ومصروفها، ومعجلها وموقوفها، حتى لايخرج شيء عن علمه، ولتكن جملة هذا الأمر محررة في ذهنه ليجيب عنها عند السؤال بتحقق قهمه؛ والوصايا كثيرة وهوبها خبير عليم، حائز منها أوفى وأوفر تقسيم، وملاكها تقوى الله تعالى فليجعلها عمدته، وليتخذها في كل الأمور ذخيرته؛ والله تعالى يضاعف له من لدنا إحساناً، ويرفهع له قدراً وشأناً؛ والاعتماد على الخط أعلاه.
وهذه وصية لمستوفي الصحبة أوردها في التعريف وهي: فهو المهيمن على الأقلام، والمؤمن على مصر والشام، والمؤمل لما يكتب بخطه في كل ترتيبٍ وإنعام، والملازم لصحبة سلطانه في كل سفر ومقام؛ وهو مستوفي الصحبة، والمستولي بالهمم على كل رتبة، والمعول على تحريره، والمعمول بتقريره، والمرجوع في كل الأمور إلى تقديره؛ به يتحرر كل كشف، ويكف كل كف، وبتنزيله وإلا مايكمل استخدام ولاصرف؛ وهو المتصفح عنا لكل حساب، والمتطلع لكل ماحضر وغاب، والمناقض لأقلام الكتاب، والمحقق الذي إذا قال قال الذي عنده علم من الكتاب، والمظهر للخبايا، والمطلع للخفايا، والمتفق على صحة ماعنده إذا حصل الخلاف، ووصل الأمر فيه إلى التلاف، وليلزم الكتاب بما يلزمهم من الأعمال، ويحررها بمستقر إطلاقه وضرائب رؤوس المال، وعمل المكلفات وأن يكلفوا عملها، وتقدير المساحات وليتتبع خللها؛ وليلزمهم بتمييز قيمها بعض عن بعض، وتفاوت مابين تسجيل الفدن في كل بلد بحسب ماتصلح له زراعة كل أرض، وبمستجد الجرائد ومايقابل عليه ديوان الإقطاع والأحباس، وغير ذلك مما لايحصل فيه التباس.
ومثلك ريزود بالتعليم، ولاينازع فكل شيء يؤخذ منه بالتسليم؛ وماثم مايوصى به رب وظيفةٍ إلا وعنده ينزل علمه، وفيه ينزه فهمه؛ وملاك الكل تقوى الله والأمانة فهما الجنتان الواقيتان، والجنتان الباقيتان؛ وقد عرف منهما بما يفاض منه عليه أسبغ جلباب، وأسبل سترٍ يصان به هو ومن يتخذهم من معنين ونواب؛ والله تعالى يبلغه من الربت أقصاها، ويجري قلمه الذي لايدع في مال ممالكنا الشريفة صغيرةً ولاكبيرةً إلا أحصاها.
الدرجة الثالثة: ما يكتب في قطع العادة:
من تواقيع أرباب الوظائف الديوانية بالديار المصرية مايكتب في قطع العادة: إما في المنصوري، مفتتحاً بأما بعد حمد الله أو على قدر المكتوب له في القطع الصغير، مفتتحاً برسم بالأمر الشريف إن انحط قدره على ذلك وفيها وظائف: منها: كتابة الدرج بديوان الإنشاء بالأبواب الشريفة.
وهذه نسخة توقيع بكتابة الدرج الشريف، كتب له للقاضي تاج الدين، عبد الرحيم بن الصاحب فخر الدين بن أبي شاكر، وهي:
رسم بالأمر الشريف- لازالت صدقاته الشريفة تشمل نجباء الأبنا، وميراته الجسيمة تجزل للولد البار حسن الزيادة وزيادة الحسنى، وهباته الكريمة تقبل بوجه الإحسان على فرع الأصل الأسمى وترصع تاجه بجوهر فخره الأسنى، وسماته الوسيمة بجمل شد أزر الوزارة الفخمة بأكفأ نجل ثنى الزمان عنان الرياسة إليه وعليه أثنى- أن يستقر فلان في كذا وكذا: لأنه ربي في حجر الرياسة، واجتنى من الروض المجد الذي أعلى السعد غراسه، ونشأ من محل السؤدد والفخار، وبزغ من بيتٍ حقت له رفعة الأقدار، وبسق غصن فرعه من أصلٍ ثابت، وسما بدوح عز في مواطن المعالي نابت، وهمى ندى قلمه بانتسابه إلى سراة الكتاب فناهيك من كاتبٍ لأبي الخلل كابت؛ تعترف الدولة لسلفه لسالف العهود، وتغترف من منهل تدبيرهم المورود، وتتحلى من تاجهم بأسنى العقود، وتسمو من فخر وزارتهم فخرهم بما يملأ الوجود بالجود، وتختال من تصريف أقلامهم وأقلام تصريفهم في روض التنفيذ المجود فإن ذكرت ملآثر جده قصرت عن إدراكها الجدود، وإن شكرت مناقب والده- أجله الله- ففجرها الباذخ مشهود؛ وهو بلسان العام والخاص ممدوح محمود، وإلى معاني خطه تنتهي درجات الصعود والسعود، فلا غرو لهذا الفرع الناجب أن يتبع أصله، وأن يسلك فضائله وفضله، وأن يقفو منهجه، ويحذو في الكتابة طريقته المبهجة، ويأتي من البراعة بسننها القويم، ويبرز من اليراعة وشي خطه الرقيم، وأن يحلي أجياد المهارق بجوهر تاجه النضيد النظيم، وأن تحلو ألفاظه في الإنشاء حين تمر على الأسماع مرور النسيم؛ سيما وقد ظهرت عليه من مخايل الرئاسة دلائل، وشرعت له مناهل الأدب والفضائل، وحاز من حسن النشأة ما سار بشكره المثل، وحصل من الاشتغال على كنز المعرفة واشتمل، وغدا جديراً بكل مرتبة سنية، وكل رفعة هي بأعدائها مبنية، فليباشر ذلك مباشرة يجعلها لباب المعالي مفتتحاً، وللزيادة من كل خير سبباً كلما أبدى الدهر مساءً وضحى، ولينقل في اتباع مهيع المجد عن والده ودجده أبقاهما الله تعالى، وليدأب للتحلي بأخلاقهما الحسنة أقوالاً وأفعالاً، وليبهج الطروس بوشي قلمه، ولينمق المكاتبات ببلاغة كلمه، وليتخذ الصون شعاره، والعفاف دثاره، والأمانة معتمده، والنزاهة مستنده، وضبط القول مادته، وحفظ اليد واللسان جادته؛ والوصايا كثيرة وملاكها التقويى وهي حليته الحقيقية وعقيدته العقلية والمنطقية فليجعلها دأبه، وليرض في إعلانه لها ربه؛ والله تعالى يعلي قدره وجده ويحفظه وأباه وجده.
وهذه نسخة توقيع شريف بمتابة درج تجديداً، وهي: رسم.......... - لازال يمنح الأولياء، بتجديد النعم إحسانا، ويولي البلغاء، فضلاً يعلي بهم رتبةً وشانا، ويبدي لهم في ديوان إنشائه الشريف فضائل جمةً وبيانا- أن يجدد هذا التوقيع الشريف باسم فلان تجديداً لأنوار الإحسان إليه، وتأكيداً لمزايا الامتنان لديه، وتسديداً لمستنده الذ ألقاه وجه الإقبال إليه، لما حازه من فضيلةً تامة، وبلاغةً ملأت ببديع المعاني ومعاني البديع ألفاظه وكلامه، وكتابةٍ أجرت في حواشي الطروس بمحقق التوقيعات أقلامه، وأمانةٍ بنت على الصدق والعفاف أقسامه، ورياسةٍ تأثل مجدها، فبلغ مرامة، واتصل سعدها، فلا يخشى انفصامه، وبعد شأوها فهي السامية إلى رفع المنازل من غير سآمة. قد اتصف من البراعة بجميل الأوصاف وظهر استحقاقه فهو باد غير خاف، وتروى من بحر البلاغة حيث ورد منهلها الصاف، وسلك طرق الخير فتضاعف له الإسعاد والإسعاف، وامتاز بمزايا التجمل في أموره والعفاف، واستحق بذلك أن نجدد له فضل الألفة، ونؤكد له بكرمنا نيلاً اعتاده وعرفه.
فليستمر في ذلك استمرار به أسباب الخير مؤتلفة، ووجوه الفضائل عن صنوف الكتابة غير منصرفة، وليبد من البلاغة بيانها البديع، ويجمل منزل العلياء الرفيع، ويسلك مسلك ه في الأمانة، ويتق الله تعالى بملازمة المراقبة والديانة، والله تعالى يعلي مكانه، ويزيد في اقتناء الفضائل إمكانه، والاعتماد على العلامة الشريفة أعلاه، إن شاء الله تعالى.
قلت وربما كتب التوقيع لكاتب الدرج بزيادة معلوم، فيحتاج الكاتب إلى أن يأتي بعبارة تجمع إلى ماتقدم من براعة الاستهلال مايليها من موجب الاتسحقاق، وسبب الزيادة وترادف الإحسان.
وهذه نسخة توقيع بشهادة الخزانة، كتب به لابن عبادة، وهي:
أما بعد حمد الله الذي أفاض على الأولياء من خزائن فضله، وأفاء لهم أوفر نصيب من إحسانه المشور فيه عدل قسمه وقسم عدله، وأهمى عليهم من سحب مواهبه مايقصر عنه الغمام في وبله وطله، وأسبغ عليهم من جوده العميم مايصفو لديهم المرح في وارف ظله، والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ نبيه ورسوله أشرف رسله، وخاتم من جاء من الأنبياء من قبله، والهادي ببعثته الشريفة إلى طرق الحق وسبله، وعلى آله وصحبه الذين تابعوه في قوله وفعله، وبايعوه على المظاهرة في نصرة الدين الحنيف وأهله، وجمعوا هممهم على التئام كلمة الإيمان وجمع شمله، وأرهف كل منهم في نصره ماضي عزمه ونصله- فإن أولى من رعيت له حقوق ذمامه، ومنح أجزل العطاء الذي تقضي الأقدار بدوامه، ولوحظ بعين الإقبال ما أسلفه من حسن الطاعة لله ولرسوله ولإمامه- منجد في الخدمة فأضحى الجد له خادماً، وداوم على المناصحة فغدا سعده دائما، وأخذ من كل فضل بزمامه، ومت بما له على الدولة لاشريفة من حرمته وذمامه، وسلك في أداء الأمانة السنن القويمة، وجعل على خزائن الأرض بما تلا لسان فضله: {إني حفيظ عليم} وتمسك من الإخلاص بأقوى السباب، وجعلت له التقوى محلا يدخل عليه ملائكة القبول من كل باب، وزين سماء المعالي بكواكب مجده فما تشوف إليها طرف متطأول إلا وأتبعه شهاب.
ولما كان فلان هو الذي غدا حسن مناقبه إلى شكره مرشداً، وإلى ذكره بالجميل مسعداً، وألهج لسان الفلم في وصفه منشداً، واختص من هذه المحامد بأوفرها قسماً، وطلع في أفق هذا الثناء الجميل نجماً، فلذلك رسم................
ومنها- استيفاء الدولة وموضوعها التحدث في كل مايتحدث فيه الوزير وناظر الدولة، وضبط الأموال الديوانية، وكتابة الحسبانات، وكل مايجري مجرى ذلك. وقد جرت العادة أن يكون فيها مستوفيان.
وهذه نسخة توقيع باستيفاء الدولة: أما بعد حمد الله الذي صان الأموال بالأقلام المحررة، والدفاتر المسطرة، والحسبانات المصدرة، والجوامع المسيرة، والتيقظ الذي استخرج البواقي المنكسرة، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي أزالظلام الظلم ونوره، ومحت الجور وغيره، وأيد الحق وأظهره، وعلى آله البررة، وصحبه خصوصاً العشرة المبشرة- فإن الدولة الشريفة من الأقلام ضابطاً، ولها من الحساب نظاماً أصبح عليها سياجاً وحائطاً، يصون الأموال أن تكون بأيدي الخائنين نهبى، ويحرز المطلقات بعداً وقرباً، وقلم الاستيفاء هو الذي إذا طاشت أقلام الكتاب كان في رأسها لجاماً، وإذا خصم المباشرون بالمصروف قبل السائغ الصحيح ورد ماكان سقيماً وخرج مالم يكن تماماً.
ولماكان فلان هو الذي في الرئاسة كبير معروف، وفي السعادة حميد موصوف، وفي قلمه تصحيح كل مصروف، وله في الدولة آثار مرضية تشكرها الأقلام والسيوف، مانظر في حساب، إلا أزال عنه مابه يعاب، ولارأى فذالك، إلا وأوضح فيها المسالك، ولاعرض باقي، إلا استخرج مايتعين استخراجه بقلمه الراقي، وفهمه الواقي؛ فلذلك رسم أن يستقر........
فليباشر هذه الوظيفة بتحريره وتحبيره، وتمييزه وتثميره، وتوفيره وتكثيره، وإيراده وتصديره، وتسهيله وتيسيره، وإزالة تعسيره؛ وإذا أمسك دفاتره، أظهر مآثره، وإذا نسيت الجمل أبدى تذاكره، والعمدة على شطبه في الحسبانات الحاضرة، فلا يخرج من عنده شيء بغير ثبوت فإن التواقيع الشريفة هي كالأمثال سائرة، ولايتخذ المعين، إلا الأمين، ولايستعين، إلا بمن هو مأمون اليمين، والوصايا كثيرة وهو غني عن التبيين، فليتق الله رب العالمين، وليستجلب لنا الأدعية من القفراء الصالحين؛ فإن صدقاتنا الشريفة تنعم عليهم بمرتبات وأرزاق، ونعم وأطلاق، فليسهل عليهم الصعب في كل بابٍ وإطلاق، والله تعالى يمده بالإرفاق، بمنه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
قلت: وقد يكتب لوظيفة استيفاء الدولة مفتتحاً برسم.
وهذه نسخة توقيع من ذلك باستيفاء الدولة، كتب له لعلم الدين بن ريشة، وهي:
رسم بالأمر الشريف- لابرحت أيامه الشريفة ترفع لذوي الكفاءة من إحسانها علماً، وترجع مصالح الدولة إلىمن أحسن فيها خطاباً وأعمل في مهماتها قلماً، وتختار من دأب في تكميل أدواته حتى صار على أنظاره متقدماً- أن يرتب فلان علماً بكفايته التي وضحت، ودرايته التي فاقت مناظرها ورجحت، وأمانته التي حصلت النماء وأربحت، وهمته التي ميزت الأموال بإحرازها فعلى السداد ختمت وبالتحري افتتحت.
فليباشر هذه الوظيفةالتي تحتاج إليه تحتاج إليه باحتراز مثله، والرتبة التي تيعين على مباشرها إيصال كل حق إلىأهله؛ فقد أرجعنا ضبطها وتحريرها إليه، واعتمدنا في تيسير أموالها وسد أحوالهاعليه؛ فهو جدير ببلوغ القصد فيما قررناه لديه وحررناه بقلمه ويديه.
فليبسط في مصالح الديوان المعمور وأمواله قلمه، وليعمل بماهو علم من تبيين حقائق أحوال وظيفته ويخلص فيه قوله وكلمه، وليصن الأموال، ويتفقد مايلزم العمال، ويحث على حمول بيت المال، ولبيسترفع الحسبانات من جهاتها على العادة، وليستودع دجفاترها وجرائدها من يتحقق تحرزه وسداده، وليتخذ معينيه من أرباب الحذق والراية والاطلاع على كل نقص وزيادةه، وإبداء وإعادة، وله من نفسه مالايحتاج معه إلى زيادة الوصايا وتكثيرها، ومن ألمعيته مايدرك به الفصل في جليل الأمور وحقيرها؛ فإنه قدج تخلق بأخلاق أهل الأدب، وشارك في جليل الخطب وسد ماإليه عزمه انتدب؛ والله تعالى يبلغه من الجود غاية الأرب، ويعينه على صالح العمل وانتهاز القرب؛ والاعتماد....... إلخ ومنا- استيفاء الخاص. وصاحبها في الخاص كمستوفي الدولة في ديوان الوزارة.
وهذه نسخة توقيع باستيفاء الخاص لمن لقبه أمين الدين وهي: رسم بالأمر الشريف- لازالت أيامه الشريفة تقدم بمهماتها أميناً، وتقدم في خدمته من اضحى معلى شمالاً ويميناً، وتولي الرتب السنية من جعل التحرز لقلمه مصاحباً ولكلمه معيناً- أن يستقر فلان في كذا: لما عرف من رئاسته التي ميزته، وأمانته التي جمعت الرفع فأحرزته، وضبطه الذي ترقى به في المراتب وتنقل، وإدراكه الذي يصون به غوامض المصالح ويعقل، ولما سلف له من خدمةٍ ملك فيها السداد، ومباشرة علم بها ماهو متصف به من حسن الاعتماد.
فليباشر هذه الوظيفة التي وليها، وليشهر من همته فيها مايرفع مكانته ويعليها، وليدم المراقبة لمصالح ديوان الخاص الشريف في كل قولٍ وعمل، وليسارع إلىمايفيد المناجح ويبلغ من الضبط والتحرز غاية الأمل، وليصن الأموال من ضياعها، ويحافظ على سلوك طرائق الحق واتباعها، وليسترفع الحسبانات من أربابها، ويتفقد محرراتها التي هو أعلم وأدرى بها، ويتخذ من معينيه من أضحت معرفته للدقائق جامعة، ويحتفل بمتحصلات أموال الخاص بعزمته التي أضحت معرفته لمكانته رافعة، لاسيما ثغر الإسكندرية التي قد أصبحت جهاتها لطلب أقلامه متابعةً طائعة، وليلزم كل عامل بتحرير مايجب عليه وما تنبغي فيه المراجعة، فإنا قد أقمناه لذلك مستوفياً، وليتصفح أموره الجليلة والحقيرة مستوضحاً مستقصياً، وليتق الله الذي يبلغه من زيادة منحنا الأمل، ويعينه على صالح العمل، والله تعالى يمنحه من الخير ماينجح مسعاه وينزهه عن الزيغ والزلل، والاعتماد....... إلخ وهذه نسخة توقيع في المعنى لمن لقبه بدر الدين وهي: رسم بالأمر الشريف- لازال يطلع لذوي الكفاية من إحسانه في سماء الإقبال بدراً، ويرفع لمن أم الأبواب من أوليائه ذوي الرئاسة قدراً، ويشفع لمن شكرت معرفته بنجح القصد فانشرح له بالمنن الجمة صدراً- أن يستقر فلان في كذا: لكفايته التي خطب بسببها إلى مقره، ودرايته التي استوجب بها أن نطق لسان القلم بذكره، ونزاهته التي أجمعت بها أمثاله على شكره، وأمانته التي تستدعي الحق في حلو الأمر ومره، وديانته التي هي من أصل في كل أمره وصيانته التي يعتمدها في سره وجهره، ومشارفته المصالح بعين يقظته التي يلوح لها وجه الصواب فيقف عند حده وقدره.
فليباشر هذه الوظيفة التي أسلفها حسن الاعتماد، وليوفها من معهود يقظته يمن الاجتهاد، وليحقق حسن ظن المباشرين ورغبتهم فيه من الإنصاف في الإرفاق والإرفاد، وليعمر جهات الأموال بجميل الاقتصاد، وينجز الأحوال على سبيل السداد، وليتبع منهاج الخير في كل مايأتيه من إصدار وإيراد، فقد رجع ضبط هذه الجهة إليه، واعتمد في تحريرها عليه؛ فليصن الأموال، ويتفقد ماتحسن به العقبى والمآل، وليتحر في جميع ماهو لازم له أن يكون على الحق الواضح، والسنن القويم فإنه المتجر الرابح والمآب الناجح، وتقوى الله تعالى فهي عمدة كل عبدٍ صالح، والوصايا كثيرة مبينة تغني عن إفصاح الشارح؛ والله تعالى يلهمه الطريق السديدة ويرشده، ويعينه بالتوفيق وينجده، إن شاء الله تعالى.
ومنها- استيفاء البيوت والحاشيةوهذه نسخة توقيع بذلك، كتب بها لعلم الدين شاكر عوضاً عن تاج الدين بن الغزولي في الأيام الأشرفية شعبان بن حسين وهي: رسم بالأمر الشريف- لازالت صدقاته الشريفة تمنح الأكفاء من إحسانها نعماً، وتضاعف لهم من عطائها كرماً، وأيامه الشريفة تعم البيوت الكريمة بكافٍ قد نشرت له الأمانة في دولته الأشرفية علماً، ومواهبه تقدم للوظائف من أضحى شاكراً لله تعالى وتبسط له في دواوين أعز الأنصار قلماً- أن يستقر المجلس السامي القاضي، فلان الدين في كذا وكذا: لأمانته الموفورة، ومعرفته المشهورة، ومحاسنه المذكورة، وسيرته المشكورة، وكتابته التي أضحت في صفحات الحسبانات مسطورة، وديانته التي جددت بهجته وسروره، وخبرته بمنازل البيوت المعمورة، وقدم هجرته في الوظائف التي أوجبت نقلته إلىأجلها، وصدارته التي رفعته إلى أرفع محلها، كم له في دواوين أعز الأنصار من أقلام منفذه، وآراء مسددة، ونظرٍ أصلح به كل فاسد، وكبت به كل حاسد، وضبطٍ لأصول الأموال، وتتبع للمصالح في البكر والآصا.
فليباشر هذه الوظيفة المباركة التي هو أخبر بمباشرتها، وأعلم بأحوال البيوت الكريمة وعمارتها، وليظهر في الحاشية السعيدة مآثره السحنة، ونزاهته التي نطقت بشكرها الألسنة، وليبد في مباشرته كم كل شيءٍ أحسنه، وليسلك طرائق الأمانة، وليقف آثار ذوي العفاف والصيانة، وليلازم مباشرة أعز ولي في المساء والصباح، ولايشغله عن مصالح ممهد الدول من هو لسلطاننا الأشرف أمير السلاح؛ والله تعالى يفتح له من الخير أبواب النجاح. والاعتماد على الخط الشريف أعلاه، إن شاء الله تعالى.
قلت: ومما ينخرط في سلك تواقيع أرباب الوظائف السلطانية وظائف دواوين الأمراء الخاصكية، فإنه ربما كتب عن السلطان التوقيع لبعض أرباب وظائف دواوينهم كما يكتب في الوظائف السلطانية.
وهذه نسخة توقيع كريمٍ بنظر دواوين بعض الأمراء، وهي: أما بعد حمد الله الذي هدى إلى الملة المحمدية من أسر الإيمان في قلبه ونواه، وضم إلى الأمة الإسلامية من أضمر الإخلاص فأظهره الله في متقلبه ومثواه، وجمع لولي الدولة ومخلصها الفرج والفرح لأنه من توكل عليه كفاه، والشهادة بالوحدانية التي تبلغ قائلها من رضاه مناه، وتجعل جناته لمن أسرها جنانه مستقره ومأواه، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي قصم عداه، وفصم عرا من عاداه من أهل الشرك وعداه، وعلى آله وصحبه الذين اهتدوا بهداه، واستجدوا جداه، ولبوا نداه، وأموا نداه، صلاةً تجزل لمصليها ثوابه، وتجمل مآبه، وتحمد عقباه 0فإن أولى من رفع له الكرم محلاً، وقلدته النعم عقداً محلى، وأعيد إلى رتبة الاصطفاء، وفوض إليه ديوان أعز الأخصاء، ةصرف قلمه في مهامه، وحصلت هممه على جميع أقسامه، وعدقت مصالحه بتدبيره، ومناجحه بتأثيله وتأثيره، ومتحصلاته بتمييزه وتثميره، وأحواله وأمواله: هذه بحسن تصرفه وهذه بيمن تقريره- من دخل في دين الله القويم، واجتباه وهداه إلى الصراط المستقيم، وكساه الإسلام حلة شرفه، وبوأه الإيمان مباني غرفه، ونوى الاستقامة في إقامته ومنصرفه، والتحف بجلباب الإسلام وارتدى، وتلبس بالإيمان فصد عنه الأذى ورد الردى، وغدا من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى، مع كفاية أوجبت له التقريب والتقدين، وجددت له ملابس التكبير والتكريم، وكتابةٍ فاق بها أمثاله، وعلا مثاله، وبلغته من العلياء مرامه ومناله، ومعرفةٍ بفنون الحساب، وخبرة اعترف بها الكتاب والحساب، وأوجبت له من الإقبال مالم يكن في حساب.
ولما كان مجلس القاضي فلان: هو الذي أخذا القلم في مدحه والكرم في منحه، اقتضى رأينا الشريف أن نقبل على إقباله على الدين بوجه الإقبال، وأن نبلغه في أيامنا الشريفة ماكان يرجوه من اللآمال، فلذلك رسم بالأمر الشريف- لازال يرفع من كان للدولة ولياً، ويضع الشيء محله بتقديم من أضحى عرفانه جلياً.
فليباشر ذلك مباشرةً تبلغه أملاً من الاعتلاء، وتنوله مراماً من الاعتناء، وتؤمنه من طوارق الزمن وحوادث الاعتداء، عالماً بأن دولتنا الفلانية المنصورة تجازي عن الحسنة بأمثالها، وأن أيامنا الفلانية المشهورة المشكورة تبلغ أولياءها غاية آمالها، وأننا أجزلنا بره، وأجملنا ذكره، وأجرينا على لسان القلم حمده وشكره، فليعتمد في مباشرته الأمانة المبرة والنزاهة التي رفعت ماساءه ووضعت ماسره، وليشمر في مصالح هذا الديوان السعيد عن ساعد اجتهاده، ويعتمد في أموره ماألف من سداده، ويتحر من السعادة ماكان قبل القول من سعاده، وليتق الله حق تقاته، ويجعل التقوى حليةً لأوقاته، وحلة علىسائر تصرفاته، ويسر بتقواه سيراً خبراً وخبرا، ويذر جوراً وجبرا، {ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا} قلت: وغالب مايعتنى به من تواقيع أرباب الأقلام المفتتحة برسم الدعاء المصدر به المصدر به التواقيع واشتماله على براعة الاستهلال.
وهذه جملة أدعية من ذلك ينسج على منوالها: أثير الدين- لازال فلك فضله أثيراً، وطالع سعده منيراً، وهبوب ريح مبراته للخيرات مثيراً.
أمين الدين- لازال ينبغي للخدم الشريفة خير أمين، ويصطفي للقيام بالمصالح أنهض معين، ويجتبي لأهم المهمات من هو غير متهم في المناصحة وغير ظنين.
بدر الدين- لازال يولي المناصب الدينية من سلك في النواهة مسلكاً جميلاً، ويولي الفضل الجزيل من أصحى إشراق بدره على آثار حظه دليلاً.
برهان الدين- لازالت أوامره الشريفة ترفع للعلماء شاناً، وتقيم على استحقاقهم دليلاً واضحاً وبرهاناً.
تاج الدين- لازالت صدقاته الشريفة ترفع تاج الفضائل على الرؤوس وبره الشامل يذكي النفوس ويزكي الغروس، وتوارد إفضاله يوشي المهارق ويدبج الطروس.
تقي الدين- لازالت صدقاته الشريفة تقدم كل تقي، وترجح ميزان من هو بالفضائل أملى ملي، وترفع قدر من إذا سئل عن محله في الرياسة قيل علي.
جمال الدين- لازال جمال جميله للنفوس رائقاً، وإفضاله المتوافر لكل إفضالٍ سابقاً جلال الدين- لازالت صدقاته الشريفة تزيد جلال ذوي الفضل جلالاً، وإحسانه المتواتر يوسع في البر لأولي الاستحقاق مجالاً، وبره المتتابع تقصر عنه خطا كل بر فينادى: هكذا هكذا وإلا فلا لا رضي الدين- لازال رضي السجايا، ظاهر المزايا، مسترسل ديم العطايا.
زين الدين- لازال نواله الشريف زيناً لنائله، وسؤاله المحقق إجابته شرفاً لسائله، وقاصد بابه الشريف يوم بالخير في عاجل الأمر وآجله.
سراج الدين- لازالت عنايته الشريفة تخص أولياءها بجزيل المواهب، وتبلغهم من صدقاتها العامة غاية الآمال وأقصى المطالب، وتوقد لهم من أنوار سعادتها سراجاً يغلب على نورالكواكب.
سري الدين- لازالت صدقاته الشريفة تصطفي من أرباب الكتابة من يجيد المعاني فلا يضع لفظاً إلا جعل تحته معنى سرياً، وترتضي من فرسان البراعة في ميدان اليراعة من يرتقي ببلاغته مكاناً علياً، وتجتبي من أهل الإجادة من تميز بالإفادة فلا يزال كلامه الطروس حليا.
شرف الدين: لازالت صدقاته الشريفة تضع الشيء فيمحله، وترجع الفضل إلى مستحقه وأهله، وتختار للمناصب من ظهر شرفه بين قوله وفعله.
شمس الدين- لازالت صدقاته الشريفة تطلع في سماء الممن ذوي الرياسة شمساً، ونعمه الجسيمة تنبت في روض الإحسان غرساً، ومراسمه العالية تنقل إلى رتب الرياسة من شدت كفه على عدد الأماني خمساً.
شهاب الدين- لازالت صدقاته الشريفة تطلع في أفقها شهاباً، وتهمل من جزيل المواهب للأماني سحاباً، وتضع الشيء في محله وتزيد الأمور انتظاماً والدعاء استجلاباً.
صدر الدين- لازالت آراؤه الشريفة تستجيد من ذوي الفضائل من جاوز الجوزاء نظماً وفاق النثرة نثراً، وتستعيد للمناصب من الأمائل من تقصر عن مجده الكوكب وفعة وقدراً، وتستزيد في المرابت من فاق سحبان وائلٍ وساد الأوائل في مجالس العلياء صدراً.
صلاح الدين- لازال أمره الشريف يقدم من يفيد ويجيد، فيكون لكل أمر صلاحاً، وكرمه الطويل المديد، يشمل من ذوي الفضائل من فاق سحبان وائلٍ فصاحةً وفاق حاتم الأوائل سماحاً، ورأيه الرشيد السديد، يختار من إذا انتضى اليراعة غلب رأيه سيوفاً وطال قلمه رماحاً.
ضياء الدين- لازالت آراؤه الجميله، تختار من ذوي الفضائل الجليلة من تزداد به المناصب ضياءً، ونعمه الجزيلة، تعم كل باعر إذا ادلهمت الخطوب كان فوه لها جلاءً، وعوارفه المستطيلة، تشمل كل فاضل بذل في الخدمة جهده وتكسوه هيبة وبهاءً.
علم الدين- لازال جزيل إحسانه، أوضح من نارٍ على علم، ومزيد امتنانه، يشمل أرباب السيف والقلم، وسحب بنانه تسح فلا تشح بجزيل الكرم.
علاء الدين- لازال علاء دولته يصطفي ذوي الفضائل، ويختار من الفصحاء من يفوت الأواخر كما أضحى يفوت الأوائل، ويقدم من هو في تدبير اليراعة كعلي بن هلال وفي حسن البراعة كسحبان وائل.
عز الدين- لازالت صدقاته الشريفة تزيد ذوي الأقلام، من جزيل الإنعام، فتنيلهم عزاً، وتستجيد من كتابها الأعلام، من خص بجواهر الكلام، فكل حسن إلى كلامه يعزى، وتستفيد من نجباء الأيام، كل بارع كأن كلامه زهر الكمام، فلو خاطب سحبان لأورثه قصوراً وعجزاً.
عماد الدين- لازالت آراؤه الشريفة تتخذ من نجباء الكتاب عماداً، وتختار من ذوي الفضائل في الخطاب، من تجد لكلامه حسناً وسداداً، وتقدم من أهل الفضل في السؤال والجواب، من لاتعدم في كل مقاصده رشاداً.
عضد الدين- لازالت صدقاته الشريفة تجعل من إنعامها، لخدامها، عضداً، وتلحظ بعين إكرامها، وحسن احتلرامها، من طال في الفضل مدى، وتزين مطالع أيامها، بشموس أعلامها، فلا ترى مثلهم أحداً.
غرس الدين- لازالت صدقاته الشريفة تنبت في روض الإحسان، من أرباب البيان، غرساً، وتجتني من كمام اللسان، أزاهر النكت الحسان، وتزين بها طرساً، وتفيض من مواهب البنان، مايشهد لها بجزيل الامتنان، فيطيب كل آمل ٍ نفساً.
غياث الدين- لازالت صدقاته الشريفة تبدي لكل آمل غياثها، وتضفي ظلها على من استجار بها واستغاثها، وتنطق ألسن أقلامها، بمواهب إنعامها، فتبذل طريفها وتراثها.
فتح الدين- لازالت صدقاته الشريفة تتخير من ذوي الأقلام، من يفتح أبواب الكلام، فتحاً وتهب جزيل الإنعام، لمن يستحقه من الكتاب الأعلام، فينال بذلك ثناءً وربحاً، وتقرب بيد العناية والإكرام، من ذوي الرياسة والاحترام، من هز على البلغاء قدحاً.
فخر الدين- لازالت آراؤه الشريفة تنصب من المناصب، من يزيد بحسن مباشرته فخرها، وتمطي ظهور المراتب، من إذا أظلمت الأيام لعدم فاضل ظهر بفضيلته فجرها قطب الدين- لازالت صدقاته الشريفة تدير على قطب البلاغة من أرباب اليراعة نجوماً، وتشير بعنايتها إلى من حاز من الفضل فنوناً وأحيا من الآداب رسوماً، وتشير بعنايتها إلى من حاز من الفضل فنوناً وأحيا من الآداب رسوماً، وتنير بدور سعدها لمن لم يزل قلمه لأسرار الملك كتوماً.
كريم الدين- لازالت صدقاته الشريفة تشمل من ذوي الفضائل من عد في فصله وأصله كريماً، فتقدم من لاله في البلاغة مماثل فلا يزال بكل فن عليماً، وتنصب في المناصب من فات قيس الأوائل رأياً وفاق قساً بحديث بلاغته قديماً.
كمال الدين- لازالت سعادته الباهرة، تطلع في سماء العلياء من فاق البدور كمالاً، وأوامره القاهرة، تقدم أسنى البلغاء جلالاً، واسمى صدقاته الوافية، تعم من ذوي الفضائل من زاد بحسن المناصب بحسن مباشرته مهابةً وجمالاً.
مجد الدين- لازالت صدقاته الشريفة تملك أعنة الأقلام، من تراه لها مجداً، وتودع بجيد الأيام، من جواهر الفضلاء عقداً، وتشمل بأياديها الكرام، من إذا جمع البلغاء كان بينهم فرداً محيي الدين- لازالت أوامره الشريفة تشمل من البلغاء من شهر بفصل الخطاب، وإذا ماتت الفضائل يحييها، وغيث جودهالهامي يفيض فيض السحاب، فيبادر العفاة ويحييها، وعنايته تعم ذوي الألباب، فتمهد رتب العز وتهييها.
موفق الدين- لازالت صدقاته الشريفة تطلع كل هلال من اهتدى به كان موفقاً، وتملك من يزري بابن هلال أنى كتب: رقاعاً ومحققاً، وتفيض لراجيها أفضل نوالٍ من شبهه بالغيث كان محققاً.
ناصر الدين- لازال يقرب من أصحى لأهل الكلام، بمهفات اللأقلام، ناصراً، ويهب طويل الإنعام، لمن باعه مديد في النثر والنظام، فمابرح فضله وافراً، وينتخب من غدا شريعاً لعادات الكرام، مضارعاً لصفات الكتاب الأعلام، وأصبح في البيان نادراً.
نجم الدين- لازالت أومره الشريفة تطلع في أفق السعادة، من ذوي السيادة، نجماً، وتعم بجزيل الإفادة، من عرف بالفضل وبالإجادة، وفاق أقرانه نثراً ونظماً، وتسمح من عنايتها بالإرادة، لمن هو أهل الحسنى وزيادة، بتجزل له من كرمها قسماً.
نور الدين- لازالت صدقاته الشريفة تعم بالنوال، من هو في البراعة متسع المجال، فيزيد الكلام نوراً، وحسناته تشمل ذوي الآمال، بما يحمد في البدء والمآل، فتملأ القلوب سروراً، ومبراته تصل أولي الكمال، وتنتخب أخيار العمال، فلا برح أنفذ الملوك أموراً.
نظام الدين- لازال يتخير من كان في الناس مجيداً، وفي البيان مجيداً، فحسن لفظه نظاماً، ويهب من بره مزيداً، لمن كان في الخدمة مريداً، فلا ينقض للنصيحة ذماماً، ويبذل كرماً مفيداً، لمن يراه في الفضل مبدئاً ومعيداً فحاز فخاراً وطاب كلاماً.
همام الدين- لازال يرتضي من هو في فرسان اليراعة أنهض همام، ويقتضي وعد كرمه لمن نهض في الرياسة نهوض اهتمام، وينتضي عضد ذهنه فيصيب مفصل كل كلام.
ولي الدين- لازال يحلي أجياد المناصب من ذوي البلاغة، بمن يحسن في الكلام الصياغة، فينظمه حلياً، ويجلي كرب المراتب من فرسان اليراعة، بمن راح فضله ولفظه جلياً، ويولي المناصب منغدا في البيان وافر البضاعة، فاتخذته الأقلام وليا.
الضرب الرابع من الوظائف التي يكتب فيها بالديار المصرية مشيخة الخوانق:
وكلها يكتب بها تواقيع مشيخة الخوانق وهي على طبقات:
الطبقة الأولى: ما يكتب في قطع النصف بالمجلس العالي مفتتحاً بالحمد لله:
وهو مشيخة الشيوخ خاصة.
واعلم أن مشيخة الشيوخ كانت فيما تقدم تطلق على مشيخة الخانقاه الصلاحية سعيد السعداء فيكتب فيها بذلك، ولم يزل الأمر على ذلك إلى أن بنى السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون الخانقاه الناصرية بسرياقوس، استقرت الشيوخ على من يكون شيخاً بها، والأمر على ذلك إلى الآن.
وهذه نسخة توقيع بمشيخة الشيوخ بالخانقاه الصلاحية سعيد السعداء بالقاهرة المحروسة بتسم الشيخ شمس الدين بن النخجواني، من إنشاء المقر الشهابي بن فضل الله العمري، وهي: الحمد لله مرقي أوليائه، وموقي أصفيائه، وملقي كلمة الإخلاص لمن تلقى سرها المصون عن انبيائه.
نحمده على مصافاة أهل صفائه، وموافاة نعمنا لمن تمسك بعهود وفائه، وتسلك فأصبحت رجال كالجواهر لاتنتظم في سلكه ولاتعد من أكفائه، وطالع للدين شمساً يباهي الشمس رضيائه، ويباهل البدر التمام فيتغير تارةً من خجله وتارةً من حيائه.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نعدها ذخراً للقائه، وفخراً باقياً ببقائه، راقاي في الدرحات العلى بارتقائه.
ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله مبلغ أنبائه، ومسوغ الولفى لأحبائه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان من أهل ولائه، ومن عرف به الله لما تفكر في آلائه، صلاةً يؤمل دوامها من نعمائه، ويؤمن عليها سكان أرضه وسمائه، وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد، فإن أولى مااستقام به الشخص على الطريقة، واستدام به الرجوع إلى الحقيقة، واستام به يطمئن إلى خالقه لا إلى الخليقة، وحفظ أفقه بنير تستضيء به النيرات، ونوءٍ تتقسم به الغمائم الممطرات- طائفة أهل الصلاح، ومن معهم منإخوان أهل الصفاء الصوفية داعي الفلاح، ومن تضمهم من الواردين إليهم إلى جناح، والصادرين عنهم بنجاح، ومن تفتح له فيهم أبواب السماء، وتمنح بنفسهم عامة الخلق ملابس النعماء، ومن يكشف بتهجدهم جنح كل ظلام، ويكسف بتوجههم عارضة كل بدر تمام، ويستشفى ببركاتهم من داء كل سقام، ويستسقى بدعائهم إذا قصر النيل وقص جناحه الغمام. وهم أولياء الله وأحباؤه، وبهم يتعلل كل لبيب هم سقامه وهم أطباؤه؛ أنحلهم الحب حتى عادوا كالأرواح، وأشغلهم الحب بصوت كل حمام شجاهم لماغنى وبرح بهم لما ناح، وأطربهم كل سمع فوجدوا بكل شيء شجناً، وعذبهم الهوى فاستعذبوا أن لايلائموا وسناً، ومثل فرط الكلف لهم الأحباب فما رأوا لهم حالاً إلا حسناً، وأثقل تكرار الذكرى قلوبهم فماعدوا غربةً غربةً ولاوطناً؛ قربت المحبة لهم في ذات كل متباعد، وألفت أشتاتهم فاختلفت الأسماء والمعنى واحد.
والخانقاه الصلاحية بالقاهرة المحروسة المعروفة بسعيد السعداء- قدس الله روح واقفها- هي قطب نجومهم السائرة، ومراكز أفلاكهم الدائرة، وإليها تنحط رحال سفارهم، وعليها تحط رحال سفارهم؛ تضطرب فرقهم في البلاد وإليها مرجعهم، وعليا مجتمعهم، وفيها مواضع خلواتهم، ومطالع جلواتهم، ومكان صلاتهم، وإمكان صلاتهم، ومشرق شموسهم، ومؤنق غروسهم، ومنهاج طريقتهم، ومعراج حقيقتهم، مأوى هذه الطائفة الطائفة في شرق البلاد وغربها، وبعدها وقربها، وعجمها وعربها، ومن رفع سجوفها أو هو محجوب بحجبها، والمؤهلة والعراب، وأهل الاغتراب؛ هي فسيحهم الرحيب، وصفيحهم القريب، ومثالهم إذا اجتمعوا في الملأ الأعلى زمراً، واخترقوا المهامة وماجازوا بيداء ولاجأبوا مقفراً، وبلغوا الغاية وماأزعج ركابهم حادٍ في ليلسرى، ووصلوا ومافارقوا فرشهم الممهدة إلى ماوراء الورى؛ شرط كل خانقاه أن لاتغلق في وجه من ينزل فيها باباً، ولاتطيل جهاتها الممنعة له حجاباً، ولاتعجل مقاماتها المرفعة له قبل..............
وهذه نسخة توقيع بمشيخة الشيوخ، وهي مشيخة الخانقاه الناصرية بسرياقوس، مما كتب بذلك للشيخ نظام الدين الأصفهاني، منإنشاء السيد الشريف شمس الدين: الطرة توقيع شريف بأن يفوض إلى المجلس العالي، الشيخي، النظامي، إسحق ابن الشيخ المرحوم جلال الدين عاصم، ابن الشيخ المرحوم سعد الدين محمد الأصفهاني القرشي الشافعي- أدام الله النفع ببركته- مشيخة الخانقاه السعيدة الناصرية بسرياقوس- قدس الله روح واقفها- ومشيخة الشيوخ بالديار المصرية والبلاد الشامية والحلبية، والفتوحات الساحلية، وسائر الممالك الإسلامية المحروسة، على عادته في ذلك وقاعدته ومعلومه، وأن يكون ما يخص بيت المال من ميراث كل من يتوفى من الصوفيه بالخانقاه بسرياقوس للشيخ نظام الدين المشار إليه، بحيث لايكون لأمين الحكم ولا لديوان المواريث معه في ذلك حديث، وتكون أمور الخانقاه المذكورة فيما يتعلق بالمشيخة وأحوال الصوفية راجعةً للشيخ نظام الدين المشار إليه، ولايكون لأحد من المحكام ولا من جهة الحسبة ولا القضاة في ذلك حديث معه، ولايشهد أحد من الصوفية ولاينتسب إلا بإذنه، على جاري عادته في ذلك على ماشرح فيه، وأولة: الحمد لله على نعمه التي ألفت للصالحين من عباده نظاماً، واستأنفت للصائحين إلى مراده إحراماً، وصرفت أوامرنا بالعدل والإحسان لمن فوض أموره إلى ربه فأنجح له من مزيد التأييد مراداً ومراماً، وعطفت بأوجه إقبالها الحسان على من هو متنزه عن دنياه، متوجه إلى أخراه، يمضي نهاره صياماً وليله قياماً.
نحمده على أن جعلنا نرعى للأولياء ذماماً، ونسعى بالنعماء إليهم ابتداء وإتماماً، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً ترفع للمخاصين في عليين مقاماً، وتدفع بأعمال الصدق عن المتوكلين عليه بأساً وأسقاماً، ونشهد أن عليين مقاماً، وتدفع بأعمال الصدق عن المتوكلين عليه بأساً وأسقاماً، ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله الذي جعله للمتقين إماماً، وفضله على النبيين إجلالاً وإعظاماً، وكمله بالسمات المكرمات، والصفات المشرفات، مما لا يضاهى ولايسامى، صلى الله عليه وعلى آله الذين شرفوا إضافة إلى نسبه الشريف وانضماماً، ورضي الله عن أصحابه الذين عرفوا الحق فبذلوا في إقامته اجتهاداً واهتماماً، صلاةً تجمل افتتاحاً واختتاماً، وتجزل إرباحاً وإنعاماً، وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد، فشيمنا العدل والإنصاف، لمن له بيمن الأعراق اتصال وبحسن الأخلاق اتصاف، ومن كرمنا الفضل والإسعاف، لمن لاخفاء في تعينه لتصدير التقديم وتكريم التكريم ولاخلاف، ومن سجايانا الجميلة أن لاتضاع حقوق من هو في الزهادة والعبودية إمام، لألسنة الأيام، بحلاه الحسنة إقرار واعتراف، لمزايانا جميل المحافظة، وجليل الملاحظة، لمن توكل على الله حق التوكل فله انتصار بالله تعالى وانتصاف: لأنه العريق الأسلاف، الرفيق بالضعاف، الحقيق بتوفير التوفيق الذي له بحركاته المباركة اكتناف، المطيق النهوض بأعباء الرياسة: لأن للقلوب على محبته ائتلاف، السبوق إلى غايات الغلوات الذي تحف به في بلوغ آماد الإسعاد من الله تعالى ألطاف، والصدوق النية مع الله تهالى فكم والى لنعمائه الزيادة والاستئناف.
وكان المجلس العالي الشيخي، الإمامي، الكبيري، العالمي، العاملي، الأوحدي، القدوي، الورعي، الزاهدي، الناسكي، الخاشعي، السالكي، الأصيلي، العريقي، القوامي، العلامي، النظامي: جمال الإسلام والمسلمين، شرف العلماء في العالمين، أوحد الفضلاء، قدوة المشايخ، مربي السالكين، كنز الطالبين، موضح الطريقة، مبين الحقيقة، شيخ شيوخ العارفين، بركة الملوك والسلاطين، ولي أمير المؤمنين، إسحق ابن الشيخ المرحوم فلان- أدام الله النفع ببركاته- هو المفوض أموره إلى ربه، المعرض عن الدنيا بباطنه وقلبه، المتعوض بما عند الله من فضله فما زال الإيثار من شأنه ودأبه، إلى إخوانه وصحبه، فهو من الذين يطعمون الطعام على حبه، ويلهمون من العمل المبرور إلى اقربه من الله وأحبه، ويقومون الظلام مع أولياء الله المخلصين وحزبه، ويستديمون الإنعام من الله تعالى بالإحسان إلى عباده ففرعهم لأصلهم في صنعهم الإنعان من الله تعالى باإحسان إلى عباده ففرعهم لأصلهم في صنعهم مشبه، ويستسلمون لأحكام الله تعالى وكلهم شاكر لربه، على حلو القضاء ومره صابر على سهل الأمر وصعبه، سائر بالصدق في شرق الوجود وغربه، مثابر على الحق في عجم الخلق وعربه.
فلذلك رسم بالأمر الشريف- لازال يوصل الحقوق إلى مستحقيها، ويجمل الوثوق بمن تتجمل المراتب الدينية منه بترقيها- أن يفوض إلى المشار إليه مشيخة الخانقاه السعيدة الناصرية بسرياقوس- قدس الله روح واقفها- ومشيخة الشيوخ بالديار المصرية، والبلاد الشامية والحلبية، والفتوحات الساحلية، وسائر الممالك الإسلامية المحروسة، على عادته في ذلك وقاعدته ومعلومه، وأن يكون مايخص بيت المال المعمور من ميراث كل من يتوفى من الصوفيه بالخانقاه المذكورة للمشار إليه، بحيث لايكون لأمين الحكم ولا لديوان المواريث معه في ذلك حديث، وتكون أمور الخانقاه المذكورة فيما يتعلق بالمشيخة وأحوال الصوفية راجعةً إليه، ولايكون لأحدٍ من الحكام ولا من جهة الحسبة ولاالقضاة في ذلك حديث معه، ولايشهد أحد من الصوفية ولاينتسب إلا بإذنه على العادة في ذلك، ويكون ذلك معدوقاً بنظره.
فليعد إليها عوداً حميداً، وليفد من الإصلاح مالم يزل مفيداً، وليعتصم بالله تعالى مولاه فيما تولاه، وقد آتاه الله تثبيتاً وتسديداً، وليشهد بها من القوم المباركين من كان عوده قبل الصوم عيداً؛ وهو أعزه الله تعالى المسعود المباشرة، المحمود المعاشرة، المشهود منه اعتماد الاجتهاد في الدنيا والآخرة، المعهود منه النفع التام، في فقراء مصر والشام، فكم أثر الخير وآثره، وكثر البر ووارته، ويسر السير الحسن الذي لم يبرح لسان الإجماع شاكره.
ونحن نوصيه عملاً بما أمر الله تعالى به رسوله صلى الله عليه وسلم في كتابه المبين، بقوله وهو أصدق القائلين: وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين وإن كنا نتحقق ما هو عليه من العلم والدين، والحكم الرصين، والزهد والورع اللذين نحن منهما على بينة ويقين، باتباع شروط الواقفين، والإمتاع بالعوارف أولياء الله العارفين: فإنه مازال حيث حل في جميع الآفاق، عاملاً في لإيصلا الحقوق لذوي الاستحقاق. ونأمرهم أن يكون لهم على تكريمه إتفاق، وفي متابعته اجتماع واتساق؛ فإنه شيخ الطوائف، وإمام تقتبس منه اللطائف، وتلتمس منه الهداية في المواطن والمواقف؛ والله تعالى يمتع ببركاته الأمة، ويسمع منه في الخلوات لنا الدعوات التي تكون لأوراده المقوبلة مفتتحة ومتمة، ويصله بعنايته التي تقيد الهم وتؤيد الهمة، ويجعله حيث كان للفقراء نعمةً وبين الناس رحمة؛ والعلامة الشريفة أعلاه، حجة بمقتضاه.
الضرب الخامس: أرباب الوظائف العادية:
من أرباب الوظائف بالديار المصرية بالحضرة أرباب الوظائف العادية، وكلها تواقيع، وهي على طبقات:
الطبقة الأولى: رئيس الأطباء المتحدث عليهم:
من يكتب له في قطع النصف بالمجلس العالي، وهو رئيس الأطباء المتحدث عليهم في الإذن في التطبب والعلاج والمنع في ذلك ومايجري هذا المجرى وهذه نسخة توقيع برياسة الطب، وهي: الحمد لله مؤتي الحكمة من يشاء من عباده، ومعطي أمانة الأرواح من ترقي في حفظها إلى رتبة اجتهاده، وجاعل علم الأبدان أحد قسمي العلم المطلق في حالي اجتماعه وانفارده، وموفق من جعل نصح خلق الله فيه سبباً لسعادة دنياه وذخيرةً صالحةً ليوم معاده، ومبلغ من كان دائباً في إعانة البرية على طاعة ربها بدوام الصحة غاية مرامه، ورافع رتبة من دل اختياره واختباره على وفور علمه ونجح علاجه وإصابة رأيه وسداده.
نحمده على نعمه التي خصت بنعمنا من كمل في نوعه وفصله وحسن في علمه وعمله قوله وفعله، وجمع من أمانة وظيفته ومعرفتها ماإذا جلس في أسنى مناصبها قيل: هذا أهله، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تشرق البصائر، بأضوائها وتفرق الضمائر، بإخلاصها من أدوائها، وتغدق بيمينها أنواء التوفيق فتتأرج رياض الإيمان بين روائها وإروائها، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي أنارت ملمته، فلم تخف على ذي نظر، وعلت أدلته، فلم ينلها من في باع رويته قصر، وبهرت معجزاته فلو حأولت الأنفاس حصرها أفناها العي والحصر، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين كانوا لأدواء القلوب علاجاً، ولسلسبيل الإيمان مزاجاً، وللبصائر السائرة في دجى الشبهات سراجاً، صلاةً دائمة الإقامة، متصلة الدوام إلى يوم القيامة، وسلم تسلمياً كثراً.
وبعد: فإن صناعة الطب علم موضوعها حفظ الأبدان النفيسة، ومقصودها إعانة الطبيعة على حماية الأعضاء الرئيسية، ومدارها الأعمر، على معرفة العوارض وأسبابها، ومدركها الأتم، الوقوع على الصواب في معرفة الجسوم وأوصابها؛ وحينئذٍ تتفاوت رتب أهلها عند تشعب مداركها، واختلاف مسالكها، وتشابه عللها، والتباس صوابها بخللها؛ إذ لايميز ذلك حق تمييزه إلا من طال في العلم تبحره، وحسن في رتب هذا الفن تصدره، وطابق بين نقله وعلاجه، وعرف حقيقة كل مركب من الأدوية ومفردٍ ولقب بشرعة التقوى إذ كان الإقدام على النفوس قبل تحقق الداء والدواء مذموماً شرعاً وعقلاً؛ ولذلك تحتاج إلى رئيس ينعم في مصالحها نظره، ويجمل في منافعها ورده وصدره، ويعتبر أحوال أهلها بمعيار فضله، ويلزم الداخل فيها ببلوغ الحد الذي لابد منه بين أرباب هذا الشأن وأهله، ويعرف لأكابر هذا الفن قدر منحهم الله من علم وعمل، ويبسط رجاء المبتديء إذا كمل نفسه حتى لايكون له فيها بغير كمال الاستحقاق طمع لاأمل.
ولمل كان المجلس السامي، القاضي، الأجل، الحكيم، فلان الدين: هو الذي بلغ من العلم غاية مراده، واحتوى من هذا الشأن على ماجمع به رتب الفاضلين فيه على آنفراده؛ فلو عاصره الرئيس لاعتمد عليه في كليات قانونه، أو الرازي لعلم أم 0 حاوية من بعض فنونه، قد حلب هذا العلمأشطره، وأكل قراءة هذا الفن رموزه وأسطره، وحل أسراره الغامضة، وارتوى من سحب رموزه بأنواء لم يسم غير فكره بروقها الوامضة، وأسلف منخدمة أبوابنا العالية سفراً وحضراً مااقتضى له مزية شكره، وتقاضى له مزيد التنبيه على قدره والتنويه بذكره، وحمد فيه الفريدان: صحة نقله وإصابة فكره، وعلم أنه جامع علوم هذه الصناعة فلا يشذ منها شيء عن خاطره ولايغيب منها نقل عن ذكره.
فلذلك رسم بالأمر الشريف- لازال شهاب فضله لامعاً، وسحاب بره هامعاً- أن يكون فلان متولي رياسة الأطباء بالديار المصرية على عادة تقدمه.
فليباشرهذه الرياسة ناظراً في مصالحها، مطلعاً من شهاب فضله مايزين أفقها زينة السماء بمصابيحها، متفقداً أحوال مباشريها، متلمحاً أحوال المستقبل بأعبائها والداخل فيها، سالكاً في ذلك سبيل من تقدمه من رؤسائها، حاكماً في أمورها بماجرت به العادة المستقرة بين أكابرها وعلمائها، مطارحاً من قدمت أمورها بما جرت به العادة المستقرة بين أكابرها وعلمائها، مطارحاً من قدمت هجرته فيها بما يقتضي له مراجعة أصوله، ملزماً من ظهر قصوره فيها بالتدربإلى حد لايقنع منه بدون حصوله، مجيباً في الإذن لمن أظهر الاستحقاق صدق ماآدعاه، قابلاً في الثبوت من مشايخ هذه الصناعة من لايشهد إلا بما علمه ولايخبر من التدرب إلا بما رآه ووعاه، متحرياً في الثبوت لدينه، آذناً بعد ذلك في التصرف إن ترقى علمه باستحقاقه إلى رتبة تعيينه؛ وليعط هذه الوظيفة حقها من تقديم المبرزين في علمها، وتكريم من محه الله درجتي نقلها وفهمها، وتعليم من ليس عليها من أدواتها المعتبرة غير وسمها واسمها، ومنع من يتطرق من الطرقية إلى معالجة وهو عار عن ردائها، وكف يد من يتجهم على النفوس فيما غمض من أدوائها قبل تحقق دوائها، واعتبار التقوى فيمن يتصدى لهذه الوظيفة فإنها أحد أركانها، واختيار الأمانة فيمن يصلح للإطلاع على الأعضاء التي لولا الضرورة المبيحة حرم الوقوف على مكانها؛ وليكن في ذلك جميعه مجانباً للهوى، ناوياً نفع الناس فإنما لمريء مانوى؛ والله تعالى يحقق له الأمل، ويسدده في القول والعمل، بمنه وكرمه.
قلت: وربما افتتح توقيعها بأما بعد حمد الله وهذه نسخة توقيع برياسة الطب، من إنشاء الشيخ سهاب الدين محمدوٍ الحلبي، كتب بها لشهاب الدين الحكيم في المحرم سنة تسع وسبعمائة، وهي: أما بعد حمد الله حاسم أدواء القلوب بلطائف حكمته، وقاسم أنواع العلوم بين من كمل استعدادهم لقبول مااقتضته حمته وقسمته، وجاعل لباس العافية من نعمه التي هي بعد الإيمان أفضل ماأفاض على العبد من بره وأسبغ عليه من نعمته، والمنزل من القرآن ماهو شفاء ورحمة للمؤمنين قل بفضل الله وبرحمته، ومقرب مانأى من الفضائل على من أسرى إليها على مطايا عزمه وسرى لتحصيلها على جياد همته، وملهم آرائنا بتفويض أمانة الأرواح إلى من أنفق في خدمة الطبيعة أيام عمره فكان بلوغ الغاية في علمها نتيجة خدمته، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي شرح الله بالهدى صدور أمته، وخصه منهم بأعلام كل علم وأئمته، وجلا بيقين ملته عن كل قلبٍ ماران عليه من الشك وغمته، وعلى آله وصحبه الذين حماهم من الزيغ والزلل مافجر الهدى لهم من جوامع الكلم وأفاض التقى عليهم من أنوار عصمته حفإن أولى الأمور أن يعتمد فيها على طبيبها الخبير، ويصان جوهرها عن عرض العرض عغى غير ناقدها البصير، وتحمى مواردها عمن لم يعرف كيف يجتنب مواقع التكدير، وترفع كواكبها عمن لم تدرك أفكاره دقائق الححوادث وحقائق التأثير- أمر صناعة الطب التي موضوعها الأبدان القائمة بالعبادة، والأجسام القائمة بما تيعاقب عليها من الحوادث والزيادة، والنفوس التي ماعنها إن حصل فيها التقريظ بدل ولاعوض، والأرواح التي إن عرض الفناء لجوهرها فلا بقاء بعده للعرض، والطبيعة التي إن خدمت على مايجب نهضت على مايجب بالصحة حق النهوض، والأمزجة التي إن نفرت لعدم التأتي في سياستها أعجزت من يروض.
ولذلك تفتقر على كثرة أربابها، وتحتاج مع غوارة المتمسكين بأسبابها، وتضطر وإن اندفعت الضرورات بكثرة متقنيها، وتتشوف وإن وجد الجم الغفير من المتلبسين بأدواتها والمتبحرين فيها- إلى رئيس ينعم في اعتبار أكفائها النظر، ويدفع عن رتبتها بتطرق غير أهل الغير، ويعرف من أحوال مباشريها ما لايكفي في خبرها؛ فلا يقبل إلا من علم مقدار علمه، ووثق مع الحفظ بصحة فهمه، ورضي عن خبره في الطب واجتهاده، واعتبر منه كل نوع تحت أجناسه المتعددة على حدته وانفراده، وجاراه في كليات الفن فرآه في كل حلبةٍ راكضاً، وطارحه في فصول العلم فوجده بحمل أعباء ماتفرع منها ناهضاً، واختبر دربته فوجدها موافقة لتحصيله، مطابقةً لما حواه من إجمال كل فن وتفصيله، وتتبع مواقع دينه فوحجدها متينه، ومواضع أمانته فألفاها مكينة، وأسباب شفقته ونصحه فعرف أنها على ماجمع من الأدوات الكاملة معينة؛ ويتعين أن يكون هذا الرئيس في أوانه، والرازي في زمانه، والفارابي في كونه أصلاً تتفرع فنون الحم في أفنانه؛ علاجه شفاء حاضر، وكلائه نجاة من كل خطر مخامر، وتدبيره للصحة تقويم، وتصفحه تثقيف لعلماء الصناعة وتسليم، ودروسه ذخائر ينفق من جواهر حكمها كل حكيم.
ولماكان المجلس العالي الصدري، الشهابي، هو المراد بالتعين لهذه الوظيفة، والمقصود بنا أشير إليه في استحقاق هذه الرتبة من عبارةٍ صريحةٍ أو كنايةٍ لطيفة، وأنه جمع من أدوات هذا الفن ماافتقرق، واحتوى على أصوله وفروعه فاجتمعت على أولويته الطوائف واتفقت على تفضيله الرفق؛ واحتوى على أصوله وفروعه فاجدتمعت على أولويته الطوائف واتفقت على تفضيله الفرق؛ فلو عاصره أبقراط لقضى له في شرح فصوله بالتقدمة، ولو أدرك جالينوس لاقتدى في العلاج بما علمه؛ ومع مباشرة ألفت بين الصحة والنفوس، وملاطفة أشرقت مواقع البرء بها في الأجساد إشراق الشموس، واطلاع يعرف به مبلغ ما عند كل متصد لهذه الصناعة من العلم، وتبحر في الفنون لايسلم به لأحدٍ دعوى الأهلية إلا بعد حرب جدالٍ هو في الحقيقة عين السلم- فرسم بالأمر العالي أن يستقر فلان في رياسة الأطباء الطبائعية بالديار المصرية والشام المحروس، على عادته وعادة من تقدمه في ذلك، ويكون مستقلاً فيها بمفرده.
فلينظر في أمر هذه الطائفة نظراً تبرأ به الذمة، ويحصل به على رضا الله تعالى روضا رسوله صلى الله عليه وسلم في الشفقة على الأمة، ويعطي به الصناعة حقها، ويطلق من يد من تطأول إليها بغير أهليةٍ رقها، ويصون النفوس من إقدام من تقدم بغير خبرةٍ كاملةٍ عليها، ويذب عن الأرواح تطرق من يتطرق بغير معرفة وافرةٍ إليها، فإن فارط التفريط في النفوس قل أن يستدرك، ومن لم تجتمع فيه أدوات المعرفة التامة والدين فما ينبغي له أن يدخل في المعالجة قبل الكمال وإن دخل فلا يترك؛ والدين فما ينبغي له أن يدخل في المعالجة قبل الكمال وإن دخل فلا التامة والدين فما ينبغي له أن يدخل في المعالجة قبل الكمال وإن دخل فلا يترك؛ فإن من لازم صلاح الأرواح صلاح الأجساد، وإن الداء الذي لادواء له أن تكون العلة في وادٍ والمعالجة في وادٍ، فلا يقبل في التزكية إلا من يثق بدينه كوثوقه بعلمه، ولايصرف أحداً في هذه الصناعة إلا الذين زكت أعمالهم قبل التزكية؛ وليشفعها بالامتحانات التي تسفر عن وحجوه الوثوق بالأهلية لثام دقائقها المنكية، فإن العيان شاهد لنفسه، ومن لم تنفعه شهادة فعله في يومه لم ينفعه غيره في أمسه، ولايمض فيها حكماً قبل استكمال نصاب الشهادة، وقبل التثبت بعد كمالها: فإن المعالجة محاربة للدعء والموت بجهالة المحارب له شهادة، وليأمر من ألجيء إلى معالجة مرض لايعرفه بمتابعة من هو أوفق منه بالتقديم، ومراجعة من هو أعلم منه به: فإن الحوادث قد تختلف وفوق كل ذي عليم عليم. وملاك المور تقوى الله فليجعلها حجته فيما بين الله وبينه، والافتقار إلى توفيقه فليصرف إلى ذلك قلبه وعينه؛ والخير يكون إن شاء الله تعالى.
وهذه وصية متطبب طبائعي، أوردها في التعريف قال:
وليتعرف أولاً حقيقة المرض بأسبابه وعلاماته، ويستقص أعراض المريض قبل مداواته، ثم ينظر إلى السن والفصل والبلد؛ ثم إذا عرف حقيقة المرض، وقدر مايحتمله المزاج من الدواء لما عرض، يشرع في تخفيف الحاصل، وقطع الواصل، مع حفظ القوى. ولايهاجم الداء، ولايستغرب الدواء، ولايقدم على الأبدان إلا بما يلائمها، ولايبعد الشبه، ولايخرج عن جادة الأطباء ولو ظن الإصابة حتى يقوى لديه الظن ويتبصر فيه برأي أمثاله، وليتجنب الدواء، ماأمكنه المعالجة بالغذاء، والمركب، ما أمكنه المعالجة بالمفرد؛ وإياه والقياس إلا ماصحح بتجريب فغيره في مثل مزاج من أخذ في علاجه؛ وماعرض له، وسنه، وفصله، وبلده، ودرجة الدواء. وليحذر من التجربة، فقد قال أبقراط وهو رأس القوم: إنها خطر. ثم إذا اضطر إلى وصف دواءٍ صالح للعلة نظر على ما فيه من المنافاة وإن قلت، وتحيل لإصلاحه بوصف يصلح معه، مع الاحتراز في وصف المقادير والكميات والكيفيات في الاستعمال والأوقات، ومايتقدم ذلك الدواء أو يتأخر عنه. ولايأمر باستعمال دواء، ولاما يستغرب في غذاء، حتى يحقق حقيقته، ويعرف جديدة من عتيقه: ليعرف مقدار قوته في الفعل. وليعلم أن الإنسان هو بنية الله وملعون من هدمها، وأن الطبيعة مكافية وبؤسى لمن ظلها، وقد سلم الأرواح وهي وديعة الله في هذه الأجسام، فليحفظها وليتق الله ففي ذلك جميع الأقسام وإياه ثم إياه أن يصف دواءً ثم يكون هو الذي يأتي به، أو يكون هو الذي يدل عليه، أو المتولي لمنأولته للمريض ليستعمله بين يديه، وفي هذا كله لله المنة ولنا إذ هديناه له وأرشدناه إليه.
وهذه نسخة توقيع برياسة الكحالين................
الضرب السادس من أرباب الوظائف بالديار المصرية: زعماء أهل الذمة:
ويكتب لجميعهم تواقيع في قطع الثلث بألقابهم السابقة مفتتحةً بأما بعد حمد الله ويشتمل هذا الضرب على ثلاث وظائف:
الوظيفة الأولى: رآسة اليهود:
وموضوعها التحدث على جماعة اليهود والحكم عليهم، والقضاء على مقتضى دينهم وغير ذلك.
وقد تقدم في الكلام على النحل والملل أن الموجودين من اليهود ثلاث طوائف: وهم الربانيون، والقراؤون، والسامرة. وقد جرت العادة أن يكون الرئيس من طائفة الربانيين دون غيرهم، وهو يحكم على الطوائف الثلاث.
وهذه نسخة توقيع برآسه اليهود، من إنشاء القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر، وهي: أما بعد حمد الله الذي جعل ألطاف هذه الدولة القاهرة تصطفي لذمتها من اليهود رئيساً فرئيسا، وتختار لقومها كما اختار من قومه موسى، وتبهج لهم نفوساً كلما قدمت عليهم نفيسا، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الأمي، والرسول الذي أجمل الوصية بالملي والذمي، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه كماهطل وبلي، ومانزل وسمي- فإن معدلة هذه الدولة تكتنف الملل والنحل بالاحتياط، وتعمهم من إنصافها وإسعافها بأوفر الأنصباء وأوفى الأقساط، وتلمهم من حادث الزمن إذا اشتط ومن صرفه إذا شاط، وتضمهم كما ضمت البنوة إلى جناح النبوة الأسباط، لاتزال ترقب الإل والذمة في المسلمين وأهل الذمة، وتقضي لهم بحسن الخبرة ورعاية الحرمة، وتبيحهم من أمر دينهم ماعليه عوهدوا، وتمنحهم من ذلك ماعليه عوقدوا، وتحفظ نواميسهم بأحبارٍ تحمد موادهم إذا شوفهوا وتحسن مرآهم إذا شوهدوا: من كل إسارئيلي أجمل للتوراة الدرسة، وأحسن لأسفار أنبيائه اقتباسه وأجمل التماسه، ومن نبهته نباهته للتقدمة فما طعم اجتهاده يوماً حتى صار وجه الوجاهة في قومه ورأس الرأسة، فأصبح فيهم معدوم النظير، معدوداً منهم بكثير، وموصوفاً بأنه في شرح أسفارٍ عبرانية حسن التفسير، واستحق من بين شيعته أن يكون رئاس الكهنة، وأن تصبح القلوب في مجامعهم بحسن منطقة مرتهنة، وبأن للجهالة بتثقيفه لشيعته تحجب عقائدهم عن أن تغدو ممتهنة.
ولما كان فلان هو لمحاسن هذا التقريظ بهجة، ولجسد هذا التفويض مهجة، ولممادح هذا الثناء العريض لهجة، ولعين هذا التعيين غمضها، وليد هذه الأيادي بسطها وقبضها، ولأبكار أفكار هذه الأوصاف متقاضيها ومقتضها، ومن أدنيت قطاف النعماء ليد تقدمته على غيظ من غص منها واجتنى غضها- اقتضى حسن الرأي الشريف أن يميز على أبناء جنسه حق التمييز، وأن يجاز له من التنويه والتنويل أجل ماجيز.
ورسم بالأمر الشريف- لازال يختار فيجمل الاختيار، ويغدو كالغيث الذي يعم بنفعه الربا والوهاتد والأثمار والأشجار- أن تفوض إليه رآسه اليهود على اختلافهم: من الربانيين، والقرائين، والسامرة بالديار المصرية حماها الله وكلأها، فليجعل أسبابهم بالتقوى تقوى، وغروسهم بالتدبير لاتذوى، ومقاصدهم لايمازجها شك وشكوى، ولينزل عليهم منا مناً يسليهم صنعاً حتى لايفارقوا واختلابها تأتيه؛ وإياه والتيه حتى لايقال: كأنه بعد لم يخرج من التيه.
وجماعة الربانيين فهم الشعب الأكبر، والحزب الأكثر؛ فعاملهم بالرفق الأجدى والسر الأجدر، ولكونك منهم لاتمل معهم على غيرهم فيما به من النفس الأمارة تؤمر.
وجماعة القرائين فهم المعروفون في هذه الملة، لملازمة الأدلة، والاحتراز في أمر الأهلة، فانصب لأمرهم من لم يتوله حين يتوله؛ ومن كان منهم له معتقد فلا يخرج عن ذلك ولايحرج، ولايلجم منهم بلجام ٍ من نار إنكار من في ليلة سبته بيته عليه لايسرج.
والسامرة فهم الشعب الذين آذن التنظيف أهله بحروبه، ولم يك أحدهم لمطعم لكم ولامشرب بأكوله ولاشروبه؛ فمن قدرت على رده بدليلٍ من مذهبك في شروق كل بحث ٍ وغروبه، فاردده من منهج تحيده عن ذلك وهروبه، وإلا فقل له: ياسامري بصرت بما لم تبصروا به. وليكن حكمك فيهم بالبت، وافق بهم فإن «المنبت لا أرضاً قطع ولاظهراً أبقى» فإياك أن تكون ذلك المنبت، ومرهم بملازمة قوانينهم كيلا يعدو أحد منهم في السبت، واجعل أمور عقودهم مستتبة، وأحسن التحري والتحرير لهم في إتقان كل كتبة؛ ولاتختر إلا الأعيان، من كل خزانة وديان؛ ومن كان له من داود عليه السلام لحمة نسب، وله به حرمة نسب، فارغ له حقه، وأصحبه من الرفق أكرم رفقة. والجزية فهي لدمائكم وأولادكم عصمة، وعلى دفاعها لادافعها وصمة، ولأجلها ورد: «من آذى ذمياً كنت خصمه»، وهي ألم من السيف إجارة، وهي أجرة سكنى دار الإسلام كما هي لاستحقاق المنفعة بها إجارة؛ فأدوها، وبها نفوسكم فأدوها، {وإن تعدو نعمة الله لاتحصوها}، فعدوا ألطاف الله بها ولا تعدوها؛ ودوام على مه، زجراً لتارك علامة؛ ومن قصد منها خلاصه، فقل له في الملأ: ماذا خلاصة؛ ومن ركن في أمرها إلى الإخلاد والإخلال، وسكن إلى الإهمال، ولم يرض بأن راية الذلة الصفراء على رأسه تشال، فأوسعه إنكار، وألزمه منا شعاراً؛ وإن قام بنصره منهم معشر خشن فأرهم بعد العلامة خشكاراً؛ وخذهم بتجنب الغش ىالذي هو للعهد مغير ومغيب، واكفف من هو لما ينافيه معير ومعيب؛ وأما من هو مجيب لذلك فهو لقصده محبب، وانقل طباعهم عن ذلك وإن أبت عن التناقل فانتقامنا يتلو: {قل لا يستوي الخبيث والطيب}. وقد علم أن الذي تتعاطونه من نفخ في البوق إنما هو كما قلتم للتذكار، فاجتهدووا أن لايكون لتذكار العجل الحنيذ الذي له خوار؛ هذه وصايانا لك ولهم فقل لهم: هذه موهبة الدولة وإحسانها إليكم، ولطفها بكم وعاطفتها عليكم، وبصرهم بذلك كلما تلا إحساننا إليهم: {يا بني اسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم}.
وهذه نسخة توقيع برآسة اليهود أيضاً:
أما بعد حمد الله على أن جعل ملاحظة هذه الدولة القاهرة لجميع الملل ناظرة، وإحسانها لايغفل مصلحة لأولي الأديانم غائبةً ولاحاضرة، والصلاة على سيدنا محمد الذي جعل ذمته وعهده وفيين لك نسمة مؤمنةٍ وكافرة- فإن الله تعالى لما مد رواق عدل هذه الأيام الشريفة على كل معاهد: من متقربٍ ومتباعد، وساوى بينهم في النظر الذي صدق الرأي وصدق الرائد- اقتضى جميلها أن يسهم لكل من أهل الذمة أوفر نصيب، وأن لايقال لأحد منهم من الإجحاف مايريب، وأن لاتكون أمورهم مضاعة، ولاتعبداتهم مراعة، ولا شرائعهم غير مصونة، ولاأحكامهم عاريةعن حسن معون؛ وكانت جماعهة اليهود وإن كانوا أولي غي، وصدق النصارى فيهم وصدقوا في النصارى من أنهم ليسوا على شي، لابد لهم من مباشرٍ يأخذهم بالأمر الأحوط، والناموس الأضبط، والمراسيم التي عليهم تشرط؛ وكان الذي يختار لذلك ينبغي أن لا يكون إلا من أكبر الكهنة وأعلم الأحبار، وممن عرف م ندينهم مالأجله يصطفى ولمثله يختار، وممن فيه سياسة تحجزه عن المضار، وتحجبه عن الاستنفار، وكان فلان الرئيس هو المتميز بهذه الأوصاف على أبناء جنسه، وله وازع من نفسه، ورادع من حسن حدسه، وخدمة في مهمات الدولة يستحق بها الزيادة في أنسه، وهو من بين جماعته مشهور بالوجاهة، موصوف بالنباهة، ذو عبرانية حسنة التعبير، ودراسةٍ لكتب أهل ملته على مافيها من التغيير- اقتضى جميل الاختصاص المنيف، أن يرسم بالأمر الشريف- لابرح يرقب الإل ولالذمة، ويرعى للمعاهدين الحرمة، أن تفوض إليه رآسة اليهود الربانيين والقرآئين والسامرة، على عادة من تقدمه.
فليباشر ذلك مستوعباً أمورهم كلها، مستودعاً دقها وجلها، مكباشراً من أحوالهم ماجرت عادة مثله من الرؤساء أنيباشر مثلها، غير مفرط في ضبط ناموس من نواميس المملكة، ولامغفل الإنكار على من يتجاوزذلك إلى موارد الهلكة؛ ومن فعل مايقضي بنفض عهده، فعليه وعلى مستحسنه له من المقاتلة مايتعظ به كل من يفعل ذلك من بعده؛ بحيث لايخرج أحد منهم في كنيسته ولافي يهوديته ولافي منع جزيته عن واجبٍ معهود، ومن خالف فوراء ذلك من الأدب ماتقضعر منه الجلود؛ وماجعلهم الله ذمة للمسلمين إلا حقناً لدمائهم، فلا يبحها أحد منهم فتاجتمع له شماتة أهل الأديان من أعدائهم بأعدائهم- الوصايا كثيرة وإنما هذه نخبتها الملخصة، وفيها من حساب الإحسان إليهم ماتغدو به أيام الإمهال لهم ممحصة، والله يوفقه في كل تصرف مرغوب، وتأفف من مثله مطلوب، بمنه وكرمه! وهذه وصية لرئيس اليهود أوردها في التعريف وهي:
وعليه بضم جماعته، ولم شملهم باستطاعته، والحكم فيهم على قواعد ملته، وعوائد أئمته؛ في الحكم إذا وضح له بأدلته، وعقود الأنكحة وخواص يعتبر عندهم فيها على الإطلاق، ومايفتقر فيها إلى الرضا من الجانبين في العقد يعتبر عندهم فيها على الإطلاق، ومايفتقر فيها إلى الرضا من الجانبين في العقد والطلاق، وفيمن أوجب عنده حكم دينه عليه التحريم، وأوجب عليه الانقياد إلى التحكيم، وماأدعوا فيه التواتر من الأخبار، والتظافر على العمل به مما لم يوجد فيه نص وأجمعت عليه الأحبار، والتوجه تلقاء بيت المقدس إلى جهة قبلتهم، ومكطان تعبد أهل ملتهم، والعمل في هذا جميعه بما شرعه موسى الكليم، والوقوف معه إذا ثبت أنه فعل ذلك النبي الكريم، وإقامة حدود التوراة على ماطأنزل الله من غير تحريف؛ ولاتبديل كلمة ٍ بتأويل ولاتصريف، واتباع ماأعطوا عليه العهد، وشدوا عليه العقد، وأبقوا فيه ذماءهم، ووقوا به دماءهم وماكانت تحكم به الأنبياء والربانيون، ويسلم إليه الإسلاميون منهم ويعبر عنه العبرانيون؛ كل هذا مع إلزامه لهم بما يلزمهم من حكم أمثالهم أهل الذمة الذين أقروا في هذه الديار، ووقاية أنفسهم بالخضوع والصغار، ومد رؤوسهم بالإذعان لأهل ملة الإسلام، وعدم مضايقتهم في الطرق وحيث يحصل الالتباس بهم في الحمام، وحمل شعار الذمة الذي جعل لهم حلية العمائم، وعقد على رؤوسهم لحفظهم عقد التمائم؛ وليعلم أن شعارهم الأصفر، موجب لئلا يراق دمهم الأحمر، وأنهم تحت علم علامته آمنون، وفي دعة أصائله ساكنون؛ وليأخذهم بتجديد صبغة في كل حين؛ وليأمرهم بملازمته ملازمةً لاتوال علائمها على رؤوسهم تبين، وعدم التظاهر لما يقتضي المناقضة، أو يفهم منه المعارضة، أو يدع فيه غير السيف وهو إذا كلم شديد العارضة؛ وله ترتيب طبقات أهل ملته من الأحبار فمن دونهم على قدر استحقاقهم، وعلى مالا تخرج عنه كلمة اتفاقهم؛ وكذلك له الحديث في جميع كنائس اليهود المستمرة إلى الآن، المستقرة بأيديهم من حين عقد عهد الذمة ثم ما تأكد بعده لطول الزمان، من غير تحجديد متجدد، ولاإحداث ثدر متزيد؛ ولافعل شيءٍ مما لم تعقد عليه الذمة، ويقر عليهم سلفهم الأول سلف هذه الأمة، وفي هذا كفاية وتقوى اللهوخوفنا بأسنا رأس هذه الأمور المهمة.
وصية رئيس السامرة: ولايعجز عن لم شعث طائفته مع قلتهم، وتأمين سربهم الذي لو لم يؤمنوا فيه لأكلهم الذئب لذلتهم؛ وليصن بحسن السلوك دماءهم التي كأنما صبغت عماشمهم الحمر منها بما طل، وأقود لهم منها النار الحمراء فلم يتقوها إلا بالذل، وليعلم أنهم شعبة من اليهود لايخالفونهم في أصل المعتقد، ولافي شيء يخرج عن قواعد دينهم لمن انتقد؛ ولولا هذا لما عدول في أهل الكتاب، ولاقنع منهم إلا بالإسلام أو ضرب الرقاب؛ فليبن على هذا الأساس، ولينبيء قومه أنهم منهم وإنما الناس أجناس، وليلتزم من فروع دينه مالايخالف فيه إلا بأن يقول لامساس؛ وإذا كان كما يقول: إنه كهارون عليه السلام فليلتزم الجدد، وليقم من شرط الذمة بما يقيم به طول المدد، وليتمسك بالموسوية من غير تبديل، ولاتحريف في كلمٍ ولاتأويل، وليحص عمله فإنه عليه مسطور، وليقف عند حده ولايتعد طوره في الطور، وليحكم في طائفته وفي أنكحتهم ومواريثهم وكنائسهم القديمة المعقود عليها بما هو في عقد دينه، وسبب لتوطيد قواعده في هذه الرتبة التي بلغها وتوطينه.
الوظيفة الثانية: بطركية النصارى الملكية:
وهم أقدم من اليعاقبة، وقد تقدم في الكلام على النحل والملل أنهم أتباع ملكا الذي ظهر قديماً ببلاد الروم، وأن الروم والفرنج كلهم اتباعه، وبالديار المصرية منهم النزر اليسير، ولهم بطرك يخصهم.
وهذه نسخة توقيع لبطرك الملكية:
أما بعد حمد الله منوع افحسان، لأولي الأديان، وموصله ومفرعه لكل طائفةٍ ولكل إنسان، والصلاة على سيدنا محمدٍ الذي أباد الله من أباد وأبان منعهده وذمته من أبان- فإن الطائفة الملكية من النصارى لما كانت لهم السابقة في دينهم، ولهم أصل الرآسة والنفاسة في تعيينهم ومابرحت لهم في الكلاءة والحفظ قدم السابقة، ورتبة بملوكهك الرومانية سامقة، ومازالت لهم خدم الدول إلى أغراضها متسوقةً ومتسابقة، ولهم جوار مشكور، وتبتل مشهور، وعليهم وصايا من الملوك في كل ورود وصدور، ولهم م نفوسهم مزايا تستوجب احترامهم، وتستدعي إكرامهم، وكان لابد لهم من بطريركٍ يلاحظ أحوالهم أتم الملاحظة، ويستدعي لهم من الدولة أعظم محافظة، ويحفظ نواميس قبيلهم، ويحسن دراسة أناجيلهم، ويعرفهم قواعد معتقداتهم، ويأخذهم بالدعاء لهذه الدولة القاهرة في جميع صلواتهم، ويجمعهم على سداد، ويفرقهم على مراد، وكان البطريرك فلان هو المتفق بين طائفته على تعيينه، والمجمع على إظهار استحقاقه وتبيينه، والذي له مزايا لو كان فيه واحدة منها لكفته في التأهيل، ولرفعته إلى منصب الجليل، فلذلك رسم... إلخ. لا برح يعطي كل أحد قصطه، ويدخل كل لأبوابه ساجداً وقائلاً حطة- أن يباشر بطركية النصارى الملكية على عادة من البطاركة السالفة لهذه الدولة.
فليحط أمورها الجزئية والكلية، والظاهرة والخفية، وليأخذهم بما يلزمهم من قوانين شرعتهم، وكل مايريدون من حسن سمعتهم؛ وأما الديرة والبيع والكنائس التي للملكية فمرجعها إلى صونه، وأمرها مردود إلى جميل إعانته وعونه؛ والأساقفة والرهبان فهم سواد عين معتقده، وخلاصة منتقده، فلا يخلهم من تبجيل، وحسن تأهيل، وتتقدم إلى من بالثغور من جماعتك بأن لايدخل أحد منهم في أمر موبق، ولافي مشكل موثق، ولايميلون كل الميل إلى غربي من جنسهم، وليكن الحذر لغدهم من يومهم وليومهم من أمسهم، ولايشاكلون رسولاً يرد، ولاقاصداً يفد؛ وطريق السلامة أولى ماسلك، ومن ترك الدخول فيما لايعنيه ترك؛ هذه جملة من الوصية لامعة أفلح واهتدى من بها استنار، ورشد من لها استشار،؛ والله يوفقك في كل مقصد تروم، ويجعلك بهذه الوصايا تقول وتقوم.
وهذه وصية لبطرك الملكية أوردها في التعريف وهي: وهو كبير أهل ملته والحاكم عليهم ماامتد في مدته، وإليه مرجعهم في التحريم والتحليل، وفي الحكم بينهم بما أنزل في التوراة ولم ينسخ في الإنجلي؛ وشريعته مبنية على المسامحة والاحتمال، والصبر على الأذى وعدن الاكتراث به والاحتفال، فخذ نفسك في الأول بهذه الآداب، واعلم بأنك في المدخل إلى شريعتكم طريق إلى الباب؛ فتخلق من الأخلاق بكل جميل، ولاتستكثر من متاع الدنيا فإنه قليل؛ وليقدم المصالحة بين المتحاكمين إليه قبل الفصل البت فإن الصلح كما يقال سيد الأحكام، وهو قاعدة دينه المسيحي ولم تخالف فيه المحمدية الغراء دين الإسلام، ولنظف صدور إخوانه من الغل ولايقنع بما ينظفه ماء المعمودية من الأجسام؛ وإليه أمر الكنائس والبيع، وهو رأس جماعته والكل له تبع؛ فإياه أن يتخذها له تجارةً مربحة، أو يقتطع بها مال نصراني يقربه فإنه مايكون قد قربه إلى المذبح وإنما ذبحه؛ وكذلك الديارات وكل عمر، والقلالي فيتعين عليه أن يتفقد فيها كل أمر؛ وليجتهد في إجراء أمورها على مافيه رفع الشبهات، وليعلم أنهم إنما اعتزلوا فيها للتعبد فلا يدعها اتتخذ متنزهات؛ فهم إنما أحدثوا هذه الرهبانية للتقلل في هذه الدنيا والتعفف عن الفروج، وحبسوا فيها أنفسهم حتى إن أكثرهم إذا دخل فيها مايعود يبقى له خروج؛ فليحذهم من عملها مصيدةً للمال، أوخلوة له ولكن بالنساء حراماً ويكون إنما تنزه عن الحلال؛ وإياه ثم إياه أن يؤوي إليها الغرباء القادمين عليه من يريب، أو يكتم عن الإنهاء إلينا مشكل أمرٍ ورد عليه من بعيد أوقريب، ثم الحذر الحذر من إخفاء كتاب يرد عليه من أحدٍ من الملوك، ثم الحذر الحذر من الكتابة إليهم أو المشي على مثل هذا السلوك، وليجتنب البحر وإياه من اقتحامه فإنه يغرق، أوتلقي مايلقيه جناح غرابٍ منه فإنه بالبين ينعق؛ والتقوى مأمور بها أهل كل ملة، وكل موافق ومخالف في القبلة؛ فليكن عمله بها وفي الكناية ما يغني عن التصريح، وفيها رضا الله تعالى وبها أمر المسيح.
الوظيفة الثالثة: بطركية اليعاقبة:
وقد تقدم في الكلام على النحل والملل الخلف في نسبتهم: فقيل إنهم أتباع ديسقرس، وإنه كان اسمه في الغلمانية يعقوب، وقيل اتباع يعقوب البرذعاني، وقيل غير ذلك، والأصح عندج المؤرخين الأول، وبطركهم يحكم على طاءفة اليعاقبة، وجميع نصارى الحبشة أتباعه، وفي طاعته ملك الحبشة الأكبر، وعنه تصدر ولايته.
وهذه نسخة توقيع لبطرك النصارى اليعاقبة: أما بعد حمد الله الذي أظهر دين الإسلام على الدين كله، وأصدر أمور الشرائع عن عقد شرعه وحله، وصير حكم كل ملة راجعاً إلى حكم عدله، والشهادة له بالوحدانية التي تدل على أ، ه الواحد الأحد الذي لم يلد ولم يولد وليس شيء كمثله، والصلاة السلام على سيدنا محمد أعظم أنبيائه وأكرم رسله، وأشرف ولد آدم ونسله، المصطفى في علم الله من قبله، ووسيلته في التوراة من غرور الشيطان وخذاله، والذي أطفأ الله ببركته نار نمروذ عن إبراهيم وجعلها برداً وسلاماً وأجله من أجله، وبشر به عيسى بن مريم عبد الله وابن أمته وأقر موسى بن عمران كليم الله بفضله، وعلى آله الطيبين الطاهرين من فروع أصله، وأصحابه سامعي قوله، وتابعي بله- فإن الله تعالى لما ارتضى الإسلام ديناً، وأفضى بالملك إلينا وقضى لنا في البسيطة بسطة وتمكيناً، وأمضى أوامرنا المطاعة بشمول اليمن شمالاً ويميناً- لم نزل نولي رعابيانا الإحسان رعايةٍ وتوطينا، ونديم لأهل الذمة منا ذمةً وتأميناً؛ وكانت طائفة النصارى اليعاقبة بالديار المصرية لهم من حين الفتح عهد وذمام، ووصية سابقة من سبدنا رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام؛ ولابد من بطريرك يرجعون إليه في الأحكام، ويجتمعون عليه في كل نقض وإبرام.
ولما كانت الحضرة السامية الشيخ الرئيس، المبجل، المكرم، الكافي، المعزز المفخر، القديس، شمس الرآسة، عماد بني المعمودية، كنز الطائفة الصليبية، اختيار الملوك والسلاطين، فلان: وفقه الله، هو الذي تجرد وترهب، وأجهد روحه وأتعب، وصام عن المأكل والمشرب، وساح فأبعد، ومنع جفنه لذيذ المرقد، ونهض في خدمة طائفته وجد، وخفض لهم الجناح وبسط الخد، وكف عنهم اليد، واستحق فيهم التبجيل لما تميز به عليهم من معرفة أحكام الإنجيل وتفرد- اقتضى حسن الرأي الشريف أن نلقي إليه أمر هذه الفرقة ونفوض، ونبدلهم عن بطريكهم المتوفى ونعوض.
فلذلك رسم بالأمر الشريف- لابرحت مراسمه مطاعة، ومراحمه لإنزال أهل كرمها بيعتها مرعية غير مراعة- أن يقدم الشيخ شمس الرآسة المذكور على الملة النصرانية اليعقوبية، ويكون بطريركاً عليها، على عادة من تقدمه وقاعدته بالديار المصرية، والثغور المحروسة، والجهات التي عادته بها إلى آخر وقت.
فليسلك سبيل السوا، ولايملك نفسه الهوى، وليتمسك بخوف الله تعالى إن فعل أو نوى، أو أخبر عن الحواريين أو روى؛ فالعليم مراقب، والعظيم معاقب، والحكيم أمر أولي العقول بالفكرة في العواقب، والحالكم ذغا بحقوق الخلق غداً يطالب؟ والظلم في كل ملة حرام والعدل واجب، فليستوف الإنصاف بين القوي والضعيف والحاضر والغائبيقصد مصلحتهم وليعتمد نصيحتهم، وليمض على مايدينون به بيوعهم وفسوخهم ومواريثهم وأنكحتهم، وليقمع غاوويهم، وليسمع دعاويهم، وليلزمهم من دينهم بما وجدوه، فطنوه واعتقدوه، وليتبع سبيل المعدلة فلا يعدوها؛ عائدة إليه أمور القسيسين واعتقدوه، وليتبع سبيل المعدلة فلا يعدوها؛ عائدة إليه أمور القسيسين والرهبان، في جميع الديرو الكنائس بسائر البلدان، ولايعترض عليه فيما هو راجع إليه من هذا الشان... ولايقدم منهم إلى رتبة إلا من استصلحه، ولايرجح إلى منزلةٍ إلا من رشحه إليها ورجحه، متبعاً في ذلك مابينه له العدل وأوضحه، مرتجع الرتبة ممن لم تكن الصدور لتقدمته منشرحة، مجمعاً لغيره في الإيراد والإصدار على اعتماد المصلحة؛ وقد أوضحنا له ولهم سبيل النجاة فليقتفوه، وعرفناهم بالصواب والخيرة لهم إن عرفوه، وليسأل الله ربه السلامة فيما لم يفعل وبهع يفوه؛ والعلامة الشريفة أعلاه.
وهذه نسخة توقيعٍ لبطرك النصارى اليعاقبة، كتب به للشيخ المؤتمن، في شهور سنة أربع وستين وسبعمائة، وهي:
أما بعد حمد الله على نعمه التي نشرت لواء دولتنا في الآفاق، فأوى كل أحد إلى ظله، وبسطت معدلتنا في البلاد على الإطلاق، فمنحت الخاص والعام من برنا بوابله وطله، واصطنعت بذمامها ملوك الملل وحكام الطوائف فنطقوا عن أمرنا في عقد كل أمر وحله، والشهادة بوحدانيته التي تنجح أمل المخلص في قوله وفعله، وتفتح لمن تمسك بعروتها أبواب النجاة فيصبح في أمانٍ في شأنه كله، والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ عبده ورسوله أشرف الأنبياء قدراً في محكم الذكر ونقله، المبعوض رحمةً للعاملين زيادةً في رفعة مقامه وتقريراً لفضله، المنعوت بالرأفة والرحمة في محكم كتابه الذلايأتيه الباطل من بين يديه ولامن خلفه ولم يستطع أحد أن يأتي بسورة من مثله، وعلى آله وصحبه الذين اتببعوا طريقته المثلى وسلكوا مناهج سبله، وعقدوا الذمم لأهل الملل واستوصوا بهم خيراً لما عرفوه من سعة وحلمه وبذله- فإنه لما كانت الطائفة المسيحية، والفرقة اليعقوبية، ممن أوت تحت ظلنا الذي عم الوجود، وسكنت في حرم ذمامنا الذي سار نبؤه في التهائم والنجود، وتمسكت من طاعتنا واتباع أوامرنا بما سلف لها من الهدن والعهود، وكانت أحكامهم مما يحتاج إلى منيدور عليه أمرها في كل حال، وتنتظم به مصالح شملها ليبلغوا بها يحتاج إلى من يدور عليه أمرها في كل حال، وتنتظم به مصالح شملها ليبلغوا بها يحتاج إلى من يدور عليه أمرها في كل حال، وتنتظم به صالح شملها ليبلغوا بها الأمال، ويأمنوا في معتقدهم فيها فيها من الإخلال، وأنه إذا مات بطريرك لهم لابد أن نرسم لهم يغيره، ليعتمدوا في ذلك مايتقدم به إليهم في نهيه وأمره، ويسلك بهم في أحكامهم مايجب، ويعرف كلامنهم مايأتي ويذر ويفعل يجتنب، ويفصل بينهم بمقتضى مايعتقدونه في إنجيلهم، ويمشي أحوالهم على موجبه في تحريمهم وتحليلهم؛ ويزجر من خرج عن طريقه، ليرجع إلى مايجب عليه أسوة رفيقه، ويقضي بينهم بما يعتقدونه من الأحكام، ويبين لهم قواعد دينهم في كل نقض وإبرام، فلما هلك الآن بطريكهم مه من هلك، رسمنا لهم أن ينتخبوا لهم من يكون لطريقته قد سلك، وأن يختاروا لهم من يسوس أمورهم على أكمل الوجوه، لنرسم بتقديمه عليهم فيقوم بما يؤملونه منه ويرتجوه.
وكان الحضرة السامية، القديس، المبجل، الجليل، المكرم، الموقر، الكبير، الديان، الرئيس، الروحاني، الفاضل، الكافي، المؤتمن، جرجس بن القس مفضل اليعقوبي، عماد بني المعمودية، كنز الأمة المسيحية، منتخب الملة الصليبية، ركن الطائفة النصرانية، اختيار الملوك والسلاطين- أطال الله تعالى بهجته، وأعلى على أهل طائفته درجته- قد حاز من فضائل ملته أسماها، وصعد من درجات الترقي على أبناء جنسه أعلاها، فنره نفسه عن مشاركة الناس، وتقشف بين أهله في المآكل واللباس، وترك الزواج والنكاح، واشتغل بعبادته التي لازم عليها في المساء والسصباح، وألقى نفسه إلى الغاية في الإطراح، وساح بخاطره في الفكرة، وإن لم يكن بجسده قد ساح، وارتاض بترك الشهوات مدة زمانه، واطرح الملاذ لتعلو درجته بين أهله برفعة مكانه، واشتمل من علوم طائفته على الجانب الوافر، وعرف من أوامرهم ونواهيهم ماتقربه منهم العين والناظر، وطلب من الرب به من أقواله وأفعاله، فوقع ايختيارهم عليه، وسألوا صدقاتنا الشريفة إلقاء أمرهم إليه.
فرسم بالأمر الشريف- لازال إحسانه إلى سائر العالم واصلاً، وجوده لكل طائفةٍ بارتياد أكفائها شاملاً- أن يقدم حضرة القديس المؤتمن جرجس المشار إليه على الطائفة اليعقوبية، من الملة النصرانية، بالديار المحروسة والجهات الجاري بها العادة، ويكون بطريركاً عليهم على عادة من تقدم في ذلك ومستقر قاعدته إلى آخر وقت، قائماً بما يجب عليه من أمور هذه الملة، باذلاً جهده في سلوك ماينبغي مما ينظم عليه أمره كله، فاصلاً بينهم بما يعتقدونه من الأحكام، متصرفاً على كل أسقف وقس ومطران في كل نقض وإبرام، مالكاً من أمور القيسيسين والرهبان والشمامسة الزمام، مانعاً من يروم أمراً لايسوغه وضع ولاتقرير، جاعلاً نظره عليه منتقداً بالتحرز في التخيير، زاجراً من يخرج منهم عن اتباع طريق الشريعة المطهرة التي يصح بها عقد الذمة، ملزماً بسلوكها في كل ملمة فإن ذلك من الأمور المهمة، آمراً من في الديرة من الرهبان بمعاملة المارين بهم والنازلين عليهم بمزيد الإحسان ومديد الإكرام، والقيام بالضيافة المشروطة من الشراب والطعامن.
وليتحدث في قسمة مواريثهم إذا ترافعوا إليه، وليجعل فصل أمور أهل طائفته من المهمات لديه، وليشفق من المهمات لديه، وليشفق على الكبير والصغير، وليتنزه عن قليل متاع الدنيا والكثير، وليزهد في الجليل قبل الحقير. وفي اطلاعه على أحكام دينه مايكفيه في الوصية، ومايرفعه بين أبناء جنسه في الحياة الدنيوية، والاعتماد على الخط الشريف أعلاه الله أعلاه.
وهذه نسخة توقيع لبطرك اليعاقبة، وهي: أما بعد حمد الله على أن جعل من إحسان هذه الدولة لكل ملي وذمي نصيباً، وفوق إلى أهداف الرعاية سهماً فسهماً مامنها إلا ماشوهد مصيباً، والصلاة على سيدنا محمد الذي أحمد الله له سرى في صلاح الخلائق وتأويباً- فإنه لما كان من سجايا الدولة القاهرة النظر في الجزئيات والكليات من أمور الأمة، وتجاوز ذلك إلى رعاية أهل الذمة؛ لاسيما من سبقت وصية سيد المرسين عليهم من القبط الذين شرفهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بوصلته منهم بأم إبراهيم ولده عليه السلام، وقبول هديتهم التي أبقت لهم مزية على ممر ايام؛ وكانوا لابد لهم من بطريك يحفظ سوامهم، ويضبط خواصهم وعوامهم، ويجمع شمل رهبانهم، ويراعي مصالح أديانهم، ويحرر أمور أعيادهم ومواسهم في كل كنيس، ويدعو للدولة القاهرة في كل تقديس، وتجعل له الخيرة في ضبط أمور البيع والديرة واختيار الأساقفة والكهان، وحفظ النواميس المسيحية في كل قربان؛ ولايصلح لذلك إلا من هو بتول، وكل خاشع عاملٍ ناصبٍ يستحق بذلك أن هذا الأمر إليه يؤول.
ولما كان البطريرك فلان هو المجمع على صلاحيته للبطركية على شعبه، والتقدمة على أبناء المعمودية من شيعته وصحبه، لما له من علم في دينه، ومعرفةٍ بقوانينه، وضبطٍ لأفانينه، وعقل يمنعه عن التظاهر بما ينافي العهود، ويلافي الأمر المعهود- اقتضى جميل الاختيار أنه رسم بالأمر الشريف- لابرح يضع كل شيء في موضعه من الاستحقاق، ويبلاغ في الإرفاد لأهل الملل والإرفاق- أن يباشر بطركية جماعة اليعاقبة بالديار المصرية، على عادة من تقدمه في هذه الرتبة، ومن ارتقى قبله إلى هذه الهضبة.
فليباشر أمر هذه الطائفة، وليجعل معونته بهم طائفة، وليضبط أمورهم أحسن ضبط وأجمله، وأتمه وأكمله، وليأخذهم بما يلزمهم من القيام بالوظائف المعروفة، والعهود المألوفة، وليلزمهم بما يلزمهم شرعاً من كف عن تظاهر ممنوع، أو تعاطي محذور منكور الشرور والشروع، أو تنكب عن طريق الاستقامة، وكما أنهم عدلوا عن الإسلام لايعدلون عن السلامة.
وأما أمور الديرة والكنائس فأمرها إليك مردود، فاجر فيها على المعهود، وأقم فيها عنك من يحسن النيابة، ومن يجمل الإنابة، ومن يستجلب الدعاء لهذه الدولة القاهرة في كل قداس، ويعدد التقدس والأنفاس؛ وعلى رهبان الأديرة للمساجد والجوامع وظائف لاتمنع ولاتؤخر، ولاتحوج أحداً منهم أنه بها يذكر؛ وليشرط على أهلها أنهم لايأوون طليعة الكفار، ولامن يحصل منه إلا خير وإلا يحصل الإضرار، وليأمرهم بحسن الجوار، والقيام بما هو موظف عليهم للمسلمين السفار ويغر السفار؛ هذه نبذة من الوصايامقنعة، ولو وسع القول لكان ذا سعة؛ وفي البطريرك من النباهة مايلهمه الصواب، والله يجعل حسن الظن به لاارتياء فيه ولاارتياب، بمنه وكرمه!، والاعتماد..... إلخ وهذه نسخة توقيع لبطرك اليعاقبة، وهي: أما بعد حمد الله الذي خص كل ملةٍ بمنة، وأقام بأوامرنا على كل طائفةٍ من نرضاه فنحقق بلإحسننا ظنه، وجعل من شيمنا الشريفة الوصية بأهل الكتاب عملاً بالسنة والشهادة بوحدانيته التي نتخذ بينها وبين الشك والشرك من قوة الإيمان جنة، وندخر أجورها فنسمو بها يوم العرض إلى أعلى غرف الجنة، والصلاة والسلام على نبيه محمدٍ أكرم من أرسله إلى الأمم فأنال كلاً من البرايا يمنه، وأعظم من بعثه فشرع الدين الحنيف وينه، وعلى آله وأصحابه الذين لم تزل قلوب المؤمنين بهم مطمئنة- فإن دولتنا القاهرة العوارف السحان، والشيم الكريمة والعطايا والإحسان، والفواضل التي للآمال منها مايربي عليها ويزيد، والمآثر التي بحر برها الوافر المديد، ولكل ملةٍ من نعمها نوال جزيل، ولكل فرقة من مواهبها جانب يقتضي التخويل ولايقضي بالتحويل، ولكل طائفة من يمنها ومنها منائح طائفة بمزيد التنويل، ولكل أناس من معدلتها نصيب يشمل الملل، وعادة معروفٍ توارتت مع أنها خالصة من السآمة والملل، سجية سخية بنا شرفت، ومزية مروية منا ألفت؛ وإن أهل الكتاب لطائفةً كثرت بأبوابنا الشريفة عداداً، واستصفت من مناهل جودنا مورداً وانتظمت في سلك رعايانا فأضحى سبب فضلنا لها مؤكداً، وكانت الملة المسيحية، والفرقة اليعقوبية، لابد لها بعد موت بطريكهت من إقامة غيره، وتقديم من يرتضى بفعله وقوله وسيره، لتقتدي به عقد أمورها وحلها، وتحريمها وتحليلها ووصلها وفصلها، وتهتدي به في معتقدها، وتركن إلى مايذكره من مجموع أحكام الإنجيل ومفردها، وينتصب للفصل بين خصومها بما يقتضيه عرفانه، ويظهر لأهل ملته بيانه، حتى لاتجد في أمر دينها إلا ماتريده، وبما نديمه لها من اسنتمرار الهدنه تبدي دعاءه وتعيده، فإن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نستوصي بأهل الكتاب خيراً، ونحن نسلك من اتباع شريعته الكمطهرة مانحسن فيه- إن شاء الله- سيرة يسيرةً وسيراً.
ولما كانت الحضرة السامية، الشيخ، الرئيس المبجل، المكرم، الفاضل، الكافي، الثقة، عماد بني المعمودية، كنز الطائفة الصليبية، اختيار الملوك والسلاطين، فلان- أطال الله بقاءه، وأدام على أهل طائفته ارتقاءه، - ممن اتفق على شكره أبناء جنسه، واستوجب أن يرقى إلى هذه الرتبة بنفسه، واشتهر بمعرفة أحوال فرقه، وهجر الهل والوطن في تهذيب خلقه، وحرم في مدة عمر النكاح، وسار في المهامة والقفار وساح، أضحى خميص البطن خاوي الوفاض، قد ترك الطيبات وهجر التنعم وارتاض؛ واعتمد في قوله على الإله، وسأل الرب أن يبلغه في أهل ملته ماتمناه.
فلذلك رسم بالأمر الشريف- لازال يجمع الفرق على الدعاءلأيامه الشريفة، ويديم للأقربين مواد مواهبه المألوفة- أن يقدم الشيخ فلان على الملة النصرانية اليعقوبية، ويكون بطريركاً عليها على عادة من تقدمه، ومستقر قاعدته، بالديار المصرية والثغور المحروسة، والجهات التي عادته بها، إلى آخر وقت، فليتول ذلك سالكاً من طرق النواهة مايجب، فاصلاً بين النصارى بأحكام دينه التي لاتخفى عنه ولاتحتجب، مالكاً أزمة كل أسقف وقومس ومطران، مرجحاً بين القديس والقسيس والشماس والرهبان، لتصبح أحكام كبيرهم وصغيرهم به منوطة، ومواريثهم مقسومةً بشرعته التي هي لديهم مبسوطة، ويقف منهم إلا من رضي بتأهيله؛ وليأمر كل قاصٍ منهم ودان، ومن يتعبد بالديرة والصوامع من الرجال والنسوان، برفع الأدعية بدوام دولتنا القاهرة التي أسدت لهم هذا الإحسان، ويلزم كلاً منهم بأن لايحدث حادثاً، ويكرم نزل من قدم عليه راجلاً أو لابئاً؛ فإن هذه الولاية قد آلت إليه، وهو أدرب بما تنطوي شروطها عليه، والله تعالى يجعل البهجة لديه مقيمة والنعمة عليه مستديمة؛ والخط الشريف أعلاه، حجة بموجبه وبمقتضاه، إن شاء الله تعالى.
وهذه وصية لبطرك اليعاقبة أوردها في التعريف قال: ويقال في وصية بطرك اليعاقبة مثل مافي وصية بطرك الملكية، إلا فيما ينبه عليه. ويسقط منه قولنا: واعلم بأنك في المدخل إلى شريعتك طريق إلى الباب إذ كان لايدين بطاعة الباب الذي هو رأس الملكانيين، وإنما هو رأس الملكانيين، وإنما هو رأس اليعاقبة نظيرة للملكانيين، ويقال مكان هذه الكلمة واعلم بأنك في المدخل إلى شريعتك قسيم الباب وأنتما سواء في الأتباع، ومتساويان فإنه لايزداد مصراع على مصراع ويسقط منه قولنا: وليجتنب البحر وإياه من اقتحامه فإنه يغرق وثانية هذه الكلمة إذا كان ملك اليعاقبة مغلغلاً في الجنوب من تلقاء الحبشة حتى إذا قدر فلا يشم أنفاس الجنوب؛ وليعلم أن تلك المادة وإن كثرت مقصرة، ولايحفل بسؤدد السودان فإن الله جعل آلة الليل مظلمةً وآية النهاء مبصرة ثم يختم بالوصية بالتقوى كما تقدم، ونحو هذا والله أعلم.
النوع الثاني: ما هو خارج عن حاضرتي مصر والقاهرة من وظائف الديار المصرية مما يكتب لأربابها:
وهي ثلاث جهات:
الجهة الأولى: ثغر الإسكندرية:
والوظائف فيها على ثلاثة أصناف:
الصنف الأول: وظائف أرباب السيوف:
وبها وظيفة واحدة وهي النيابة وقد تقدم في الكلام على ترتيب وظائف الديار المصرية أنها كانت أولاً ولايةً، إلى أن طرقها الفرنج في سنة سبع وستين وسبعمائة، فاستقرت من حينئذ نيابة، يكتب لنائبها تقليد في قطع الثلثين بالجناب العالي مع الدعاء لمضاعفة النعمة وهذه نسخة تقليد بنيابة ثغر الإسكندرية: الحمد لله على نعم باسمة الثغر، مسفرة الفجر، رافعة القدر نحمده حمداً بشرح الصدر، ويطلع طلوع البدر، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لله له شهادة تحالف من يحالفها، وتخالف من يخالفها، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله أفضل نبي رابط في سبيل الله وجاهد، وكابد في الجهاد أعداء الدين وكايد، صلى الله وعلى آله وصحبه الذين خاضوا في غمرات الدجى كل غمر؛ وندبوا لحماية الدين فكانوا ليوم كريهة ٍ وسداد ثغر.
أما بعد، فإن الاهتمام بالثغور هو أولى ماإليه حمد، وعلى مصالحها اعتمد؛ وكان ثغر اللإسكندرية المحروس هو المفتر عن أحسن الثنايا، والمخصوص من الحياطة بأتم المزايا، والذي كم شفت شفاهه من سقم عند ارتشاف، والذي المثاغر به والمرابط كم له بالحسنات من ائتلاف، كافلٍ بما تستدعيه مصلحة أهله من إنصاف، ذو عزم يمضي والسهام مستودعة في الكنائن، ويقضي بالعدل المزيل للشوائب والشوائن، ومن له حزم يسد ثغر المعايب دون كل ملاحظ ومعاين، وله سياسة تحفظ بمثلها الثغور، وتصان الأمور، وله بشاشة تستجلب النفور، وتوفق مابين الألسنة من أولي الود والصدور، وله حياطة بينما يقال: هذا جانبه دمث إذ يقال: هذا جانبه صعب ممتنع، وبينما يقال ليقظته للمصلحة: هذا سحاب جهام إذ يقال هذاسيل مندفع.
ولما كان فلان هو مستوعب هذه الصفات، ومستودع هذه الأسماء والسمات، وإليه بهذه المناقب يشار، وهو ساحب أذيال هذا الفخار- اقتضى حسن الرأي الشريف أن تفوض إليه السلطنة الشريفة بثغر الإسكندرية المحروس، تفويضاً يمضي في مصالحه لسانه وقلمه، ويصرف بين الأوامر والنواهي إشارته وكلمه، ويزين مواكبه بطلعته، ويزيد مهابته ببعد صيته واشتهار سمعته.
فليباشر هذه الوظيفة مجملاً مواكبها، مكملاً مراتبها، موثلاً بقواعد الأمن أرجاءها وجوانيها، ناشراً لواء العدل على عوالمها، قابضاً بالإنصاف لمظلوم رعيتها على يد ظالمها، معلياً منار الشرع الشريف بمعاضدة حكامه والانقياد إلى أحكامه، والوقوف في كل أمر مع نقضه وإبرامه، وليحرس جوانب هذا الثغر ويحميها، وليصن عوارضه ومافيها مع نقضه وإبرامه، وليحرس جوانب هذا الثغر ويحميها، وليصن عوارضه ومافيها ومن فيها، وليكلأه براً وبحراً، وليرخ عليه من ذبه ستراً فستراً، ولينجح لسافرته طلباً، وليبلغهم من العدل والإحسان أرباً، ويجمل معاملة منوجد منهم في سفره نصباً، واتخذ سبيله في البحر عجباً. والرعية فهم طراز الممالك، وعنوان العمارة الذي من شاهده في هذا الثغر علم ماوراء ذلك؛ وأحسن إليهم وارأف بهم، وبلغهم من عدل هذه الدولة غاية أربهم؛ وأمور الحمس والديوان فلها قواعد مستقرة، وقوانين مستمرة؛ فاسلك منها جدداً واضحاً؛ وابتغ لها علماً لائحاً؛ وغير ذلك فلا يكاد على فهمك يخفى، من تقوى الله التي بها تكف عين المضار وتكفى؛ والله تعالى يلهمك صواباً، ولايجعل بين ححجاك وبين المصالح حجاباً، بمنه وكرمه!
الصنف الثاني: الوظائف الدينية:
من الوظائف التي يكتب بها بثغر الإسكندرية الوظائف الدينية، وكلها تواقيع، وفيها مرتبتان:
المرتبة الأولى ما يكتب منها في قطع الثلث بالسامي بالياء:
وفيها وظائف:
الوظيفة الأولى: القضاء:
وهو الآن مختص بالمالكية، وقاضيها يتحدث في نفس المدينة وظاهرها، ليس له ولاية فيما هو خارج عنها.
وهذه نسخة توقيع بقضاء ثغر الإسكندرية المالكي، كتب به للشيخ وجيه الدين محمد بن عبد الله المعطي الإسكندري المالكيوهي: الحمد لله رافع قدر من نوه العلم بذكره، ونور التقى مواقع فكره، ونبه الورع على رفعة قدره، وأشرق به منصب الحكم العزيز إشراف الأفق بطلوع بدره، وأضاءت بنو أحكامه غوامض القضايا الشرعية إضاءة الدحى بغرة فجره، وقضى له دوام الإصابة في الاجتهاد بإحراز أجريه إذا كان أحد قسمي الاجتهاد مقتضياً لأجره، ومليء صدره بأنواع العلوم الدينية فوسع له الشرع الشريف صدر مجلسه وأعد له مجلس صدره، وزخر من خاطره بحر العلم فارتوت رياض الخواطر بأ، وار فرائد دره وأسفر وجه الدين بنور علمه وعمله: فقام هذا مقان السرور في أساريره وناب هذا مناب الشنب في ثغره.
نحمده حمداً يزيد قدر النعم تنويهاً، ويسوغ في المحامد تعظيماً لمسدي المنة وتنزيهاً، وينهض بشكر التوفيق في اختصاص منصب الحكم بمن كان عند الله وجيهاً.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تفتر ثغور الإسلام بإدامتها، وتبنى قواعد الإيمان على إقامتها، وتشيم بوارق النصر على جاحدها من أثناء غمامتها، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي أنارت الآفاق بملته، ودارة أدراة التشبيه بين أنبياء إسارئيل وعلماء أمته، وضاهى شرعة شمس الظهيرة في وضوح أحكامه وظهور أدلته، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين عملوا لما علموا، وجاهدوا أعداء الله فما ضعفوا لذلك ولاألموا، وقضوا بالحق بين أمته فلا المقضي لهم أثمر ولاالمقضي عليهم ظلموا، صلاةً لاتزال لها الأرض مسجداً، ولايبرح ذكرها متهماً في الآفاق ومنجداً، وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد، فإن أولى من قلد الحكم وإن ناى به الورع عن توقعه، وخطب للقضاء وإن أعرض به الزهد عن طلابه وتتبعه، ودعي إليه إذ الإجابة عليه متعينه، ووضعت مقاليده بحكم الاستحقاق في يديهٌ إذ أولويته البينة لا تحتاج إلى بينهة- من عقدت علية تعينه لهذا المنصب الجليل الخناصر، ودعت إلى استدعائه إليه فضائله الثابتة القواعد وزهادته الزاكية الأواصر، ودلت عليه علومه دلالة الأضواء، على لوامع الشهب، ونبهت عليه فنونه تنبيه الأنواء، على مواقع السحب، وشهد بورعه المتين، تفقهه واعتزاله، وأنبأ عن نهوضه بنصرة الدين، قوة جداله الذي هو جلاد مثله ونزاله، وتبحر في أنواع العلوم حتى جاوز البحر بمثله ولكنه العذب الزلال، وشغل نفسه بالتنوع في الفنون فكان التحلي بعبادة الله ثمرة ذلك الاشتغال، ومشى على قدم الأئمة العلماء من أسلافه فلم يشق في ذلك المضمار غباره، ونشأ على طريقة العلم والعمل: فنهاره بالانقطاع إليه ليله وليله بالاشتغال بهما نهاره.
ولما كان فلان هو الذي خطبته هذه الرتبة السنية لنفسها، وتشوقت إلى الإضاءة بطلوعه في أفقها تشوف المطالع إلى الإضاءة بطلوع شمسها، وأثنى لسان القلم على فضائله وهو يعتذر من الاختصار، واقتصرت البلاغة على اليسير من التعريض بوصفه وطالب مالايحصر معذور في الاقتصادد والاقتصار، وعين لما تعين عليه من مصالح الإمة وذلك يقضي لمثله من أنصار السنة أن يتأخر عن مثلها أو يغيب، وكان ثغر الإسكندرية المحروس من المعاقل التي يفتر عن شنب النصر ثغرها، ومن أركان الدين الذي يغص بأبطالها بحرها، وهي مأوى صلحاء الجهاد الذين سهام ليلهم أسبق إلى العدا من سهامهم، وموطن العلماء من أهل الاجتهاد الذين يعدل دم الشهداء مداد أقلامهم؛ وهي داره التي تزهى به نواحيها، وموطن رباطه ابلذي يوم وليلة منه في سبيل الله خير من الدنيا ومافيها- اقتضت آراؤنا الشريفة أن نخص منصب حكمها بعالم أفقها المنير، وزاهد ثغرها الذي ماشام برقه بصر عدو إلا وانقلب إليه خاسئاً وهو حسير، وأن نفوض إليه منصب القضاء والحكم لعزيز بثغر الإسكندرية المحروس، على قاعدة من تقدمه فيه، نظراً في عموم ذلك الثغر المحروس به إلى من انعقد إجماع أئمة عصره ومصره على سعة علمه ووفور وزعه وكمال فضله.
فليباشر هذا المنصب الذي ملاك أمره العلم والتقى، ونظام حكمه العدل والورع وهما أكمل مابه يرتقى، وليحكم بما أراه الله منوقاعد مذهبه المحكمة، وأحكام غمامه التي هي بمصالح الدين والدنيا محكمة، وليقض بأقوال إمام دار الهجرة التي منها صدرت السنة إلى الآفاق، وعنها أخذت ذخائر العلم التي تزكو على كثرة الإنفاق، وبها حمى الأحكام الدينية موطأ الأكناف، وفيها استقام عمود الملة ممدود الطرف على سائر الأطراف، فليل من ذلك وغيره جميع ماكان يليه من تقدمه، وتقتضيه قواعد ولايته التي أمضينا فيه لسانه وقلمه.
فأما مايدخل تحت هذا الإجمال من آداب القضاء وقواعده، وأدواته وعوائده: من تخصيص الحكم بأوقاته، ومساواته بين الخصمين في إنصافه وإنصاته، واجتناب الحكم في الأوقات المقتضية لتركه، وتوقي نقض الأحكام التي نظمها عدم مخالفة النص والإجماع في سلكه، فإنه مكتف بالإجمال عن تفصيلها، مكتف عن ذكر كثيرها بالإيماء إلى قليلها، إذ هو أدرى بأوضاعها شرعاً وعرفاً، وأدرب لما قد يشذ منها عن ألمعيته أو يخفى، وملاك الوصايا تقوى الله تعالى وهي من خصائص نفسه، وفواتح ماابتدأ الورع بإتقان درسه، والله تعالى يؤيد حكمه، ويعلي علمه، بمنه وكرمه! والاعتماد على الخط الشريف أعلاه إن شاء الله تعالى.
واعلم أنه قد كان فيما تقدم بقضائها، كتب بـ هللقاضي علم الدين الإخنائي الشافعي، في ثامن شعبان سة ثلاثين وسبعمائة، وهي: الحمد لله الذي رفع لنا في كل ثغر علماً، وأجرى لنا في جوار كل بحر ما يضاهيه كرماً، وجعل من حكام دولتنا الشريفة من يعرف بنسبه الإسنائي بل السنائي أنه يمحو من الظلم ظلماً.
نحمده على أن زادنا نعماً، ووفر للأحكام الشرعية بنا قسماً، وأغلى قيماً، فأضحت تنافس الدر الثمين قيماً، ونشهد أن لا إله ألا الله وحده لا شريك له شهادة نجرد لإقامتها سيفاً وقلماً، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي جعل الله له شريعة ماذية وديناً قيماً، ونصب من أئمة أتباعه كل علم يهدي أمماً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة باقية مابقيت الأرض والسما، وسلم تسليماً.
وبعد، فإن أولى الثغور بأن لايزال به علم مرفوع، وعلم مصون حجابه الممنوع، وعمل يمشي به أئمة الأمة على طريقه المشروع، ثغر الإسكندرية- حماها الله تعالى- فإنها من دار الملك في أعز مقام، ومن مجاوزرة البحر في موطن جهاد تخفق به الأعلام، وغالب من فيها إما فقيه يتمسك بالشريعة الشريفة في علو علومه، أو رب مال له وقوف بمجلس الحكم العزيز ينتصف من خصام خصومه؛ ولم تزل وظيفة القضاء بها آهلة الصدور، كاملة البدور، متهلله بما لا يفوت الشنب كبارق الجزع إذا حكى إيماض الثغور؛ وكان لها مدة قد خلت ونحن نفكر فيمن يكون سداداً لثغرها، وكافياً فيما يهم في الأحكام الشرعية من أمرها، وكافلاً من الحق الذي أمر الله به بما يقي النفوس، وقائماً في مدجارسها بما يزيد معالمها إشادةً في الدروس، حتى أجمعت آراؤنا الشريفة على من يحسن عليه الإجماع وتحسم به دواعي النزاع، ويحسد علمه علم الشمس لما علا عنها من كرة الاتفاع، ومن يتضوع بنشر العدل في يمنى كفة القلم، وإذا وقفت به الركائب قالت: ياشاري القصد هذا البان والعلم؛ وكان المجلس السامي القضائي العلمي الإسنائي الشافعي، أدام الله علوه هو العلم المنشور، والعلم المشهور، والمراد به تقدم من وصف مشكور، فاقتضت مراسمنا المطاعة أن تناط به من الأحكام الشرعية زالقضايا، وأن يبسم هذا الثغر بحكمه عن واضح الثنايا.
فلذلك رسم بالأمر الشريف، العالي المولوي، السلطاني، الملكي، الناصري: زاده الله شرفاً، وضاعف له تصرفاً- أن يفوض إليه القضاء بمدينة إسكندرية- حماها الله تعالى- على عادة من تقدمه وقاعدته المستقرة إلى آخر وقت، على أن يستنيب عنه في تحمله وفيا شاء منه من هو موصوف بصفته، موثوق بدينه وعلمه ومعرفته؛ ولينتصب في مجلس الحم العزيز لمن ينتصف، وليعمل بما يرضينا من مراضي الله تعالى فإن للعيون أن تنظر وللألسنة أتن تصف، ولينظر في أمر الشهود فإن الأحكام الشرعية على شهادتهم تبنى، وليحترز من الوكلاء فإن منهم من يجعل الظن يقيناً واليقين ظناً، ولينظر في أمور الأيتام ويتصرف في أموالهم بالحسن، وليقم الحدود، على مقتضى مذهبه، وليعول في العقود، على من لايخاف معه امرؤ على غلحاق في نسبه، وغير هذا مما إليه مرجعه، وإليه ينتهي مفترقه ومجتمعه وبحكمه يفصل أمره أجمعه، وليتخذ الله تعالى عليه رقيباً، ويعلم أن سيرى كل مايعمله عند الله قريباً؛ وتقوى اللله هي التي نتخذ معه عليها عهداً مسؤولاً ورجاءً مأمولاً، وقولاً عند الله وملائكته وأنبيائه مقبولاً، ونقلده منها على كل مخالف سيفاً مسلولاً، ونحن نرغب إلى الله أن يوفقه في حكمه، ويعينه على كل مايملى من الوصايا بما هو ملي به من عمله وعلمه، والخط الشريف أعلاه، حجة فيه.
قلت: وكان قد استحدث بالإسكندرية قاضٍ حنفي في الدولة الأشرفية شعبان بن حسين يولى من الأبواب السلطانية رفقاً للقاضي المالكي بها، يتحدث في الأحكام في القضايا بمذهبه خاصة، وأمر مودع الأيتام ونظر الأوقاف، وغير ذلك من متعلقات قضاء القضاة مختص بالمالكي، ثم صارت بعذ ذلك تارة يولى بها حنفي كذلك، وتارة تشغر منه. فإن وليها حنفي، كتب له في قطع الثلث كما يكتب للقاضي المالكي، وليس بها الآن شافعي إلا نائباً عن المالكي، ولاحنلي بها أصلاً.
الوظيفة الثانية: الحسبة بثغر الإسكندرية:
ومحتسبها يمضي تحدثه فيما يختص به قاضيها، وليس له نواب فيما هو خارج عن ذلك من البلاد.
وهذه نسخة توقيع بالحسبة بثغر الإسكندرية الحمد لله الذي جعل المناصب في أيامنا الزاهرة محفوظةً في أكفائها، مضمونةً لمن تقاضت له من الإقبال رد جفائها، معدوقةً في مآلها إلى من زانها بمعرفته الحسنة وحسن بهائها، مخصوصةً بمن دلت كفاءته وكفايته على أنه أولى بتقربها وأحق باصطفائها.
أحمده على نعمه التي لم تخيب في إحساننا أملاً، ولم تضيع سعي من أحسن العمل في مصالح دولتنا إن الله لايضيع أجر من أحسن عملاً، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً هي أشرف مافه به اللسان، وأفضل ماتعبد به افنسان، وأرفع ماملكت به في الدنيا والآخرة عظام الرتب الحسان، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي أحل الطيبات وأباحها، وأزال الشبهات وأزاحها، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين تمسكوا بأحكامه، ووقفوا مع ماشرع لهم من حلال دينه وحراوه، وحافظوا على العمل بسنته بعده محافظتهم عليها في أيامه، صلاةً يتوقد سراجها، ويتأكد بها انتساق السنة وانتساجها، وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد، فإن أولى من رجع فيه حق منصبه إلى نصابه، ورد به واجب رتبته إلى من جعلته سوابق سيرته أولى به، وتقاضت له سيرته عواطف كرمنا، ونهضت نزاهته باستطلاع ماغبا عنه من عوارفنا ونعمنا، وأغنته أوصافه عن تجدي ثناء يستعاد به برنا القديم، ويستدام له به فضلنا العميم، وتستدر به أخلاف كرمنا الذي تساوى في عمومه الظاعن والمقيم- من زان التقى أوصافه، وكملت العفة معرفته وإنصافه، وتولت الديانة نظره فيما عدق به من مصالح الرعايا خصوصاً وعموماً، وتكفلت الخبرة من اعتباره لأمور الأقوات بأن جعل لكل منها في الجودة حداً معلومتاً، وباشر مافوض إليه فجمع بين رضا الله تعالى ورضا خلقه، وعول عليه في حسبة أعز الثغور لدينا فتصبح الرعايا فيما بسط لهم من رزقه.
ولما كان فلان هو الذي أضاءت أوصافه وهل تنكر الإضاءة للسراج، وتشوفت إليه رتبته فلم يكن لها إلا إليه ملاذ وإلا عليه معاج، فسلك من السير أضاها لربه، ومن الأحوال أجمعها لأمن عاقبته وسلامة غبة، ومن الاجتهاد في مصالح الرعايا مايضاعف شكره على احتسابه، ومن الخيرة مايعرف كلا منهم كيف يكون اكتساء البرية في اكتسابه- رسم أن يستقر......................
فليستمر في ذلك على عادته التي ناضلت عنه فأصابت، قاعدته التي دعت له عواطفنا نعمنا فأجابت، وليزد في التحذير والتحقيق مااستطاع، ويناقش حتى يستقر على الصحة فيما يباع أو يبتاع، ويقابل على الغش بما يردع متعاطيه، ويزجر صانع الأعمال الفاسدة عن استدامتها ومن يوافقه على ذلك ويواطيه، ويثمر أموال الأحباس بملاحظة أصولها، والمحافظة على ريعها ومحصولها، وإمضاء مصارفها على شروط واقفيها إن علمت ومزية ماقدم من شكره والثناء عليه؛ وملاك ذلك جيمعه تقوى الله تعالى وهي أخص ماقدم من أوصافه، والرفق بالرعايا وإنه من أحسن حلى معرفته وإنصافه، والخير يكون إن شاء الله تعالى.
الوظيفة الثالثة: نظر الصادر:
وموضوعها التحدث في قدر مقرر يؤخذ من تجار الفرنج الواردين إلى االإسكندرية، وعليه مرتبات لناسٍ مخصوصين من أهل العلم والإصلاح، ينفق عليهم بمقادير معلومة من متحصل هذه الجهة.
وهذه نسخة توقيع بنظر الصادر والوارد، أنشأته عن السلطان الملك الناصر فرج بن الظاهر برقوق للقاضي ناصر الدين محمد الطناحي إمام المقام الشريف السلطاني، في منتصف شهر صفر سنة أربع وثمانمائة، وهي: الحمد لله الذي جعل من سلطاننا الناصر لأخص ولي أعز ناصر، وخصه من فائض كرمنا المتتابع ومننا المترادف بأكرم وارد وأبر صادر، وبوأه من فضلنا المنيف أفضل مبوأ: فتارة تأتم به الملوك وتارة يخطب الكافة على رؤوس المنابر.
نحمده على أن جعلنا نتبع في الولايات نهج الصواب ونقتفيه، ولآثرنا من أثرة الأوبة بأعلى مواقع الاجتباء والوالد سر أبيه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي أذل طغاة الكفر بقمع آناف كبرائهم، وألزمهم الصغار بمالٍ يؤخذ من أقوياء أغنيائهم فيفرق في ضعفاء المسلمين وفقرائهم، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي ندب إلى مبرة أهل الفضل وذويه، ورغب في رعاية المودة للأباء بقوله: «إن من أبر البر بر الرجل أهل ود أبيه» صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين عدقت بهم مهمات فقاموا بحقها، ووكلت إليهم جلائل الولايات، فإحرزوا بجميل التأثير قصب سبقها، صلاةً يبقى على مدى الأيام حكمها، ولايتغير على مر الزمان رسمها، وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد، فإن من كريم سجايانا التي جبلنا عليه، وشريف شيمنا التي يجذبنا طيب العنصر إليها، أننخص أخص الأولياء بأسنى الولايات، ونتحف أصفى الأصفياء بنهاية غيره من البديات، ونرفع قدر من لم يزل ظهره للملوك محراباً، وننوه بذكر من رغبت فيه الوظائف فعدلت إليه عن سواه إضراباً.
وكان المجلس السامي، القاضوي، العالمي، العاملي، الفاضلي، الكاملي، البارعي، البليغي، الماجدي، الأوحدي، الأثيري، الأثيلي، العريقي، الأصيلي، الخطيبي، الناصري، مجد الإسلام، بهاء الأنام، شرف الرؤساء، أوحد الكبراء، صدر الأعسان، جمال الخطباء، جلال النظار، صفوة الملوك والسلاطين، أبو عبد الله محمد، أبن المجلس السامي، الجمالي، المرحوم عبد الله الطناحي، إمام المقام الشريف: أدام الله تعالى رفعته- قد طالت في المخالصة قدمته، ووفرت من صدق الموالاة قسمته، فرفع على الايتداء خبره، ونصب على المدح تقدمه فحمد في الاختيار أثره؛ وكمانت وظيفتا نظر الصادر وخطابة الجامع الغربي بثغر الإسكندرية المحروس- حرسه الله تعالى وحماه وصان من طروق العدو المخذول حماه- من أرفع الوظائف قدراً، وأميزها رتبة وأعلاها ذكراً- اقتضى حسن الرأي الشريف أن نسند ولايتهما إليه، ونعتمد في القيام بمصالحمها عليه.
فلذلك رسم بالأمر الشريف- لازالت آراؤه مسددة، ونعمه على الأولياء في كل حين مجددة- أن يستقر المشار إليه في الوظيفتين المذكورتين عوضاً عمن كانتا بيده، لما لهما من المعلوم، ويفسح له في الاستنابة على عادة من تقدمه في ذلك: استناداً إلى أمانته التي بلغت به من العفة منتهاها، وكفايته التي عجز المتكلفون عن الوصول إلى مداها، وفصاحته التي أعجزت ببراعتها الخطباء الأماثل، وبلاغته التي قضت بالعي على قس إيادٍ وةحكمت بالفهاهة على سحبان وائل.
فليتلق ماأسند إليه بيده الطولى وباعه المديد، وليقابل هذه النعمة الحفيلة بالشكر فإن الشكر مستلزم للمزيد، عالماً أن نظر الصادر يقدمه أهل الثغر على عامة الوظائف مادق منها وماجل، ويتبرك المرتبون عليه بما يأخذونه من رتبه وإن قل؛ فليحسن النظر فيه وروداً وصدراً، ويميز ريعه بحسن النظر فيه حتى يقول المعاند: ماأحسن هذا نظراً! والجامع الغربي فهو أجل جوامع الثغر الإسكندري قدراً، وأعظمها في الأقطار صيتاً وأسيرها في الآفاق ذكراً، يحضر الجمعة في أهل الشرق والغرب، ويلم بخطبته سكان الوهاد والهضاب؛ فليرق منبره من خطبه المنبر لخطبته، وعلم علو مقامه فقابله بعلو رتبته؛ ويشنف الأسماع بوعظه، ويشج القلوب بلفظه، ويحيي العقول بتذكيره، ويبك العيون بتحذيره، وليعد للجامع ماتعوده من الإسعاد، ويجدد مادرس من معالم خطابته حتى يقال: هذا ابن المنير قد عاد؛ وعماد الوصايا تقوى الله فهي ملاك الأمور كلها، وعليها مدار أحوال الدنيا والآخرة في عقدها وحلها، وهاتان مقدمتا خيرٍ فليكن لنتيجتهما يرتقب، ولايقطع بالوقوف معهما رجاءه فأول الغيث قطر ثم ينسكب والاعتماد على الخط الشريف أعلاه الله تعالى أعلاه، حجة فيه بمقتضاه، إن شاء الله تعالى.
الصنف الثالث من الوظائف التي يكتب بها بثغر الإسكندرية المحروس: الوظائف الديوانية:
وهي على طبقتين:
الطبقة الأولى: ناظر المباشرة:
من يكتب له في قطع الثالث بالمجلس السامي بالياء وهو ناظر المباشرة بها، وعنه يعبر بناظر الإسكندرية، دون ناظر الأصل المقدم ذكره في جملة الوظائف الديوانية بالحضرة وموضوع هذه الوظيفة التحدث في الأموال السلطانية بالإسكندرية مما يتحصل من المأخوذ من تجار الفرنج، وسائر المتاجر الواصلة براً وبحراً بالقبض والصرف والحمل إلى الأوباب السلطانية.
وهذه نسخة توقيع ثغر الإسكندرية، كتب به للقاضي جمال الدين ابن بصاصة وهي: الحمد لله الذي أضحك الثغور بعد عبوسها، ورد إليها جمالها وأنار أفقها بطلوع شموسها، وأحيا معالم الخير فيها وقد كادت أن تشرف على دروسها، وأقام لمصالح الأمة من يشرق وجه الحق ببياض آرائه، وتلتذ الأسماع بتلاوة أوصافه الجميلة وأنبائه.
نحمده حمد من أسبغت عليه النعماء، وتهادت إليه الآلاء، وخطبته لنفسها العلياء، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً ترفع قدر قائلها وتعليه، وتعز جانب منتحلها وتدنيه، وأن محمداً عبده ورسوله أفضل نبي رابط وجاهد، وأكرم رسول جنح للسلم بأمر ربه فهادن وعاهد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وأشياعه وحزبه، وبعد، فأحق من ماس في أردية الرياسة عطفاً، واستجلى وجوه السعادة من حجب عزها فأبدت له جمالاً ولطفاً؛ واصطفته الدولة القاهرة لمهماتها لمل رأته خير كافل، وتنقل في مراتبها السنية تنقل النيرين في المنازل ولما كان فلان أدام الله رفعته ممن أشارت إليه المناقب الجليلة، وصارت له إلى كل سؤال نعم الوسيلة، رسم بالأمر الشريف- لازال..... أن يستقر في نظر ثغر الإسكندرية المحروس ويباشر هذا المنصب المبارك بعزماته الماضية، وهممه العالية، برأي لايساهم فيه ولايشارك: ليصبح هذا الثغر بمباشرته باسماً حالياً، وتعود بهجته له بجميل نظره ثانياً، وينتصب لتدبير أحواله على عادته، ويقرر قواعده بعالي همته، ويجتهد في تحصيل أمواله وتحصين ذخائره، واستخراج زكاته وتنمية متاجره، ومعاملة التجار الواردين إليه بالعدل الذي كانوا ألفوه منه، والرفق الذي نقلوا أخباره السارة عنه؛ فإنهم هدايا البحور، ودوالبة الثغور، ومن ألسنتهم يطلع على ماتجنه الصدور، وإذا بذر لهم حب الإحسن نشروا له أجنحة مراكبهم كالطيور؛ وليعتمد معهم حالةً توجب لهم القلق والتظلم والمقت، وليواصل بالحمول إلى بيت المال المعمور، وليملأ لاخزائن السلطانية من مستعملات الثغر وأمتعته وأصنافه لكل ماتستغني به عن الواصل في اليرور والبحور، وليصرف همته العالية إلى تدبير أحوال المتاجر بهذا الثغر بحيث ترتفع رؤوس أموالها وتنمي، وتجود سحائب فوائدها وتهمي، وليراع أحوال المتسخدمين في مباشراتهم، ويكشف عن باطن سيرهم في جهاتهم، ليتحققوا أنه مهيمن عليهم، وناظر بعين الرأفة إليهم؛ فتنكف يد الخائن منهم عن الخيانة، وتتحلى أنامل الأمين بمحاسن الصيانة؛ وليطالع بالمتجددات في الثغر المحروس، ليرد الجواب عليه منا بما يشرح الصدور ويطيب النفوس وليتنأول من المعلوم على ذلك في غرة كل شهر مايشهد به الديوان المعمور؛ والله تعالى يتولاه ويعضده، ويؤيده ويسدده، بمنه وكرمه!.
قلت: وربما كتب لناظرها توقيع مفتتح بأما بعد حمد الله في قطع الثلث.
وهذه نسخة توقيع بنظر ثغر الإسكندرية، وهي: أما بعد حمد الله مفيض حلل إنعامنا على من أخلص في طاعتنا الشريفة قلبه ولسانه، ومولي فضل آلائنا العميمة على من أرهف في مصالحنا عزمه وبنانه، ومحلي رتب عليائنا الشريفة بمن أشرق في سماء المعالي بدره وإنسانه، وأينعت في غصون الأماني قطوفه وأفنانه، ومبلغ أقصى غاية المجد في أيامنا الزاهرة بمن تبتسم بجميل نظره الثغور، وتعتصم بحميد خبره وخبرته الأمور، وتشرق من جميل تدبيره البدور، وتعتمد على هممه الأيام والدهور، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الهادي إلى الحق وإلى طريق مستقيم، والناشر لواء العدل بسنته الواضح وشرعه القويم، والمنجز لمن اقتفى سبله أوفى تكريم، وأوفر حظ عظيم، وعلى آله وأصحابه مااهتدى بهديهم ذوو البصائر والأبصار، وارتدى بأرديتهم المعلمة مقتفي الآثار- فإن أولى من أسندنا إلى نظره الجميل رتبة عز مازالت طيور الآمال عليها تحوم، وعدقنا بتدبيره الجليل منصب سيادة مابرحت الأماني له تروم، واعتمدنا على همته العلية فصدق الخبر الخبر، وركنا إلى حميد رأيه فشهد السمع وأدى النظر.
ولما كان فلان هو الذي اتسق في ذورة هذه المعالي، وانتظم به عقد هذه اللالي، وحوى بفضيلة اللسان والبيان مالم تدركه المرهفات والعوالي؛ فماحل ذروة عز إلا وحلاها بنظره الجليل، ولارقي رتبة سيادةٍ إلا وأسفر في ذروتها وجه صبحه الجميل، ولاعدق بنظره كفاية رتبةٍ إلا وكان لها خير كفيل.
فلذلك رسم بالأمر الشريف- لازال ينتصي للرتب العلية خير منجد وممير، ويمتطي للمناصب السنية نعم المولى ونعم النصير- أن يستقر فإنه القوي الأمين، والمتسمك من تقوى الله تعالى ومراقبته بالسبب المتين، والمتسند بجميل كفايته، وحميد ديانته، إلى حصن حصين، والمستذري بأصالته وإصابته إلى الجنة الواقية والحرم الأمين؛ فليقدم خيرة الله تعالى في مباشرة الوظيفة المذكورة بعزم لاينبو، وهمة لاتخبو، وتدبير يتضاعف على ممر الأيام ويربو، ونظرٍ لايعزب عن مكباشرته فيه مثقال ذرة إلا وهي من خاطره في قرار مكين، وضبطٍ لاتمتد معه يد لامس إليها إلا ويجد من مرهفه مايكف كفها عن الخيانة بالحق المبين، وليضاعف همته في مصالح هذه الجهة التي عدقناها بنظره السعيد، وليوفر عزمته فإن الحازم من ألقى السمع وهو شهيد؛ والوصايا كثيرة ومثله لايدل عليها، والتنبيهات واضحة وهو- وفقه الله- أهدى أن يرشد إليها؛ والله تعالى يوفقه في القول والعمل، ويصلح بجميل تدبيره وحميد تأتيه كل خلل، يمنه وكرمه!
الطبقة الثانية: مجلس القاضي:
من يكتب له في قطع الثلث بالمجلس السامي بغير ياء أو مجلس القاضي وفيها وظيفتان:
الوظيفة الأولى: كتابة الدرج:
وصاحبها هو الذي يقوم بالإسكندرية مقام كاتب السر بالأبواب السلطانية في قراءة المكاتية على النائب، وكتابة الأجوبة ومايجري مجرى ذلك.
وهذه نسخة توقيع من ذلك: رسم بالأمر الشريف- لازال شاملاً فضله، كاملاً عدله، هاكلاً بالإحسان ويله، متصلاً بالجميل حبله، ملاحظاً بعين العناية للبيت الزاكي فرعه الطيب أصله، معلياً نجمه إلى أسننى المراتب التي لاينبغي أن يكون محلها إلا محله- أن يستقر فلان في كتابة الدرج بثغر الإسكندرية المحروس على عادة من تقدمه في ذلك وقاعدته، لالمعلوم الشاهد به الديوان المعمور إلى آخر وقت: لأصالته المعرقة، وغصون نسبه المورقة، وآدابه الجمة، وفضيلته التي أبدى بها علمه، وكتابته التي حلت المهارق، وأبدت من الجواهر ماتتمنى لمسه المفارق، وتذوي لنضارته أزاهر الروض النضير، وتتفرد في الحسن فلا تجد لها من نظير، وتبرز كالعقود في أجياد الترائب، وتنشيء كتباً تغني عن الكتائب؛ مع ماله من رآسةٍ أثبتت معاليه، ونفاسةٍ أضحت بجواهرها الأوصاف حالية، وصدارة توالت منه فاستوجب بها مزيد الحسنى المتوالية؛ قد خول في كرم الأصل فلا غرو أن أمسى نجيباً، ودعا بديع اللفظ ولطيف المعنى فغدا كل منهما لأمره طائعاً وبالإذعان مجيباً، ودعا بديع اللفظ ولطيف المعنى فغدا كل منهما لأمره طائعاً وبالإذعان مجيباً، وعلا كوكبه فأضحى في الرفعة بعيداً وإن كان في مرأى العين قريباً، وزكا من أكابره إلى كل فريدٍ في سؤدده، واحدٍ في علاه يفوق الجمع في عدده؛ فهو إنسان عين زمانه، ومالك زمام الإنشاء ومصرف عنان بنانه، ومبرز الحسنات بسفارته المقبولة وإطلاق بيانه، فلا غرو ان استوجب منا مايقضي له بالمزيد، واستحق باتباع أصله العالم التقي إدراك مايريد، وتحلى بمناقبه ومآثره، ونقل عن عفافه ومفاخره.
فاستمر في ذلك على أجمل عوائده، وأجزل فوائده، سالكاً في ذلك طرائفه الحميدة، ومناهجه ومناهج أسلافه السديدة، مبرزاً من خطه ما يخجل به الطروس، ويسر بمزاياه لانفوس، وينظم كالعقود، ويلوح للأبصار حسن رونقه المشهود؛ والله تعالى يجعل إحساننا لدى بيته الكريم مستمراً، وامتناننا العميم عنده مستقراً، وثغر العناية به مفتراً، بمنه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
الوظيفة الثانية: نظر دار الطراز بثغر الإسكندرية:
وهذه نسخة توقيع بذلك، كتب بها لصلاح الدين بن علاء الدين علي بن البرهان، سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، من غنشاء الشريف شهاب الدين كاتب الإنشاء، وهي: رسم بالأمر الشريف- لازال إيثاره، يكرم من غدا صلاحه لحلة العلى طرازاً، واختياره، يقدم للمناصب الجليلة من ورث من أبيه نهضةً واحترازاً- أن يستقر فلان في كذا: لكفايته المعروفة المحققة، ودرايته المألوفة بركاتها الموفرة وحركاتها الموفقة، وديانته التي منها الأكابر على ثقة، وأمانته التي تعتمد الحق مستدعيةً ومنفقةً، وصيانته التي هي للواصل حافظة وعلى الحاصل مشفقة.
فليباشر هذه الوظيفة التي كانت في سالف الزمان إلى الحكام تضاف، وللعلماء الأعلام عليها نظر وإشراف، ومنها يسدل على أوليائنا لباس الإنعام وترسل أجناس الإتحاف، وتسربل الكعبة البيت الحرام في كل عام بجلبابها المحكم النسج المعلم الأطراف، وليصن ذهبها عند صرفه وقبضه، وليزن خزها بتقريب مشوبه وتحرير محضه، وليبن عن حسن التدبير في إبرام حريرها ونقضه، وليستجلب رجالها وصناعها، وليجنب أحوالها ضياعها، وليستجد أصنافها وأنواعها، وليتفقد أكنافها وبقاعها، حتى يظهر في أعمالها آثار الصلاح، وتشكر مباشرته التي هي محمودة الانتهاء مسعودة الافتتاح؛ والله يقرن رجاءه بالأرباح، ويؤذن له حيث سلك بإصابة الصواب والفلاح، بمنه وكرمه! قلت: ودار الطراز هذه هي التي تعمل فيها المستعملات السلطانية: مما يحمل إلى خزانة الخاص الشريف من الأقمشة المختلفة الصفات: من الحرير والمقترح المخوص بالذهب، والتفاصيل المنقوشه بضروب النقوش المختلفة، وغيرذلك من رقيق الكتان وغيره مما لايوجد مثله في قطر من أقطار الأرض؛ ومنه تتخذ الأقمشة التي يلبسها السلطان وأهل دوره، ومنه تعمل الخلع والتشاريف التي يلبسها أكابر الأمراء وأعيان الدولة وسائر أهل المملكة، ومنه تبعث الهدايا والتحف إلى ملوك الأقطار. وقد كان يكتب لناظر هذه الدار توقيع عن الأبواب السلطانية خارج عن توقيع منناظر الإسكندرية على ماتقدم ذكره. أما الآن فقد صار ذلك تحت نظر ناظر الإسكندرية يتحدث فيه كما يتحدث في سائر أمورها، ومرجع الكل إلى ناظر الخاص بالأبواب السلطانية.
الجهة الثانية مما هو خارج عن حاضرتي مصر والقاهرة بالديار المصرية:
بلاد الريف والمراد بالريف في أصل اللغة موضع المياه والزرع وقد تقدم أن ريف الديار المصرية وجهان:
الوجه الأول: الوجه القبلي:
وهو المعبر عنه بالصعيد وقد تقدم في المقالة الثانية في الكلام على المسالك والممالك أنه ينقسم إلى صعيدٍ أعلى، وصعيدٍ أسفل، وقد كانت ولايته العامة في الزمن المتقدم يعبر عن صاحبها بوالي الولاة بالوجه القبلي ثم استقرت نيابة سلطنة على حد تقدمة العسكر بغزة في رتبة المكاتبة في الأيام الظاهرية برقوق وهي على ذلك إلى الآن، ونائبها يكتب له تقليد بنيابة السلطنة بها في قطع النصف.
وهذه نسخة تقليدٍ شريفٍ من ذلك، من إنشاء الشريف شهاب الدين كاتب الإنشاء، وهي: الحمد لله الذي رحم بتعاهد نظرنا البلاد والعباد، وحسم بموارد زواجرنا مواد الفساد، وأحمد في هذا الوجه لنا الآثار ووطأ بنا المهاد، وأفرد آراءنا بجميع المصالح على الجمع والإفراد، وأولى بنا الرعية الخير في استرعاء من يبذل في صيانتهم الاجتهاد، وأعلى بنا كلمة العدل فهي تنشر وتذاع وأوهلا بنا كلمة الظلم فهي تقهر وتذاد، وأجلى بانتقامنا فئة الضلال فلها عن ملكنا الشريف اندفاع وانطراد نحمده على أن قرن بآرائنا السداد، وشنكره على أن ضمن اصطفاءنا حسن الارتياد، ونشهد أن لإله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تقوم حجتها، يوم يقوم الأشهاد، وتدوم بهجتها، علماً للإرشاد، ونشهد أن سيد البشر محمداً عبده ورسوله الذي فضل العالم وساد، وأجزل المكارم وجاد، وهدى بشرعه من خاد، وأردى بردعه ممن حاد، وأجرى بجوده النفع حيث كان وأبدى ببأسه القمع لمن كاد، وأخمد بأسيافه الباطل فباد، وجعل لأنف مخالفه الإرغام ولجيسش مجانفه الإرعاد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الأنجاب الأنجاد، صلاةً لها تضاعف وتعداد، وبفتكاتهم للنزوائب إخماد، وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد، فإن الله تعالى لما أعلى هممنا وأصعدها، ووفى عزائمنا من النصر موعدها، وأسعف بملكنا الرعية وأسعدها، وضاعف بنا لديهم النعمة وجددها، وأوضح بنا سبل المعدلو وجددها، وأوضح بنا سبل المعدلة وجددها، وأنجح بسلطاننا آمال الخليقة وأنجدها- لم نخل من ملاحظتنا أدنى القطار ولاأبعدها، ولم نغفل من ممالكنا ناحية إلا نحاها فضلنا وقصدها فأقر بها الصالحات وخلدها، وأثر بها المسامحات وأبدها، ونصر الشريعة وأيدها، وسد الزريعة بأفعال حزمٍ سددها، ووطن أهلها ووطدها، وأورد من بها موارد الأمن لما وردها.
ولما واجه إقبالنا في هذه الأيام الوجه القبلي، وصعد إلى الصعيد الأعلى ركابنا العلي، لمحنا بلاده وتعددها، وتعين ملاحظته وتأكدها، وكثرة السلاك لسبله، والملاك لخوله، والوارد لنهله، والوفاد من قبله؛ وهو منهج التجار في التوجه من أبوابنا الشريفة والجواز، وباب اليمن والحجاز؛ وفي الحقيقة هذا المجاز يتعين له الحفظ وفيه الاحتراز، وبه كراسي منها السيارة تمتار وعلى سواها من البلاد تمتاز، وبه مراكز ولاة ينفرد كل منها عن الآخر وينحاز، وهي: إطفيح، والبهنسى، والأشموني، ومنفلوط، وسيوط، وإخميم، وقوص، وهذه الأقاليم مجتمعة متفرقة، وحدود بعضها ببعضٍ متعلقة، وبها إقطاعات مقدمي الألوف والطلبخاناه والمماليك والحلقة، وإليها تردد الركاضة والمرتوقة، وربما أخاف المفسدون من بعضها سبله وقطع طرقه، فاتهم البري، وسلم الجري، ولبس على من هو عن الخيانة عري؛ فرأينا أن ننصب بهذه الأقاليم والي ولاة يجوس بنفسه خلالها، ويدوس بخيله سهلهاوجبالها، ويفجأ مفسديها، ويبغت معتديها، ويخمد نفاقها، ويحمد وفاقها، وينصف ضعافها، ويذهب خلافها، ويزيل شكواها، ويكف عدواها، ويصلح فسادها، ويوضح سدادها، ويوصل حقوقها، وبستأصل عقوقها، ويواصل طروقها، ويقابل بالعقاب فسوقها، ويمنع باهتمامه أهواءها، ويشفي بحسامه أدواءها.
ولما كان المجلس السامي، الأميري، الحسام يهو الذي عرف أحوالها وخبرها، وولي من أقاليمها ماعلم به مصالحها واعتبرها، وعهدت منه الأمانة والكفاية، وتحققت من أقاليمها ماعلم به مصالحها واعتبرها، وعهدت منه الأمانة والكفاية، وتحققت بنهضته في كل عمل ويقظته في كل ولاية- اقتضى حسن الرأي الشريف أن تفوض إليه نيابة السلطنة الشريفة بهذه الأعمال المذكورة والأقاليم كلها، وأن ينتضي فيها حسامه الذي ينبغي أن يرتضى وينتضى لمثلها، وأن يحل محله إذ اخترناه لأعلى رتب الولاة وأجلها، وأن نصل أسباب النعمة لديه بذه النعم التي كل ولايةٍ فرع لأصلها.
فلذلك رسم بالأمر الشريف- لازالت أيامه الشريفة تخص الرتب العليه بأهاها، وتشمل ذوي الاهتمام بإحسانها وفضلها- أن يفوض إلى المشار إليه ولاية الولاة بالوجه القبلي. فليباشر ذلك بهمة تمضي في البلاد عزائمها، ونهضة تسير إلى دانيها وقاصيها صوارمها، وشهامةٍ يدهش المتمردين قادمها، ويفقد مواد الفساد من حسامها حاسمها.
ونحن نرسم له بأمور يلازمها، ونوصيه بوصايا يدوامها؛ أن يكون بتقوى الله تعالى عاملاً، وللنصح باذلاً، وللشريعة مؤمناً، وللمنافقين موهان، وللرعايا موطناً، وللنزاهة مظهراً ومبطناً وعن الأبرياء كافاً، وعن الأتقياء عافاً، وعن الأموال منزاً، وإلى مايصلح الأعمال من صالح الأعمال موجهاً، وليغد في الأمور مثبتاً، ولذوي الفجور مشتتاً، ولسماع حجج الخصوم منصتاً، ولاسجعل لحلوله الأقاليم حيناً مؤقتاً، بل يدخل المدينه على حين غفلة من أهلها، وليبغت بحلوله هذه النواحي ليعلم ماهم عليه من ترك الفواحش أو فعلها، وليقم لكل جهةٍ من يعلمه بما يحتاج إلى علمه، ويبكر له بما يفتقر أهل البلاد إلى الستر عنه وكتمه، وليلحظ المحارس والأدراك، وليجعل لكل شارد من بطشه أسرع إدراك- وقد رسمنا لولاة الأعمال المذكورة ومن فيها من نواب الأأمراء والمشايخ بهذه الصورة وأن لايجبروا مفسداً ولايؤووه، ولاينزلووا خائناً ولايحووه، ولايستروا مختفياً ولايخبوه، ولايحلوا نازحاً ولايوطنوه، بل يحضروه ولايؤخروه، ويمسكوه ولايتركوه، ويسلموه ولايحموه؛ ومن خالف هذا المرسوم، أو اعتمد غير هذه الرسوم، فهو لنفسه ظلوم، وقد برئت منه الذمة، وزالت عنه الحرمة، وزلت قدمه، وذهب ماله ودمه؛ وقرئت مراسيمنا بذلك هنالك على منابر الجوامع، وسمعها كل سامع، وهم لك على امتثال أوامرنا مساعدون، وعلى اجتناب نواهينا معاضدون، وللإصلاح مااستطاعوا مريدون وقاصدون؛ فلا تمكن أحداً من العربان ولا من الفلاحين أن يركب فرساً، فإنما يعدها للخيانة مختلساً، ولايكون لها مرتبطاً ولامحتسباً؛ وكن لهم ملاقياً مراقباً، فمن فعل ذلك فانتقم منه بما رسمكنا معاقباً؛ ولاتمكنهم من حمل السلاح ولا ابتياعه، ولااستعارته ولااستيداعه، وتفقد من بالأقاليم من تجاره وصناعه؛ فخذ بالقيمة ماعند التجار، واقمع بذلك نفس الفجار، وأضرم نار العذاب على من أضرم لعمل ذلك النار؛ وأمر كل فئتين متعاديتين بالمصالحة، وأكفف بذلك يد المكافحة، وحلف بعضهم لبعضٍ بعد تحليف أكابرهم لناعلى السيرة الحميدة والنية الصالحة، وخذهم في الجنايات بالعدل والمشاححة، وفي المطالبات بالرفق إن لم تكن مسامحة، واحملهم على محجة الحق الأبلج والشريعة الواضحة. ولإذا رفعت إليك شكوى فأزلها، أو سئلت إقالة عثرة لذي هيئة فأقلها، أو وجب حد فأقمه لحينه، أو ارتبت في أمر فترو حتى تهتدي ليقينه، ولاتعتقل إلا من أجرم جرماً الاعتقال والحبس، ولاتسرع إلى ماتخشى فيه اللبس، واعمل على براءة الذمة، واجهد أن لا يكون أمرك عليك غمة، ولاترجح للهوى على خصم خصمه، ولاتظلمه فإن الظلم ظلمة، وخف نقمة الله فهي أعظم نقمة، ولاتأخذك على البريء غلظة ولاقسوة كما لاينبغي أن تأخذك في الجريء رأفة ولارحمة؛ والله تعالى برفع لك بالطاعة رتباً، وينجح لك بالخدمة طلباً، ويبلغ بك في الإصلاح أرباً، ويرد بك أمر كل مفسد مخيباً، ويوضح لك من الهداية مغيباً، وينزل بك من الخيرات طيباً؛ والخط الشريف أعلاه حجة بمقتضاه، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة تقليد بنيابة السلطنة بالوجه القبلي أيضاً، من إنشاء الشريف شهاب الدين، كتب به لعلاء الدين المرادي وهي: الحمد لله الذي جعل إقبالنا مسفر الوجوه، ونوالنا مبلغاً كلاً من الأولياء ما يؤمله منن القرب من أبوابنا الشريفة ويرجوه، وإفضالنا يوفر أقسام النعم لمنن وفر دواعيه على طاعتنا فلا يزال استحقاقه يعينه ويدعوه، وإجمالنا ينجز وعود التقديم لمن تعددت خدمه فلا يتجاوزه التكريم ولايعدوه.
نحمده على أن جعل إنعامنا يهب الجزيل ويحبوه، ونشكره على أن أقلمنا نحق الحق فنرفعه فيدمغ الباطل ويعلوه.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً هي خير ماينطق به الإنسان ويفوه، لايبرح اللسان يكرر غخلاصها ويتلوه، ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله الذي رفع الله ببعثته عن هذه الأمة كل مكروه، وحمى بشرعته الدين الحنيف فلا يلم به التبديل ولايعروه، وأفاض ببركاته في كل وجه مايوسع الخير ويدره ويمنع الشر ويذروه، صلى الله عليه وعلى آله الذين هم عثرته وأقربوه، وصحبه الذين استمعوا قوله واتبعوه، صلاةً لايزال وافدها يتبع سبيل الإجابة ويقفوه، ويصل إلى محل القبول ولايجفوه، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد، فإن الله تعالى بما قرن آراءنا بالسداد، وأحين بنا النظر في صلاح البلاد ومصالح العباد، لم نزل نرفع أقدار المخلصين بمزية الاختيار والارتياد، ونجمعهم في صعيد الإحسان ونحلمهم رتب الإصعاد، وندني منهم من له تام اهتمام وشاد اجتهاد، ونميز منهم من حسن حالاً لالجمع والإفراد.
والولاية على الولاة بالوجه القبلي من أهم مايلمح، وأعم مايختار له من للحق ينصر وللخلق ينصح؛ إذ بهذا الوجه عيون البلدان، ووجوه العربان، وكراسي الأقاليم الحسان، ومراكز الولايات التي تحل دائرة السوء بأهل العدوان، وإقطاعات الجند والأمراء، والخواص الشريفة التي على عمارتها إجماع الآراء، وعليه تتردد التجار، وإليه بالميزة يشار، ومنه تتعدد المنافع فيتعين أن ندفع عنه المضار، ونلقي أموره لمن ينتقى حزمه وعزمه ويختار.
ولما كان فلان هو الذي له ولايات اقتضت تقديمه، وسبقت منه سوابق خدم أجزلت تكريمه، ومازال في الشام علي الهمة حسن الشيمة، وطهر البر من كل فاجر، ورأى أن التقوى أربح المتاجر، وأعذب للرعية من المعدلة الموارد فصدر من أبوابنا إلى أحمد المصادر- اقتضى حسن ألأرأي اشريف أن نجعل له من إقبالنا النصيب الوافر، فلذلك رسم بالأمر الشريف- لابرح يزيد الأقدار علاءً ويظهرها من تكريمه في أحسن المظاعهر- أن تفوض إليه نيابة لاسلطنة الشريفة بالوجه القبلي وجميع نواحيه، على عادة من تقدمه في ذلك ومستقل قاعدته إلىآخر وقت.
فليتلق هذه الولاية المباركة بقبول حسن، وليوقظ جفن سيفه الذي لم يعرف الوسن، وليتق الله ربه في السر والعلن، وليحكم بما شرع الله وسن وليجتهد في إحماد العواقب وإخماد الفتن، لبسكن من تردد إليها أو سكن، وليلاحظ هذه الأقاليم بعزائمه السيارة، وليحافظ على سلوك سيرته السارة، وليستطلع من كل بلد أخباره، ويتتبع كم كل والٍ آثاره؛ وإن رأى منكراً أزاله، أو وجد مبطلاً أذالهأو حقاً أداله؛ وليعظم أحكام الشرع وحكامه، وليجعله إمامه ليسعى نوره أمامه، وليطالعنا بما تتعين فيه المطالعة، ويراجع أوامرنا فيما تجب فيه المراجعة، وليستجلب لأيامنا الأدعية النافعة، وليباشر بنفسه الأمور التي هي له راجعة، وليراع في القضايا المصلحة الجامعه، ولتكن حمايته للمؤمنين واقية وفتكته بالمجرمين واقعة، وليسع الرعايا بالمعدلة الواسعة، ويمنع المجترئين بالأخذه الرابية والهيبة الرادعة، ولا يمكن أحداً من العربان بجميع الوجه القبلي أن يركب فرساً ولايقتنيه، ويكف بذلك الأيدي المعتدية فإن المصلحة لمنعهم من ركوبها مقتضية، وليقم الحرمة والمهابة، وليدم قيامه في الخدمة وانتصابه، وليرهف حد عزمه ويمضيه، ويجرد سيف الانتقام على المفسدين وينتضيه؛ ومن وجده من العربان خالف المرسوم الشريف من منعه من ركوب الخيل كائناً من كان ضرب عنقه، وأرهقه من البطش بما أرهقه: ليرتدع به أثماله، ولايتسع لأحدٍ في الشر مجاله.
وقد كتبنا إلى سائر الأقاليم بمساعدته، وأمرناهم بمعاونته ومعاضدته، وأكدنا عليهم في البمادرة إلى مايراه من جميع الأمور من غير تهاون ولاتقصير ولافتور، حتى لاتفوت مصلحة عن وقتها، ولاتزال جموع المعتدين معاجلة بكبتها؛ وقد حذرنا العربان من مخالفة مارسمنا بالعترض لما يوجب هلاك نفوسهم، وقطع رؤوسهم.
وليقرأ هذا المرسوم الشريف على المنابر بجميع نواحي الوجه القبلي لتمتثل مكراسمه، ويتلقى بالقبول قادمه، وليقفوا عنده، ويقفوا رشده، ويرهبوا من الشر وعيده ويستنجزوا من الخير وعده؛ وهو- بحمد اله- مابرح مهذباً، وبأكمل الآداب مؤدباً، وبما يفعله إلى رضا الله تعالى ورضانا مقرباً؛ والله تعالى يجعله مختاراً مجتبى، ويوزعه شكر منحنا الذي أجزل له الحبا، وخص به هذا العمل الجليل فضاعف خصبه واهتز وربا، ويطلعه مباركاً ميموناً حيث حل قيل له: مرحباً، ويصعد به هذه الرتبة ويهبه توفيقاً مستصحباً، ويمهد به الطرق للسالكين حتي يتلو عليه لسان التأمين: {فتيمموا صعيداً طيبا}؛ والخط الشريف أعلاه، حجة بمقتضاه، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة تقليد شريف بنيابته أيضاً، من إنشاء المقر الشهابي بن فضل الله، وهي: الحمد لله مطلق التصرف فيما كان ممنوعاً، ومنطق المتصرف ليكون قوله الصواب مسموعاً، وموسع نطاق المصرف فس جميع ماتعين أن يكون له مجموعاً.
نحمده حمداً يعذب ينبوعاً، وينبت بمزيد الشكر زروعاً، ويدر ضروعاً ونشهد أن لا إله غلا الله وحده لا شريك له شهادة تتفرع فروعاً، وتسكن جموعاً وتسكت جموعاً، ونشهد أن محمدا: عبده ورسوله الذي أقوى لأهل الطغيان ربوعاً، وأجرى لعيون الزرد عليهم دموعاً، وأغرى القسي بالحنين إليهم وروعاً، وأسقط من تشكى جوعاً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاةً تعم درع الفجر بشفقها المخلق صدوعاً، وسلم تسليماً كثيراً وبعد، فإنه لايستقيم نجاح الأمور، ويستدام صلاح الجمهور، إلا بتفقد أحوال ولاتهم، وتعهجد سلوك الرعايا مع رعاتهم، ورد مجموع كل عمل إلى من لا يبيت طرفه في مصالحهم مملوءاً من الوسن، ولايقر له في التنقل في مهماتهم جواد فيرسن، ولاتهدأسيوفه في الأغماد مابرقت بارقة فتن، ولايشرب الماء إلا ممزوجاً بدم ٍ ولايبيت إلا على دمن؛ وكانت الديار المصرية المحروسة أحوج شيء إلى هذا الموصوف؛ وأكثر اضطراراً إلى ماتشام له في صلاح رعاياها لوامع سيوف؛ والوجه القبلي بها هو الجامع مايزيد على السبعة الأقاليم، الحائز من أهل الحضر والبادية لكل ظاعن ومقيم؛ قد امتد حتى كاد لا ينتهي إلى آخر، ولايلتهي بما يكنفه من بر مقفر وبحرٍ زاخر، قد جاور بالأدوية العميقة الحوت في الماء وجاوره في السماء برفعة الجبال، وتطأول حتى اتصل طرفاه الجنوبي بالجنوب الشمالي بالشمال، وحوت مجاريه من النيل المبارك ما مد الرزق الممتد، وأمد المد المبيض على عنبره ثراها المسود؛ وهو الوجه الذي تعرف في كوثر نيله نضرة النعيم، ويبهر حسناً من أول قطرةٍ تقع من مرآه الجميل على وسيم، قد حال فيه الماء محمراً كنمايشرب ندى ورد الخدود، وحلا كأنما ضرب الضرب في لمى ريقه المورود، وكان لاينهض بأعبائه، ويرد بالغيظ متقرحة عيون رقبائه، ويمنع كل منسر منسر يحذر أن ينتهب وذيل خبائه، إلا من تقدمت له درب يتعلم في جليل الخطوب من مضائها السيف المذرب، ويقتدي في دقيق التلطف بسياستها القلم المجرب؛ وكان فلان هو الذي تتهادى كفايته الأمال، ويتعادى نفعه والسحب فلا يدرى بمن منهما التروي ولمن الاتجال؛ وقد ولي الأعمال البهنساوية، فأضحى المغل في بيادره يتبادر، والإقبال يتكاثر إقباله والمحل يتناذر، ومزدرعاتها تعرف سيماها في وجوهها من أثر سجود الليل كزرع أخرج شطأه فاستازر، فاقتضى حسن رأينا الشريف أن نطلق تصرف فيما جاوره من الأعمال، وأن نشغل له يميناً باليمين وشمالاً بالشمال.
فخرج الأمر الشريف العالي- لازال يؤيد عز الدين ظهوراً، ويتم به في أعماله نوراً- أن يكون فلان كاشفاً ووالي الولاة بالوجه القبلي بأجمعه: معطله ومزدرعه، وبره وبحره، وعامره وقفره، وأهل حضره وباديته، وأصحاب زرعه وماشيته، على عادة من تقدمه وقاعدته في ذلك، ليأمن المقين والسلك، ويجمع على الطاعة من قبله هنالك، وينتطم عقد عقائدهم المتهالك، ويقوي الله أجره، والشرع الشريف يكون نهيه وأمره، والحكام والأحكام هما ما هما فليحفظ زمامهما، ولينفذ إلى الأغراض سهامهما، وليوصل الحقوق إلى أربابها، ويسهل المطالب على طلابه، ولينصف إنصافاً لايشتكى معه حيف، وليقم المهابة حتى لايقدر على التعدي طارق طيف، وليجرد عزائمه فإن من العزائم ماهو أمضى من السيف، وليحسن قرى التيل القادم في كل قريةٍ فإنه ضيف.
فعليك بما نأمرك به من تعبئة صفوف الجسور لأمداده، والاستعداد لمجر عوالي صواريه ومجرى جياده؛ وتفقد قبل قدومه طريقه، واترك عن ري البلاد تعويقه، وأقم الجسور، فهي قيام الجسور، واحفر التراع فإنها تراعيى، وأسفر له عن عرائس قراها المجلوة وجوها كلما قسن له إصبعاً يقيس ذراعاً، واقطع بإيصال حق كل ناحيةٍ إليها من الماء منازعة الخصوم، ونبئهم أن الماء قسمةً بينهم لكل منهم شرب يومٍ معلوم، ولاتدع به أحداً من أهل المفاسد، ومن جرت لهم بسوابق الفتن عوائد، ومن يتعزز برب جاه، ومن ومن لا يكون له إلى حماية اتجاه، ومن خرج بوجهه للشر مصرحاً، أولباب عقابٍ مستفتحاً، أو وقف على درب أو قطع طريق، أو توعد أهل رفاقٍ أو أهل فريق، أو أقدم على ضرر أحدٍ في نفس أو مال، أو خشيت له عاقبة في بدايةٍ أو مآل، أو نزل في بلد أميرٍ ليتغطى بجناحه، أو ترامى إلى عصبة يحمل منهم حد سلاحه؛ فسل عليهم سيفك الماضي، وأحسن إلى الناس إذا خشيت أن تسيء إليهم التقاضي؛ ومن أمسكته منه فأمض حكم الله فيهم، وأقم الحدود على متعديهم، وطهر الأرض بماء السيوف من أنجاسهم، وعلق منهم أناساً بحبل الوريد إلى مدارج أنفاسهم، واصلب منهم على الجذوع من تناوح الرياح بسعفهم، وأوثق منهم بالسلاسل والأغلال من لاتقتضي جرائمهم إيصالهم في المقابلة إلى حد تلفهم، وأكرم قدوم من يرد عليك من الكارم، وقرر بحسن تلقيك أنك أول ماقدمناه لهم من المكارم ظ، فهم سمار كل نادي، ورفاق كل ملاح وحادي؛ ولابد أن يتحدث السمار، وتتداول بينهم الأسمار؛ فاجعل شكرنا دأب ألسنتهم، ومنننا حلية أعناقهم، ومنحنا سبباً لاستجلاب رفاقهم؛ فهم من مواد الإرفاق، وجواد مايحمل من طرف الآفاق؛ وقد بقي من بقايا أهل العقائد الفاسدة، والمعاقد البائدة، من يتعين إقعاد قائمهم، والتيقظ لمتيقظهم والنوم عن نائمهم. ونحن ننبهك على هذه الدقائق، ونوقفك على أطرافها ولك رأيك إذا حقت الحقائق؛ وطالع أبوابنا العالية بما أشكل عليك، تتنزل أنوار هدانا أقرب من رجع نفسك إليك، وأقدر حق هذه النعمة فإننا أوليناك منها مالايضاهى، ووليناك من بلادنا قبلةً نرضاها، وتوليناك حيث وجهت وجهك شطر المسجد الحرام، ونوعت لك أرواح الحجاز وأنت في مصر وريفها العام؛ والله تعالى يديم منك سيفاً يروع مهزه، ويويد بك الدين فإنه بك يقوم وجاهه ويدوم عزه؛ والاعتماد على الخط الشريف أعلاه، إن شاء الله تعالى.
الوجه الثاني: الوجه البحري:
من وجهي الديار المصرية البحري، وهو الشمالي وكانوا في الزمن القديم يخصونه باسم الريف، مثل اختصاص الوجه القبلي بالصعيد.
وأرباب الولايات فيه على ضريبن:
الضرب الأول أرباب السيوف وتختص الكتابة منهم الآن ىعن الأبواب السلطانية بنائب السلطنة بالوجه البحري، ومقره مدينة دمنهور من البحيرة، وكان من الزمن المتقدم يكتفي في البحيرة بواليها، وكذلك في كل سائر الأعمال بالوجه البحري، وفوق الكل ولاية عامة، يعبر صاحبها بوالي الولاة، وربما زيد بالوجه البحري، وربما عبر عنه بالكاشف. ثم استقرت نيابةً في رتبة العسكر بغزة في أيام الظاهر برقوق، على ماتقدم ذكره في المسالك والممالك في المقالة الثانية.
وهذه نسخة تقليد تصلح لنائب الوجه البحري، مما كان كتب به المقر الشهابي بن فضل الله الوالي الولاة بها، وهي: الحمد لله الذي أقام بنا كاشفاً لكل شكوى، كاسفاً بال كل عدوى، عارفاً بنهاية كل دعوى، عاطفاً بعدلنا إلى إزاحة كل لأوى، وإزالة كل بلوى بنهاية كل دعوى، عاطفاً بعدلنا إلى إزاحة كل لأوى، وإزالة كل بلوى.
نحمده وهوأهل الحمد والتقوى، ونشهد ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نأمن بها الدانية والقصوى، ونؤمن بها على السر والنجوى، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله أشرف من مهد له جنة المأوى، وأشرف به على شرف المثوى، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين فطم بشريعته نفوسهم عما تهوى، وفطر فطنهم عليها حتى لاتضل ولاتغوى، صلاةً ترتوي بفائضها السحب ماتروى، وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد، فإن من سجايا أيامنا أن نكشف كل كرب، ونحسن إلى رعايا بلادنا إحساناً ينوع في كل صرب، ونديم الأمن حتى لاندع سوى النيل قاطع طريقٍ أو خارجاً على درب، ونجرد من المهابة سيفاً يخشى من قربه، وطيفاً بيبيت به طير الكرا متململاً على جنبه، وخوفاً لبابه من الخصائص المحمدية أنه يتقدم إلى قلوب الأعداء متململاً على جنبه، وخوفاً لبابه من الخصائص المحمدية أن يتقدم إلى قلوب الأعداء مسيرة شهر جيش رعبه؛ وكانت الديار المصرية المحروسة هي التي لايحمد سواها ذو وجهين، ولايوجد لها في جانبيها مماثل في شيئين؛ والوجه البحري أوسعمهما عراضاً، وأقربهما من الري أرضاً، وأصدقهما للبارق المحمر ومضاً، وأجمعهما للذهب مذاهب وللفضة أفضا، وأثبتهما وطأة لمجرى النيل إذا أقبل في تياره يت افع واشتدت خيله ركضاً؛ وهو الوجه المتهلل بشراً، المتضوع بطيب رياحه نشراً، المتزين بمدائنه أكثر مما زينه في مقاصيره قيصر وفي مدائه كسرى، المتثني بعروس كل قريةٍ زف بها النيل في مسرى، وبه الثغور التي لاتشام لها بروق، والمحارس التي مالعادية إليها طروق، وله من البحرين حاجزان، ومن الجانبين بر مقفر وريف مقمر متبارزان، وفيه م الشعوب وألقابئل في الحض روالبادية من لايؤمن منه باتره، ولايخمد بغير مايراق من دم مفسدسهم ثائرة. وكان لايقوم بها كل القيام، ويجمع فرائدها المشذرة في أكمل نظام، إلا من انقلبت الأمور بقلبه كل التقليب، وجردت النوب عزمه في الوائب فجردت سيفاً يحمد في التجريب، ولم يزل منذ بلغ الحلم أميراً مطاعاً، ومندوباً لايفرق في المهمات إذا طارت نفوس الأنظار شعاعاً، وأوقدت الأسنة سواعاً، وهماماً لو أومض البرق ساعة بؤسه لارتعدت فرائصه زمعاً لاإزماعاً، أو قابله الريح المعتدل عند أحكامه لأطبقت الأمم على أمه لايماثله في العدل قطعاً وأجمعت على تفرده إجماعاً.
وكان فلان هو العلي همماً، الجزل مداومة الجزيل ديماً، الملي بما لا يقدر على مثل دفعه البحر متدفقاً وهمي الغمام منسجماً؛ وقد حمدنا له في كل ماباشره أثراً، وأخمدنا بجميل ملاحظته كل بر ضراً، فباشر الوجه القبلي فملأ عين الناظر المتوسم، وعم سروروه حتى غامزه جاره الوجه البحري ببنانه المخضب وضاحكه بثغره المبتسم، فلما تنقل فيهما استقرار؟ الوجهين وما والاهما، وعرف في وجهه نضرة النعيم بما أولاهما، وأخصب جانباهما، وجد بهذا كله ثم جد بهذا فطاب الواديان كلاهما، فاقتضى حسن الرأي الشريف أن لايخلو الجهان معاً من نظره الجلي الجميل، وأن يجلو عليه محاسنهما الكاملة ليفارق على وجه جميلٍ وياصل على وجه جميل.
فخرج الأمر الشريف- لازال يختار علياً، ويختال كل غمام يرتضي له ولياً- أن يكون والي الولاة بالوجه البحري جميعه، متفرداً بأفراده ومجموعه، ومحكماً في قبائله وجموعه، وبعيده وقريبه، وبديعه وغريبه؛ وكل ماهو داخل فيه، عائد إلى أعماله وراجع إلى متوليه، على عادة من تقدم وقاعدته فيما يليه، وهي مايذكر من الأعمال: الغربية، الشرقية، البحيرة، المنوفية، إبيار، أشمون، قليوب،. ولاأمر ولانهي إلا إليه راجع، وله في متجددات الأمور مراجع، ولاأربابتصريفٍ إلا وله عليهم تصرف، ولاصاحب جد ولاحد إلا فيه يمضي ويتوقف؛ وتقوى الله تعالى أول مانوصيه بسببها، ونوصله إلى رتبها، وإقامة لشرع الشريف وإدامة مباره وإعلاء مناره، ومعاضدة حكمه وحكامه وأعوانه وأنصاره، والوقوف معه في إيراده وإصداره، وإعلانه وإسراره، والعمل به فإنه مايضل من نشى في ضوء نهاره، وعمارة البلاد، بإدامة العدل وتكميل الري وتزطين السكان وقمع الفساد، واعتماد حكم التذاكر الشريفة لأمر الجراريف التي تعمل، والترع التي تراعى والجسور التي لايقدم جسور على أنها تهمل؛ فهما قانون الري الكامل، والضامن لخصب البر السابل؛ وإذا أجرى الله النيل على عاداته الجميلة لايدع للمحل عيناً حتى وياري بالري سوءته، ويخفف بتيسر وصول حق كل مكان إليه وطأته، ولايدع عالياً إلا مستفلاً، ولامعطلاً إلا معتملاً، ولاطوق بحر إلا تمتد يد النيلإلى زر جيوبه، ولاطائف رمل إلا يطوف طائف شرب على جرعائه وكثيبه، حتى يعم الجميع، ويعمر ربوعها بمتا ينسجه لها من ملابس حلل الربيع. وعليه بالإنصاف بين المساكين، والإنصات إلى الباكين منهم والمتباكين، ووصل أمورهم على الحق الذي نشر الله في أيامنا الزاهرة علمه، ومقتضى الشرع الشريف فإنه ماخاب من أدام عليه حكمه وأدار إليه علمه، وأما أهل الفساد والاشتباه، ومن يحتمي بصاحب شوكةٍ أو يتمسك برب جاه، أو ينزل بلد أمير كبير مستظلاً بذراه، أو ملتجئاً من خوفٍ أو مستطعماً من قرى قراه، فجميع هؤلاء تتبع فرقهم ورفاقهم، وطهر الأرض منهم وامسح بالسيوف أعناقهم؛ واثخن في قتلاهم، وأثقل بالقيود أسراهم، وشدد وثاقهم وكذلك من حماهمه وولاهم، أو استحسن أو من عليهم أو مانع عنهم، أوقال ماهو منهم وهو منهم، وكل أجرهم في الحكم مجراهم، وأطل تحت أطباق الثرى ثواهم، ونبه منهم أناساً على رؤوس الجذوع وأنم آخرين نومة لاينتبهون بها من كراهم، حتى يتأدب بهم كل من أعرض، ويتداوى بمداواته كل من في قلبه مرض. وماأشكل عليك فاسترشد فيه بمطالعة أبوابنا الشريفة: لتجد هدى واضحاً، وحقاً لائحاً؛ ةالله تعالى يجعلك من الممهدين لأرضه، القائمين في أنواع الجهاد بفرضه؛ والاعتماد على الخط الشريف أعلاه.
الجهة الثالثة: درب الحجاز الشريف:
وقد تقدم أنه كان في الزمن المتقدم يكتب عن السلطان تقليد لأمير الركب في الدولة الفاطمية وماتلاها. أما الآن فقد ترك ذلك ورفض كما رفض غيره من الكتابة لأرباب السيوف بالحضرة السلطانية، ولم يبق الآن من يكتب له من ديوان الإنشاء شيء سوى قاضي الركب. وقد جرت العادة أن يكتب له توقيع في قطع العادة مفتتحاً برسم وهذه نسخة توقيع من ذلك، كتب به للشيخ تقي الدين السبكي رحمه الله في مبدإ أمره، وهيك رسم بالأمر الشريف- لازال يعين على البر والتقوى، ويرتاد لوفد الله من يتمسك في نشر الأحكام الشرعية بينهم بالسبيل الأقوم والسبب الأقوى- أن يستقر فلان في كذا: لما اختص به من غزارة علومه، وإفاضة فضائله المتنوعة إلى قوته في الحق وتصمصه؛ فإن مثله من يختار لهذه الوظيفة الجارية بين وفد الله الذين هم أحق ببراءة الذمم، وأولى بمعرفة حكم الله تعالى فيما يجب على التلبس بالإحرام إلى الحرم، وأحموج إلى الاطلاع على جزاء الصيد فيما جوزاء المتعرض إليه مثل ماقتل من النعم، إلى غير ذلك من ثبوت الأهلة التي تترتب أحكام الحج عليها، والحكم في محظورات الإحرام ومايجب على المتعرض إليها،؛ فليباشر هذه الوظيفة في الوقت المشار إليه عادة من تقدمه فيها، مجتهداً في قواعدها التي هي أولى من نهض بها وأحق من يوفيها.
قلت: أما شهود السبيل المعبر عنهم بشهود المحمل، فإنما تكتب لهم مربعات شريفة من ديوان الوزارة.